من أفلاطون إلى ابن عربي... السفر تجربة فلسفية

خروج داخلي وانفصال مرتبط

getty images
getty images
أفلاطون

من أفلاطون إلى ابن عربي... السفر تجربة فلسفية

"هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه".

أبو حيان التوحيدي

"تغرّبْ عن الأوطان والحال والحق عساك تحوزُ الأمر في مقعد الصدق".

ابن عربي

يقدّم لنا تاريخ الفلسفة عينات مختلفة لعلاقة الفلاسفة بالمكان والتنقّل بين جنباته. من أكثر الفلاسفة شهرة بارتباطه الشديد بالمكان، فيلسوف كونيسبرغ، إيمانويل كانط الذي قيل إنه لم يغادر مدينته إلا يوم ذهب ليتسقّط أخبار الثورة الفرنسية. المقابل المضادّ له في هذا الباب، هو فريدريك نيتشه الذي لم يكن يوقفه عن التنقل إلا المرض الذي يلزمه الفراش. بين هذين المثلين المتناقضين، أصناف متباينة تحدّدت علاقتها بالأمكنة بحسب الظروف التاريخية، وطبيعة الفلسفة المعتنقة.

وإذا سلمنا بأنّ الأسباب التي تدفع إلى السفر، سواء عند الفلاسفة أم عند غيرهم، عندما لا تكون مرتبطة بدوافع سياسية أو دينية أو تجارية، تبقى مخفية بشكل يصعب تحديده، فإننا نستطيع مع ذلك أن نعزوها، بالنسبة إلى الفيلسوف، إلى أسباب متعددة، فقد تكون دوافع ثقافية، من أجل "قراءة كتاب الطبيعة" كما كان يقال، أو سعيا وراء المعرفة والعلم، أو إلقاء لدروس ومحاضرات ومساهمة في ندوات، كما هي حال غالبية الفلاسفة المعاصرين، هذا إن لم تكن "قصد البحث عن آباء جدد"، بهدف الانفصال، رغم أن هذا النوع من التنقل غالبا ما يكون انفصالا واهما، أو، على حدّ تعبير جيل دولوز "انفصالا بثمن بخس"، مهما كانت تكلفته المادية.

لعل التنقّل الدائم الذي شهدته حياة الشيخ الأكبر ليس إلا صدى لذلك الترحال المعنوي

أفلاطون وأرسطو

نعثر على اهتمام فلسفي مبكر بموضوع السفر في الفلسفة الأفلاطونية، وخاصة في الكتاب الثاني عشر من "القوانين"، الذي يُعتبر من أوائل النصوص الفلسفية التي تطرح قضية السفر كـ"مسألة جدية"، وكقضية "من الضروري أن نتخذ فيها موقفا"، وبالأخص كـممارسة تتطلب قواعد وشروطا محددة. هذا الاهتمام نجده أيضا، إنما بدرجة أقلّ، عند الرواقية، التي كانت تنظر إلى الإنسان على أنه "كائن العالم"، كما يتجلى ذلك على وجه الخصوص عند الفيلسوف سينيكا الذي جعل من السفر مسألة إشكالية تستحق المعالجة الفلسفية. الموقف المشترك بين أفلاطون وسينيكا إزاء هذه المسألة هو أنّ السفر يوفّر فقط متعة التغيير الوهمية، لكنه لا يغيّر المسافر، ما دام الإنسان "يسافر دائما برفقة نفسه".

getty images
أرسطو

أما أرسطو، فلم يكن يطرح القضية نظريا. فهو أصلا جاء إلى الفلسفة وإلى الأكاديمية مسافرا، وافدا من خارج أثينا، جاء من مقدونيا، وكان في ما بعد مرافقا للإسكندر في تنقلاته، بل إنه كان يستفيد من تلك الأسفار والتنقلات لتزويد "الموزيُوم" غرائب الكائنات الطبيعية.

ستعرف القرون الوسطى، سواء في عالمنا الإسلامي، أو خارجه، الفيلسوف المتنقل عبر "مكتبة العالم" طلبا للعلم، المرتحل بين الأديرة، والمرتبط بدروس المساجد وبيوت الحكمة وبلاطات الأمراء، وجامعات العالم النادرة آنذاك.

لا ينبغي أن نتصور فيلسوف الأزمنة الحديثة روني ديكارت قابعا أمام مدفأته لا يعرف حراكا. لا ننسى أنه توفي على إثر نوبة صدرية كانت نتيجة المرض الذي أصابه جراء استيقاظه باكرا كي يتنقل عند الأميرة الياصابات ليعطيها دروسا في الفلسفة.

عندما سيصير الفيلسوف أستاذا، سترتبط تنقلاته أساسا بإلقاء محاضراته، سواء داخل بلده أو خارجه. وستتفاقم حمّى الندوات والتنقلات. وسيأخذ الفيلسوف في أسفار لا تتوقف بحيث لن يكف عن التنقل "من أجل الكلام"، كما سيقول دولوز الذي لم يكن يحب إطلاقا تنقلات زملائه التي لا تنتهي "من أجل أن يخوضوا في كلام لا ينتهي".

