غزيون يرفضون النزوح من الشمال إلى الجنوب... ما السبب؟

"المجلة" تتقصى أحوالهم وأسئلتهم

أ ف ب
أ ف ب
فلسطينيون يسيرون بجوار أنقاض المباني ومياه الصرف الصحي المفتوحة، في مخيم جباليا للاجئين، 21 يوليو

غزيون يرفضون النزوح من الشمال إلى الجنوب... ما السبب؟

في 7 يوليو/تموز الحالي، طلب الجيش الإسرائيلي من سكان الأحياء الشرقية لمدينة غزة (حي الشجاعية والتفاح والدرج والبلدة القديمة) النزوح باتجاه غرب مدينة غزة، إذ توقع السكان اجتياح الجيش الإسرائيلي مناطق سكناهم بعد قصف مدفعي وإطلاق نار من الدبابات والطائرات خلال عملية التوغل، الأمر الذي دفعهم إلى التوجه للمناطق الغربية، وبالتحديد إلى منطقة الصناعة وتل الهوى وحي الرمال، إلا أنهم تعرضوا لخداع من قبل الجيش.

تقول شروق (36 عاما)، من سكان منطقة الصناعة، إنها وأسرتها الصغيرة كانوا في منزل شقيقتها القريب من منزلهم وكانت منطقة سكناهم قد اكتظت بالنازحين من شرق المدينة خلال ساعات المساء، ومع دخول ساعات فجر اليوم التالي، سمعوا انفجارات قوية متتالية اهتز على أثرها المنزل الذي يوجدون داخله... "صار قصف شديد ورا بعضه وفي مناطق قريبة لدرجة كانت الشظايا تنزل على البيت ومحيطه، إحنا ما كنا فاهمين إيش بصير ولا حد فاهم".

مع الخوف من اختراق إحدى الشظايا للشبابيك وإصابة أحدهم، اضطرت شروق والآخرون للزحف على الأرض حتى تجمعوا داخل حمام المنزل "كنا 13 شخصا، أنا وماما وبابا، وعيلة أختي وقريب ماما، ما كنا قادرين نتحرك أو نتنفس أو نعمل أي حركة لأكتر من 3 ساعات، بس كنا سامعين صوت دبابة وصلت على باب البيت"، بحسب وصفها لـ"المجلة".

خلال المطالبة الإسرائيلية الأخيرة لسكان غزة بالنزوح جنوبا، لم ينصع لأوامر الجيش سوى عدد قليل ومحدود جدا، لا يتجاوز 20 نازحا بشكل يومي وعلى مدار 4 أيام متتالية

خلال ساعات اضطرار العائلة للاختباء داخل حمام المنزل، توغلت الآليات العسكرية وجنود الجيش الإسرائيلي في منطقة الصناعة وتل الهوى بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار، الناس بغالبيتهم هربوا من منازلهم تحت القصف المدفعي الكثيف وقصف الطائرات الحربية للمنطقة بالأحزمة النارية، إذ استهدفت منازل ومبان سكنية وشوارع ما أدى إلى مقتل عدد من المواطنين في الشوارع وداخل المنازل، بينما هرب آخرون إلى حيث لا يعلمون تحت جنح الظلام وإضاءة الانفجارات نتيجة القصف الإسرائيلي.
ما الذي يحدث؟ ولماذا طالب الجيش سكان المناطق الشرقية لمدينة غزة بالنزوح غربا وبعد ساعات معدودة هاجمهم وتوغل إلى مناطق النزوح التي طالبهم بالنزوح إليها؟ كانت هذه الأسئلة التي يحاول فيها السكان البحث عن إجابة مع اضطرارهم للهرب وبزوغ شمس الصباح، حيث أعلن الجيش عن عملية عسكرية واسعة في الصناعة وتل الهوى وحي الرمال وحي الصبرة وحي النصر، مطالبا السكان بإخلاء تلك المناطق ليكون بذلك قد طالب سكان أكثر من 75 في المئة من مساحة مدينة غزة بالإخلاء إلى جنوب ووسط قطاع غزة حيث أعلن في وقت سابق أنها مناطق تصنف بالمناطق الإنسانية الآمنة.

