التدافع الدولي يحتدم على أفريقياhttps://www.majalla.com/node/321456/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%81%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%8A%D8%AD%D8%AA%D8%AF%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7
لا يزال النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة، يمر بعملية انتقالية مضطربة، لا تزال نتيجتها النهائية غير واضحة المعالم. ويمكن الحديث عن جملة من السيناريوهات الممكنة، بما في ذلك احتمال العودة إلى نظام ثنائي القطب، تتصدره هذه المرة الصين والولايات المتحدة كقوى مهيمنة، أو نظام متعدد الأقطاب، الذي يبدو أكثر احتمالا. ولكن السمة البارزة لهذه الفترة الانتقالية الفوضوية، على أي حال، هي "صراع القوى العظمى".
وتتنافس الولايات المتحدة والصين وروسيا فيما بينها على التأثير في عملية الانتقال إلى نظام دولي جديد. وفي هذا السياق، تحتل أفريقيا مكانة مهمة. علاوة على ذلك، تتعزز أهمية أفريقيا من خلال المكانة البارزة التي اكتسبتها لدى كل من مجموعة "البريكس" ومجموعة "الدول السبع"، كما يتجلى في إعلان القمة الأخير والذي أعطى أهمية لـ"التعامل مع الدول الأفريقية، بروح الشراكة العادلة والاستراتيجية".
وليس صراع القوى العظمى في أفريقيا بالظاهرة الجديدة، بل كان موجودا لقرون، مع اختلاف الفاعلين والأدوات المستخدمة عبر الزمن. ولقرون عديدة، اقتصر التنافس إلى حد كبير على القوى الاستعمارية الأوروبية، سوى أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين دخلت هذا السباق منذ القرن الفائت. وفي القرن الحادي والعشرين، يبدو أن هذا التنافس قد اشتد.
واليوم، لا يقتصر التنافس على الولايات المتحدة والصين وروسيا التي تتنافس لتعزيز مصالحها في القارة الغنية بالموارد، بل إن هناك الكثير من القوى المتوسطة الأخرى التي تعمل على توسيع مصالحها في أفريقيا أيضا.
ويتجلى الاهتمام المتزايد بأفريقيا من قبل القوى العظمى بشكل واضح في استراتيجيات الأمن القومي الخاصة بكل منها. ونرى ذلك في أحدث استراتيجية للأمن القومي الأميركي الصادرة في سبتمبر/أيلول 2022 والتي أقرت بأن تطور أفريقيا سيكون عاملا رئيسا في تحديد مستقبل العالم والولايات المتحدة في هذا القرن، وأنها أصبحت بشكل متزايد ساحة مهمة لصراع القوى العظمى، الذي يشكل النظام الدولي المتطور.
تواصل الصين ملاحقة استراتيجيتها الرامية إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية في مختلف أنحاء أفريقيا، وهي العملية التي تكتسب الآن أيضا بعدا عسكريا
من جانبه، يعزو المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إلى أفريقيا دورا رئيسا في الهدف الاستراتيجي للصين بـ"إصلاح نظام الحوكمة العالمية". ويمنح مفهوم السياسة الخارجية الروسية الصادر في مارس/آذار 2023 لأفريقيا- كجزء رئيس من الجنوب العالمي– دوراً مهماً في الهدف الاستراتيجي لموسكو المتمثل في إقامة "نظام دولي جديد متعدد الأقطاب".
أبعاد مختلفة
وللتنافس على أفريقيا أبعاد متعددة: سياسية واقتصادية وعسكرية. وعلى الرغم من وجود هذا التنافس منذ أيام الحرب الباردة، فإن الجانب العسكري قد احتل في العقدين الماضيين، ولا سيما فيما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب، مساحة متعاظمة في المنافسة بين القوى العظمى وإلى حد ما مع بعض القوى الوسطى.
وعلى الرغم من أن الغرب ظل القوة المهيمنة في أفريقيا لعدة قرون، فإنه تعرض مؤخرا لسلسلة من النكسات، أهمها في المجال العسكري. وبالفعل، أعلنت الولايات المتحدة إغلاق قاعدتين لها في النيجر، إحداهما بالقرب من نيامي والأخرى في أغاديز، وهي تخطط لاستكمال انسحاب القوات بحلول سبتمبر/أيلول. وفي وقت سابق، سحبت فرنسا قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مما أثار تساؤلات حول قدرتها في الحفاظ على مصالحها العسكرية طويلة المدى في منطقة الساحل.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن روسيا تركز على شمال أفريقيا ومناطقها النائية. وتفيد جملة من التقارير بأن موسكو تعمل على توسيع وجودها في ليبيا والسودان ومنطقة الساحل، وهي تأخذ بذلك مكان الولايات المتحدة في النيجر وتعزز علاقاتها مع الحكومات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو. بالإضافة إلى ذلك، ورد في التقارير أن موسكو قد حصلت بالفعل على اتفاق مع الحكومة السودانية لإنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، بينما تعمل على زيادة التعاون العسكري مع الجنرال حفتر في شرق وجنوب ليبيا. والحال أن روسيا قد تكتسب ميزة استراتيجية كبيرة، إن هي استطاعت أن تعزز هذا الاتجاه.
