الصين تستفيد من السياسة الأميركية في غزة

يبدو أن بكين ليس لديها نية لزيادة رهاناتها على الصراع

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

الصين تستفيد من السياسة الأميركية في غزة

أثر الصراع المرير الدائر في غزة بشكل كبير على الجغرافيا السياسية العالمية. وخلّف عواقب بعيدة المدى على الولايات المتحدة. وبالرغم من وقوف الرئيس الأميركي جو بايدن بثبات إلى جانب إسرائيل، فإنه فشل مرة إثر أخرى في كبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأمر الذي جعل الرئيس الأميركي يبدو ضعيفا وغير فعال. وفي الوقت نفسه، فإن دفاع بايدن القوي عن إسرائيل، بما في ذلك انتقاده مذكرة الاعتقال التي اقترحتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووصْفه لها بأنها "شائنة"، أثار انتقادات من الدول المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، ما أدى إلى مزيد من تآكل مصداقية الولايات المتحدة.

ويسلط تقرير جديد صادر عن "الباروميتر العربي"، وهو استطلاع نصف سنوي يغطي 16 دولة عربية، الضوء على الضرر الشديد الذي ألحقته حرب غزة بسمعة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وأشار مؤلفو الاستطلاع، الذي نشرته مجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs)، إلى أن العقد الماضي شهد زيادة مطردة في شعبية الولايات المتحدة، حيث انتعشت من أدنى مستوياتها بعد غزو العراق عام 2003. ومع ذلك، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، انخفضت هذه الأرقام مرة أخرى. وفي البلدان القريبة جغرافيا من الصراع، كان الانخفاض حادا بشكل خاص. على سبيل المثال، في حين كان لدى أكثر من 50 في المئة من الأردنيين وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة في الفترة التي امتدت بين 2021-2022، انخفضت هذه النسبة إلى 28 في المئة بين عامي 2023-2024. وفي لبنان انخفضت الأرقام من 42 في المئة إلى 27 في المئة.

وفوق ذلك، كانت الصين هي المستفيد الرئيس من خيبة الأمل المتزايدة هذه. ففي الفترة نفسها، ارتفعت الآراء الإيجابية تجاه الصين بشكل كبير، نذكر مثلا ارتفاعها في الأردن من 14 في المئة إلى 34 في المئة وفي لبنان من 10 في المئة إلى 27 في المئة. كما ذكرت ثلاث دول من الدول الخمس التي شملها الاستطلاع مؤخرا أنها تعتقد أن سياسات الصين أفضل لأمن الشرق الأوسط من سياسات الولايات المتحدة.

ولا ريب في أن مثل هذه الأرقام سوف تُبهج بكين وتبرر نهجها الاستراتيجي في التعامل مع حرب غزة حتى الآن: وهو النهج الذي يهدف فيما يبدو إلى استغلال الإحباط الناجم عن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل لتعزيز موقفها في الشرق الأوسط. ويتألف من ثلاثة اتجاهات عريضة. أولا، سعت الصين إلى ربط العنف في غزة بالسياسة الأميركية. وفي الوقت الذي انتقدت فيه إسرائيل، كانت تميل إلى تصوير الولايات المتحدة باعتبارها المسؤولة عن كثير من المعاناة. على سبيل المثال، في الأمم المتحدة خلال شهر مايو/أيار، وجه ممثلو الصين انتقادات شديدة للولايات المتحدة بسبب استخدامها الفيتو ضد منح العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة. وتهدف مثل هذه الاستراتيجية إلى استخدام حرب غزة كي توضح لحلفائها في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة تخدم مصالحها الذاتية ولا يمكن الوثوق بها، بينما في المقابل، تسعى الصين كي تكون حليفا أفضل.

ثانيا، تحالفت الصين علنا مع الدول العربية أكثر مما كانت عليه في الماضي. يعتبر كثير من الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، شركاء تجاريين رئيسين مع بكين، في حين أن جميع الدول العربية، باستثناء الأردن، هي أعضاء في مبادرة الحزام والطريق (تعرف أيضا بـ"طريق الحرير الجديد"، وهي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير من أجل ربط الصين بالعالم).