أ ف ب
مريض السرطان محمد عمار يجلس مع ابنه علاء (14 عاما) في منزلهما الذي دمر جزئيا جراء القصف الإسرائيلي في مخيم جباليا للاجئين وسط قطاع غزة، 21 يوليو

ولا يزال يوجد في مدينة غزة وشمال القطاع، أكثر من 400 ألف نسمة من السكان بعدما اضطر قرابة 700 ألف للنزوح إلى وسط وجنوب القطاع خلال أشهر الحرب العشرة الماضية تحت وقع التهديدات الإسرائيلية والمطالبة بالإخلاء والنزوح المستمر، حيث نزح السكان بشكل جماعي من المنطقة الشرقية من طريق صلاح الدين الذي يربط الشمال بالجنوب، أو من الطريق الغربي شارع الرشيد- البحر- قبل أن يقطع الجيش الطريقين ويضع حواجز أطلق عليها اسم حواجز "نتساريم" وهو الاسم الذي كان يطلق على المستوطنة التي كانت تُقام في المنطقة ذاتها قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2005.
خلال المطالبة الإسرائيلية الأخيرة لسكان غزة بالنزوح جنوبا، لم ينصع لأوامر الجيش سوى عدد قليل ومحدود جدا، لا يتجاوز 20 نازحا بشكل يومي وعلى مدار 4 أيام متتالية، فيما رفضت الغالبية العظمى النزوح جنوبا، بعضهم صمد داخل منزله، إما بسبب انعدام الخيارات وإما بسبب الحصار الإسرائيلي والخوف من النزول إلى الشارع، وآخرون اضطروا للنزوح نحو المناطق الشمالية أو وسط المدينة.

المشي لمسافات طويلة تحت حرارة الشمس الحارقة، أو الإجبار على تجاوز الحواجز الإسرائيلية دفع المئات إلى رفض فكرة النزوح وأطلقوا شعار "مش طالعين"

عائلة شروق، كانت واحدة من العائلات التي اضطرت للخروج بعد حصار استمر لساعات من طريق تسلق الجدار الخلفي للمنزل، والتنقل من منزل لآخر وتسلق الأشجار حتى وصلوا إلى شارع بعيد نسبيا عن منطقة الصناعة "عملت شغلات ما كنت باتخيل أعملها بحياتي، أنط من فوق الحيطان واطلع على الشجر عشان اتنقل من بيت للتاني، وفجأة لقينا حالنا بشارع مش عارفين المنطقة، مشينا حتى لقينا ناس بالشارع وعرفنا إنه وصلنا منطقة الصبرة، ومن هناك طلعنا على وسط المدينة بيت قرايبنا".
رفضت العائلة الخروج والنزوح جنوبا على عكس مطالبات الجيش الإسرائيلي، لعدة أسباب. وتوضح شروق أنهم منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يعتقدوا أن الحرب ستستمر لأشهر طويلة، وفيما بعد أصبح لديهم تخوفات من اجتياز الحواجز الإسرائيلية بسبب تعمد الجيش قتل مدنيين كانوا في طريقهم من الشمال إلى الجنوب، لكنّ لديهم سببا قويا كعائلة لرفض أو عدم القدرة على النزوح، كون والدها كبيرا في السن ويعاني من أمراض مزمنة عدة، منها السرطان والسكر والقلب "بابا مريض وصحتة ما بتتحمل المشي مسافات طويلة وبنخاف نفقده".

رويترز
انفجار بعد غارة جوية إسرائيلية على مبنى سكني في النصيرات بوسط قطاع غزة، 20 يوليو

مثلهم مثل العشرات من العائلات الغزية التي لديها كبار سن ومرضى لا يستطيعون المشي لمسافات طويلة تحت حرارة الشمس الحارقة، أو الإجبار على تجاوز الحواجز الإسرائيلية والتي يطلق عليها الغزيون "حواجز الموت"، ذلك ما دفع المئات إلى رفض فكرة النزوح وأطلقوا شعار "مش طالعين" وهي عنوان الحملة التي قادها عشرات الشبان والشابات على مواقع التواصل الاجتماعي ردا على مطالبات الجيش لهم بالنزوح، والتي كان أحد عرابيها الكاتب والمحاضر الجامعي "يسري الغول".
رفض الغول الذي يقطن في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، النزوح نحو جنوب القطاع منذ بداية الحرب، وذلك على الرغم من تعرض المخيم الذي تبلغ مساحته كيلومتر واحد لإبادة ومسح مساحات واسعة منه وقتل المئات من قاطنيه اللاجئين منذ عام 1948، واضطراره وزوجته وأطفاله الأربعة للنزوح داخل غزة أكثر من 7 مرات منذ بداية الحرب الإسرائيلية الحالية.
يرى الكاتب أنه يقع على عاتقه كواحد من الأدباء والكُتاب مسؤولية أخلاقية في دعم وتعزيز صمود المواطنين... "كيف بدنا نسمح للاحتلال بتهجير الناس واقتلاعهم من منازلهم ومدينتهم ونقف صامتين متفرجين على مساعي إسرائيل بتهجير سكان قطاع غزة إلى الخارج وهو الهدف الذي بدا واضحا منذ بداية الحرب؟"، لذلك كان وآخرون هم من أطلقوا الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "مش طالعين" هدفها تعزيز صمود سكان غزة، وحثهم على عدم النزوح عن طريق "حواجز الموت" إلى مناطق يدعي الجيش الإسرائيلي أنها مناطق إنسانية آمنة لكنه عمليا يتعامل معها بعكس ذلك.