في هذه الأثناء، تواصل الصين ملاحقة استراتيجيتها الرامية إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية في مختلف أنحاء القارة، وهي العملية التي تكتسب الآن أيضا بعدا عسكريا.
ومن أجل فهم أفضل للتفاعل الحالي بين أفريقيا والقوى الأجنبية، لا بأس في أن نعود قليلا إلى الوراء لنتأمل كيف كانت تسير الأمور. في عام 1884، اجتمعت ثلاث عشرة قوة أوروبية بالإضافة إلى الولايات المتحدة في برلين لاقتطاع الأراضي الأفريقية فيما بينها بغرض استغلال الموارد الغنية للقارة، ولكن سبع دول أوروبية فقط هي التي انتهى بها الأمر إلى الحصول على أراضٍ في أفريقيا. وقد سُميت هذه الفترة، التي استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، بـ"التدافع صوب أفريقيا".
الانشغال بالاستقلال
خلال الفترة المتبقية من القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أفريقيا منهمكة في النضال من أجل الحصول على استقلالها السياسي. وكانت هذه فترة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، فضلا عن ضعف النمو الاقتصادي، حيث تم اختبار مختلف النماذج الاقتصادية والحوكمة بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، حققت فيها بعض النجاح والكثير من الفشل. وفي فترة الحرب الباردة، أصبحت أفريقيا أيضا ساحة معركة للمنافسة بين الشرق والغرب، الأمر الذي أعاق القارة عن تحقيق إمكاناتها الكاملة.
لدى الصين وفرنسا آليات متعددة الأطراف لتعزيز علاقاتهما مع أفريقيا، بينما تطمح روسيا والبرازيل إلى استخدام مجموعة "بريكس" لتعميق علاقاتهما مع القارة
بدأت حظوظ أفريقيا في التحسن تقريبا مطلع القرن الحالي بعد فترة من الاستقرار السياسي، الأمر الذي عزز بشكل كبير ناتجها المحلي الإجمالي الجماعي إلى أكثر من 3 تريليونات دولار، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بمقدار خمس مرات.
فإذا أخذنا بالحسبان الاحتياطيات الكبيرة من النفط والغاز التي تمتلكها القارة وما يقرب من 30 في المئة من الموارد المعدنية الحيوية في العالم، إلى جانب تنامي السكان المتوقع أن يصل إلى 40 في المئة من الإجمالي العالمي بحلول نهاية القرن، فلن يكون من المستغرب إذن تنامي الاهتمام الدولي بالقارة، والذي يمكن أن نصفه بإنصاف: "التدافع الثاني صوب أفريقيا".
بيد أن التدافع في هذه المرة يمتد إلى أبعد من مجرد استغلال الموارد الطبيعية في أفريقيا، مثل معادنها والأراضي الصالحة للزراعة الشاسعة غير المستغلة، ليشمل أيضا الوصول إلى أسواقها، وقوة العمل، وطرق التجارة على طول الخطوط البحرية الرئيسة بين آسيا وأوروبا.
وعلى النقيض من التدافع الأول، الذي هيمنت عليه القوى الأوروبية، فإن التدافع الثاني يشمل مجموعة متنوعة من اللاعبين. وبالإضافة إلى القوى الأوروبية التقليدية مثل فرنسا والمملكة المتحدة، اللتين لا تزالان تحتفظان بمصالح كبيرة في القارة، أصبحت الصين والولايات المتحدة وروسيا أيضا من اللاعبين الرئيسين. وأبدت دول أخرى، مثل اليابان والهند والبرازيل وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وحتى إيران، اهتماما متزايدا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من البلدان الأفريقية، بما في ذلك مصر والجزائر والمغرب ونيجيريا وجنوب أفريقيا، لديها سياسات إقليمية نشطة تهدف إلى حماية مصالحها القارية. كما أبدت المنظمات الإقليمية، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، اهتماما كبيرا بأفريقيا على مدى العقود الماضية.
أساليب مماثلة
يستخدم جميع اللاعبين الخارجيين الرئيسين أساليب مماثلة لنشر نفوذهم في أفريقيا، سوى أن التركيز يختلف من بلد إلى آخر. وينصب التركيز المشترك بين جميع هؤلاء اللاعبين على الأدوات الاقتصادية والمالية، بيد أن بعضها يستخدم أيضا العلاقات العسكرية والثقافية لتعزيز نفوذهم في القارة. فقد أنشأت فرنسا، والصين، وروسيا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليابان، وتركيا، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية آليات ثنائية مع البلدان الأفريقية التي تجتمع على مستوى القمة.