فلاسفة رحّل

إلا أنّ تلك التنقّلات لم تكن لتخلو من فائدة، ولعل أهمها هبّة فلاسفة أوروبا الهرمة نحو جامعات العالم الجديد. حيث تمكن بعض فلاسفة القارة من أن ينعشوا فكر العالم الجديد، وينتعشوا بفضله. ويكفي أن نذكر أمثلة على ذلك بعض الأسماء، كحنة آرندت وبول ريكور وجاك دريدا وجان بودريار. هذا فضلا عما أدّت إليه تنقلاتهم داخل القارة القديمة نفسها من تلاقح مخصب، لعل أكثره خصوبة تلاقح الفكر الألماني مع الفكر الفرنسي الذي سيعترف كثير من الفلاسفة الألمان بأفضاله عليهم.

من بين الفلاسفة الرحل أولئك الذين يتنقلون خارج إطار البحث والدراسة، والذين يعتبرون السفر في حدّ ذاته "تجربة فلسفية"، وإثراء لتجاربهم الشخصية. يشير غادامر في كتابه "الحقيقة والمنهج" إلى أن "حقيقة التجربة عند هؤلاء تحتوي دائما على إشارة إلى تجربة جديدة".

يذكّرنا هذا المعنى للترحال برحلة ابن خلدون، وبأسفار ابن عربي. فالمعروف أن الشيخ الأكبر سعى إلى أن يجعل من نقاط فكره جميعها مراكز وهوامش في الوقت ذاته. ولعل التنقّل الدائم الذي شهدته حياته التي تميّزت أساسا بالرحلة والسفر، ليس إلا صدى لذلك الترحال المعنوي: "فلا نزالُ في سَفر أبدا من وقتِ نشأتِنا ونشأةِ أصولنا إلى ما لا نهاية له، وإذا لاحَ لك منزلٌ تقولُ فيه هذا هو الغاية انفتحَ عليك منهُ طرائقُ أخر، تزوَّدْتَ منه وانصرَفتَ. فما من منزلٍ تُشرفُ عليه إلاّ ويُمْكنُ أن تقولَ هو غايتي، ثمّ إنّكَ إذا وصَلتَ إليه لمْ تلبثْ أن تخرجَ عنه راحلا".

وهكذا، فبمجرد أن غادر شيخنا موطنه بالأندلس حتى خاض في ترحّل لا يتوقّف، إذ منها انتقل إلى مراكش، فإلى مصر وفلسطين، ثم إلى مكة فالموصل فالقاهرة فتركيا فبغداد، إلى أن استقر بدمشق التي لم يكن ليغادرها إلا لقضاء مناسك الحج. صاحَبت هذا التنقل بين مختلف الأمكنة والأمصار، إقامةُ علاقات مع مختلف الملوك والأمراء، ومصاحبةٌ لكل المستويات، ومعاشرةٌ لجميع الفئات. وما ذلك إلا صدى "موقف" عام من الحياة والأفكار والثقافات. وهو موقف يطبعه الترحال.

يعرف الفيلسوف-الرحّال أن موته في توقفه عن المقاومة وتخليه عن التحدي

التنقّل سكون

على النقيض من الفيلسوف العربي يدعونا جيل دولوز إلى ألا نحاول فهم الترحال والتفكير فيه بدلالة الحركة. فكأنه يطلب منا أن نتفهم أن يكون التنقل سكونا، والانفصال وصلا، والاغتراب ألفة، والهجرة عمارة. كأنه يدعونا أن نهاجر دون أن نبرح مكاننا. فلا أحد في نظره أكثر تعلقا بموطنه من الرحَّال، لأنه لا يفتأ يتحايل كي لا يهاجر. إنه لا يرتحل إلا رغبة في عدم مغادرة موقعه، لا يرتحل إلا انشدادا إلى موطنه وتعلّقا به. إلا أنه يعلم أنّ الانشداد إلى الموطن ليس هبة تعطى، وإنما هو عناء وجهد وصبر ومقاومة. الرحّال يتحدّى المكان ولا يعطيه ظهره، إنه لا "يولّي هاربا". فهو لا يدبر إلا لكي يقبل. ولا يبتعد إلا "في محل قربه". إنه لا ينفصل إلا وصلا واتصالا.

getty images
ابن عربي

ليس ترحال الفيلسوف بالضرورة خروجا وتيهانا وتنقلا سهلا يجر صاحبه إلى أن يسبح في فراغ لا نهائي. وهو ليس رفضا لكل تجذر، ودفعا لكل وحدة، وإنكارا لكل هوية. إنه خروج داخلي، وانفصال مرتبط، وتأصيل متجدّد، وتشتّت موحّد، واختلاف متطابق. انه "سكون بخطى كبيرة". يعرف الفيلسوف-الرحّال أن موته في توقفه عن المقاومة وتخليه عن التحدي. إنه ما ينفك يتجنب الاستقرار البليد، والاستيطان الخامل، والتعلق الرخيص بالثوابت. فهو يؤمن أنه "لا يملك إلا المسافات التي تبعده".

font change

مقالات ذات صلة