"إسرائيل تمارس القتل والدمار في كافة مناطق ومدن ومخيمات قطاع غزة دون استثناء، الموت موجود في الشمال والجنوب، إذن لماذا نغادر ونقتل في غير منازلنا"

الكاتب والمحاضر الجامعي "يسري الغول"

ويوضح الغول في حديثه مع "المجلة" أنهم لا زالوا في غزة وشمال القطاع، يتلقون بشكل شبه يومي اتصالات من الجيش الإسرائيلي على هواتفهم الشخصية، حيث تطالبهم اسطوانة مسجلة بالإخلاء والنزوح باتجاه جنوب وادي غزة الذي يفصل القطاع إلى شطرين، ويضيف: "رغم تجويعنا وتجويع الناس في شمال القطاع، والقتل وقصف المنازل والمدارس والشوارع ودور العبادة والمستشفيات، فإننا صامدون ولن ننزح حتى لو قصفنا الجيش بقنابل نووية".
ويشير الغول إلى أن إسرائيل تمارس القتل والدمار في كافة مناطق ومدن ومخيمات قطاع غزة دون استثناء "الموت موجود في الشمال والجنوب، إذن لماذا نغادر ونقتل في غير منازلنا؟"، وهو ما اتفق معه الشاب فيصل عبد الرحمن (34 عاما)، وهو من سكان تل الهوى غربي مدينة غزة، وكان قد نزح بداية الحرب مع أسرته إلى بلدة الزوايدة وسط القطاع وبعد 24 ساعة من نزوحهم قرروا العودة إلى منزلهم في غزة، يقول لـ"المجلة": "خلال 24 ساعة قصف الجيش منزلين في المنطقة وكان ممكن حد منا يموت لحظتها، فقررنا العودة للمنزل".

أ ف ب
حنان، (38 عاما)، تغسل الملابس في منزلها الذي دمر جزئيا في القصف الإسرائيلي، حيث تقيم مع أطفالها الستة في مخيم جباليا للاجئين وسط قطاع غزة، 21 يوليو

وبعد عودته وأسرته إلى منزلهم في غزة، اضطر للنزوح مع زوجته وأطفاله إلى عدة مناطق ومنازل داخل المدينة، لكنه يرفض وأسرته النزوح مرة أخرى إلى جنوب القطاع... "حتى في التوغل البري الأخير لتل الهوى والصناعة، اضطرينا نطلع من البيت، لكن ما توجهنا للجنوب، أنا بتابع الأخبار منيح من الأصدقاء هناك ومن القنوات الإخبارية، وحال الجنوب مش أفضل منا، في مجازر وفي قتل وفي دمار".
ويفضل عبد الرحمن إن كان سيفقد حياته هو أو أحد أفراد أسرته، أن يفقدها في منزلهم أو منطقة قريبة من منزلهم "ليش أطلع للجنوب وأسكن في خيمة وحرارة جو الصيف لا تطاق، وفي أمراض منتشرة ومش كل الأدوية والأكل متوفرة هناك، وبالآخر أتعرض للخطر أنا أو حد من أسرتي؟ هيني في غزة قاعد بالبيت، صحيح الظروف صعبة وخصوصا توفير الطعام والدواء، لكن أفضل من النزوح في خيمة"، مشيرا إلى أنه لا يفكر بالنزوح جنوبا مهما اشتد عليهم الخطر أو اقترب منهم الموت.

font change

مقالات ذات صلة