ومع ذلك، فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ظلت الصين حذرة. ورغم أنها تعترف بفلسطين، فإنها تحظى بروابط اقتصادية وثيقة مع إسرائيل، ما دفعها إلى أن تلتزم جانب الصمت أكثر في انتقاداتها في السنوات الأخيرة. لكن منذ أكتوبر/تشرين الأول تغير هذا الموقف. وفي قمة عقدت في بكين بين الزعيم الصيني شي جين بينغ وزعماء كل من مصر والإمارات والبحرين وتونس في شهر مايو/أيار، استخدمت الصين لغتها الأكثر حدة بخصوص إسرائيل حتى الآن. وفي بيان مشترك سابق بين الصين ووفود من 22 دولة عربية أدانوا بشكل مشترك "عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني". ووصف البيان حرب غزة بأنها "سياسة تجويع وحصار قاتل". ومضى شي في الحديث عن "الرغبة المشتركة في عصر جديد من العلاقات الصينية العربية" وقال إن هذه العلاقات يمكن أن تكون "نموذجا للحفاظ على السلام والاستقرار العالميين".

ارتفعت الآراء الإيجابية تجاه الصين بشكل كبير. في الأردن ارتفعت مثلا من 14 في المئة إلى 34 في المئة وفي لبنان من 10 في المئة إلى 27 في المئة

ثالثا، قامت الصين بتعزيز قدرتها المحتملة على الوساطة. بعد النجاح في التوسط للتوصل إلى انفراج بين إيران والمملكة العربية السعودية عام 2023، عززت بكين موثوقيتها في الوساطة من خلال استضافة الفصيلين الفلسطينيين المتباعدين، "حماس" و"فتح"، لإجراء محادثات المصالحة في مايو. ومن خلال إقدامها على هذه الخطوة، تحاول الصين تقديم نفسها كوسيط أكثر جدارة بالثقة من الولايات المتحدة، التي لعبت دور الوسيط في المنطقة تاريخيا. وفي علامة على أن هذا كان له تأثير إيجابي على بكين، قال متحدث باسم "حماس" لصحيفة "الغارديان" إن الحركة دفعت كي تكون الصين واحدة من الدول الضامنة لأي اتفاق سلام بشأن غزة لأنها لا تثق في واشنطن.
ومع ذلك، فإن إحدى السمات البارزة لاستراتيجية الصين في غزة هي مدى خلوها نسبيا من المخاطر. فالصين لا تصب مواردها في الصراع، بل على العكس تماما. إن استضافة مؤتمرات القمة إما للحلفاء العرب وإما للعناصر الفلسطينية لا تكلف الصين سوى القليل، وهي في الوقت نفسه تعزز صورة بكين كلاعب في الشرق الأوسط. قد يؤدي موقفها الأكثر صرامة تجاه الحرب إلى الإضرار بعلاقاتها مع إسرائيل إلى حد ما، لكن التجارة بين البلدين كانت تتضاءل حتى قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد الضغط الأميركي على إسرائيل للحد من الاستثمارات الصينية. ويبدو أن الصين ليس لديها أي نية لزيادة رهاناتها على الصراع، كإرسال قوات حفظ السلام مثلا. وبدلا من ذلك، فهي تبدو راضية بالسماح للولايات المتحدة بإلحاق الضرر  بمصداقيتها الإقليمية، والاستفادة من التبعات تلقائيا.
تشير نتائج استطلاع "الباروميتر العربي" الأخير إلى أن هذه الاستراتيجية ناجحة. ومثلما هو الحال في أجزاء أخرى من "الجنوب العالمي"، تستغل الصين العداء الذي يتراكم ضد الولايات المتحدة. وكما أفاد المجلس الأطلسي العام الماضي، يبدو أن "جهود بكين الحثيثة" لوضع نفسها في موضع المدافع عن الجنوب العالمي على مدى السنوات القليلة الماضية بدأت تؤتي ثمارها الآن. كما أن الصراع في غزة وتجاهل الولايات المتحدة الواضح لمعاناة الفلسطينيين يعززان رواية الصين للعالم العربي بأن بكين كقوة عظمى شريك أفضل بكثير.

font change

مقالات ذات صلة