ولدى الصين وفرنسا أيضا آليات متعددة الأطراف لتعزيز علاقاتهما مع القارة– الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق (BRI)، وفرنسا من خلال المنصة الفرنكفونية- بينما تطمح روسيا والبرازيل إلى استخدام مجموعة "بريكس" لتعميق علاقاتهما مع أفريقيا.
في عام 2017، وقعت السعودية عقدا لبناء قاعدة عسكرية في جيبوتي. وتتمتع الإمارات بمنشآت عسكرية في ميناء عصب بإريتريا وبربرة بأرض الصومال
ونتيجة لذلك، اتخذت التجارة مع أفريقيا مسارا تصاعديا. ويـــبـلغ حــجــم تـجارة أفريقــيــا مع الاتـــحاد الأوروبي والــصــين والولايــــات المتحدة والهند واليابان والبرازيل وتركيا وروسيا حاليا 295 مليار دولار، و254 مليار دولار، و89 مليار دولار، و65 مليار دولار، و34.5 مليار دولار، و24 مليار دولار، و21.3 مليار دولار، و17.7 مليار دولار، على التوالي.
ويشكل الاستثمار الأجنبي المباشر بعدا هاما آخر في علاقات أفريقيا مع العالم الخارجي. وتمتلك كثير من الدول استثمارات كبيرة، لعل أكبرها استثمارات الصين والاتحاد الأوروبي. وفي الأعوام الأخيرة قُدمت تعهدات بمزيد من الالتزامات الاستثمارية، فتعهد الاتحاد الأوروبي بمبلغ 150 مليار دولار، والولايات المتحدة بـ50 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، فيما قدمت الصين تعهدا بـ40 مليار دولار، واليابان 30 مليار دولار. أما استثمارات الهند التراكمية بقيمة 73.9 مليار دولار في الفترة من 1996 إلى 2021 فتجعلها من بين أكبر خمسة مستثمرين في أفريقيا. ونفذت شركات المقاولات التركية مشاريع بقيمة 77.8 مليار دولار. أما روسيا فلا يزال استثمارها في القارة ضئيلا، وهو دون نسبة واحد في المائة من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى القارة.
أما دول مجلس التعاون الخليجي (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بشكل رئيس) فهي رابع أكبر مستثمر على مستوى العالم في أفريقيا، وتقع معظم استثماراتها في شمال وشرق أفريقيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا، في مجالات الأعمال الزراعية والاتصالات والطاقة والتعدين والموانئ.
التعاون العسكري
وتستخدم القوى العظمى، وبدرجة أقل بعض القوى الأخرى التي لها مصالح في أفريقيا، التعاون العسكري كأداة إضافية لتعزيز علاقاتها مع القارة. ويأتي التعاون العسكري في الغالب على شكل صفقات لبيع الأسلحة والتدريب ومكافحة الإرهاب. وقد تجاوزت مبيعات الأسلحة الصينية والروسية إلى أفريقيا، في الفترة بين عامي 2018 و2022، مبيعات الغرب، وشكلت مبيعات الصين وروسيا 50 في المئة، بينما اكتفت الولايات المتحدة بـ16 في المئة، وفرنسا بـ7.6 في المئة. وتعد البرازيل وتركيا والهند من الوافدين الجدد كمصادر للأسلحة.
وقد ركزت الصين في المقام الأول على مصالحها الاقتصادية، وقصرت تعاونها العسكري على المشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ولكنها في السنوات القليلة الماضية وسعت مصالحها من خلال تصدير الأسلحة وإنشاء قواعد بحرية، بما في ذلك واحدة في جيبوتي، ويقال إنها قامت ببناء أخرى في غرب أفريقيا، في غينيا الاستوائية.
ويشمل التعاون العسكري للولايات المتحدة بيع الأسلحة ودعم جهود مكافحة الإرهاب في الدول الأفريقية. ولكن مكانة واشنطن تعرضت في الآونة الأخيرة لانتكاسة كبيرة عندما اضطرت إلى إغلاق قاعدة الطائرات دون طيار في النيجر، والتي كانت بالغة الأهمية لعمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
وفي المقابل، رسخت روسيا علاقتها العسكرية مع الدول الأفريقية من خلال الأنشطة الأمنية ومكافحة الإرهاب، وجرى ذلك بشكل أساسي من خلال مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية، ليحل محلها "الفيلق الأفريقي" المنشأ حديثا. وفي الآونة الأخيرة، عززت روسيا تعاونها العسكري مع الجنرال حفتر في شرق وجنوب ليبيا وتوصلت إلى اتفاق مع الحكومة السودانية لتدشين قاعدة عسكرية على البحر الأحمر. وفي أوائل أبريل/نيسان، وصل نحو 100 مدرب روسي ونظام دفاع جوي إلى النيجر، ليحلوا على ما يبدو محل نظام أميركي.
