الحرب الإسرائيلية على غزة هي واحدة من أكثر المواجهات العسكرية غير المتكافئة في تاريخ الحروب في العالم، لأنها بين طرفين متفاوتين جدا، في القدرات العسكرية والدعم الدولي، هما مليونا فلسطيني أعزل ومنسي ومحاصر ويفتقد كل مقومات الحياة والحرب، من جهة، ومن الجهة الأخرى مجموعة من الدول الغنية على رأسها الولايات المتحدة، إضافة إلى مؤسسات سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية وثقافية وفنية عالمية، تختبئ خلف إسرائيل.
في بداياتها، لم تكن إسرائيل دولة مدعومة عالميا على المستويين الرسمي والشعبي إلى الحد الذي نراه اليوم، فقد تطلب ذلك عملية طويلة جدا ومعقدة من الدعاية والتصميم والتخطيط والمثابرة والإصرار، لكنه لم يكن ليتحقق لولا حصولها على أموال ومساعدات وخبرات سخية.
وإلى جانب الولايات المتحدة، دعمت أوروبا، بخاصة بريطانيا وألمانيا، قيام دولة إسرائيل باكرا، وعلى كل المستويات.
روسيا هي الأخرى صديقة لإسرائيل وحليفة دائمة لها، حتى خلال الحقبة السوفياتية، وبرغم أن الاتحاد السوفياتي قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران 1967 وقدم مساعدات عسكرية ضخمة لمصر وسوريا، خلال حروبهما مع إسرائيل، لكن الشيوعيين السوفيات لم يقفوا أبدا على الجبهة المعادية لإسرائيل. وفي أوائل أيام نشأتها، ساد اعتقاد لدى الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، أن إسرائيل يمكن أن تكون قاعدة اشتراكية متقدمة في الشرق الأوسط.
ساد اعتقاد لدى الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، أن إسرائيل يمكن أن تكون قاعدة اشتراكية متقدمة في الشرق الأوسط
مع وصول الرئيس الأميركي ليندون جونسون إلى البيت الأبيض، في الستينات، بدأ الدعم الأوروبي لإسرائيل يصبح ثانيا، ليتقدم الأميركي إلى المقام الأول، ويحقق جونسون ما بات يُعرف بالتفوق العسكري الإسرائيلي، ثم صار وجود إسرائيل والحفاظ على أمنها، جزءا أساسيا من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ودخلت هذه النقطة في صلب عقيدة الرؤساء الأميركيين من بعده، سواء كانوا ديمقراطيين أم جمهوريين.
قبل جونسون، كان الرؤساء الأميركيون يختلفون مع إسرائيل، إلى حد ما، في بعض المقاربات والسياسات، لكن منذ إنذار الرئيس آيزنهاور لإسرائيل بضرورة الانسحاب من سيناء أثناء حرب 1956 لم تتخذ واشنطن أي إجراءات حازمة ضد إسرائيل. وفي ذروة الحرب الباردة حاولت القيادة الأميركية، التقرب من الدول العربية لمنع تمدد النفوذ السوفياتي، لكن الأولوية بالنسبة إليهم، ظلت إسرائيل بلا منازع.
تتلخص السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بالحفاظ على إسرائيل قوية، لتحافظ بدورها على المصالح الأميركية، ليس طمعا في النفط فحسب، بل بسبب الأهمية الجيوسياسية للمنطقة.
في الداخل الأميركي، تحظى إسرائيل بدعم جماعات الضغط أو اللوبي اليهودي، والجمعيات والمنظمات المدنية والأهلية المنتشرة في الولايات الأميركية من أصغرها إلى أكبرها، وقد نجحت مجتمعة، منذ قيام إسرائيل في نشر الدعاية عنها وتقديم صورة شريرة عن الفلسطيني.
وأهم حلفاء إسرائيل في المجتمع الأميركي هم المبشرون الإنجيليون، الذين يؤمنون بـ"هرمجدون"، وهي المعركة المنتظرة بين الخير والشر التي ستمهد لعودة المسيح وإقامة حكمه، ومن شروطها عودة اليهود إلى أرض الميعاد.
تنتخب هذه الشرائح اليمينية بطبيعة الحال، القسم الأكبر من المسؤولين في الإدارات السياسية الكبرى والصغرى وفي السلطة القضائية، وتتحكم عبر مؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية ووسائل إعلامها، بسياسات الولايات المتحدة تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتحدد بالتالي طبيعة العلاقة مع إسرائيل.
أمام هذا الاصطفاف المادي والبشري والمؤسسي الهائل، يقف الشعب الفلسطيني، وحيدا مكشوفا بلا ناصر ولا معين، ويكاد لا يحظى حقيقةً، إلا بدعم عاطفي ومعنوي من شعوب العالم والقوى الشبابية واليسارية والتقدمية والمنظمات الإنسانية، بغض النظر عن العراضات العسكرية التي تقام باسمه.
وليس من قبيل المبالغة القول إن المسؤولية تقع أولا على عاتق الحركة الوطنية الفلسطينية (العلمانية والدينية) المنقسمة على ذاتها وعلى شعبها، التي وللأسف تبين أنها لم تنجح، سواء خلال تجربة الكفاح المسلح أو بعد مفاوضات السلام، في مراكمة علاقات قوة، وبناء إطار سياسي فاعل ينتج مشروعا وطنيا جامعا، يحافظ على تضحيات الشعب الفلسطيني، ويستثمر في تمسكه بحقه في أرضه وحقه في العودة إليها، لخرق الجدار الحديدي الإسرائيلي العالمي.
كذلك أخفقت الحركة الوطنية الفلسطينية ولا تزال، في تنظيم حملات دعائية لجذب التضامن العالمي.
أمام هذا الاصطفاف المادي والبشري والمؤسسي الهائل، يقف الشعب الفلسطيني، وحيدا مكشوفا بلا ناصر ولا معين، ويكاد لا يحظى حقيقةً، إلا بدعم عاطفي ومعنوي
صحيح أنها لا تملك الإمكانات المادية التي تتمتع بها إسرائيل، لكنها تستطيع أن تتعلم الدروس من طريقتها في التنظيم، وأسلوبها في جذب الدعم الجماعي ونشر الرواية المؤيدة لإسرائيل.
وبرغم أن الشعوب الحرة والقوى التقدمية العالمية، لم تبخل في تقديم الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني، لكن استدرار الدموع واستجرار العواطف، عبر "السوشيال ميديا" والتبرعات السخية التي يقدمها فنانون ومفكرون ومشاهير، لا يكفي لانتصار قضية محقة، كذلك المظاهرات الضخمة المؤيدة للشعب الفلسطيني والمناهضة لإسرائيل وحربها على غزة، التي تشهدها عواصم العالم ومدنه الكبرى، إضافة الى حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل، فهذا كله يبقى ضمن إطار المساندة العاطفية الإنسانية، إن لم ينتج عنه قوة سياسية ضاغطة وقادرة على تغيير المواقف.
من نافل القول، إنه لم يعد أمام الحركة الوطنية الفلسطينية، سوى خيار الوحدة ووضع استراتيجية لبناء جبهة سياسية متينة وفاعلة، وتنظيم دعم القوى الحرة في العالم، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لقد مهدت مأساة غزة الأرضية للانطلاق، وفي قرارات محكمة العدل الدولية خير بيان.