أما فرنسا، التي حافظت منذ الستينات على وجود عسكري كبير في أفريقيا من خلال اتفاقات التعاون الدفاعي والعسكري مع كثير من الدول الأفريقية. فقد بدأت تعاني في الآونة الأخيرة من سلسلة من الانتكاسات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مما أدى إلى انسحاب قواتها من منطقة الساحل المضطربة.
وفي الآن عينه، تحافظ المملكة المتحدة على اتصالات قوية مع الضباط العسكريين الأفارقة، في المقام الأول من خلال رعاية حضورهم دورات عسكرية في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية والكلية الملكية للدراسات الدفاعية.
اهتمام عربي
كما بدأت البرازيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا والهند في إضافة بعد عسكري لعلاقاتها مع أفريقيا. وفي عام 2017، وقعت السعودية عقدا لبناء قاعدة عسكرية في جيبوتي. وتتمتع الإمارات بمنشآت عسكرية في ميناء عصب بإريتريا وبربرة بأرض الصومال. ولتركيا أيضا قاعدة عسكرية في جيبوتي. أما الهند فتساهم بشكل كبير في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
وإضافة إلى العلاقات العسكرية، تُستخدم العلاقات الثقافية أيضا، وخاصة في مجال التعليم، لنشر النفوذ. وكانت فرنسا والمملكة المتحدة قد استثمرتا بكثافة في توفير التعليم للأفارقة. وقد درس مئات الآلاف من الأفارقة، منذ استقلال دولهم، في الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، كما تعلم عدد كبير آخر منهم في جامعات الاتحاد السوفياتي ولا يزال بعضهم يواصل الدراسة في روسيا.
تشكل أفريقيا معضلة صعبة لأوروبا. وقد أدت الهجرة غير الشرعية من القارة إلى تغذية النزعات المعادية للأجانب وساهمت في تزايد الدعم للأحزاب اليمينية في كثير من البلدان الأوروبية
وقد أثرت هذه العلاقات الاقتصادية والعسكرية والثقافية بشكل واضح على مواقف الدول الأفريقية بشأن القضايا الدولية، وخاصة تلك التي تهم القوى العظمى. على سبيل المثال، حتى وقت قريب، كان بوسع فرنسا أن تعتمد على أفريقيا الناطقة بالفرنسية لدعم أجندتها السياسية. لكن مع التطورات الأخيرة في منطقة الساحل، يبدو أن فرنسا بدأت تفقد نفوذها.
وتجلى الموقف المستقل للدول الأفريقية خلال الأزمة الأوكرانية، حين آثر كثير من البلدان الأفريقية عدم الانحياز إلى أي طرف في التنافس بين القوى العظمى.
وكمقارنة بين فترتي التدافع نحو أفريقيا، فقد استمر التدافع الأول نحو أفريقيا لعقدين من الزمن، وبعد ذلك أصبح الاهتمام بالقارة متقطعا، اعتمادا على الكيفية التي قررت بها القوى الخارجية تأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية. أما التدافع الثاني، والذي بدأ مع قدوم القرن الحادي والعشرين، فقد يثبت أنه أكثر تماسكا واستدامة، لأنه لم يعد طريقا ذا اتجاه واحد في الأساس.
ولئن اختلفت الظروف والأدوات التي تستخدمها القوى الخارجية، فإن الأهداف العامة تظل نفسها إلى حد كبير، بما في ذلك تسخير الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تتمتع بها أفريقيا. لكن هذه المرة لن تكون محصلة اللعبة صفرا، ولن تكون المكاسب التي تحققها دولة أو قوة ما تأتي على حساب دولة أو قوة أخرى، فقد حققت البلدان الأفريقية تقدما كبيرا في مجال الاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية، والتعاون الإقليمي. وهم مجهزون بشكل أفضل للتفاوض والاستفادة من مواردهم ومواقفهم الاستراتيجية لتحقيق مصالحهم الوطنية والجماعية.
والآن، لم تعد أفريقيا مجرد الطرف المتلقي، بل بات لها تأثير مهم على القوى العظمى والكبرى والصاعدة، وخاصة أوروبا. ويأتي تأثير أفريقيا من موارد الطاقة والثروات المعدنية والهجرة. وتعتبر الطاقة والثروة المعدنية عنصرين أساسيين في المنافسة بين القوى العظمى. وقد اكتسب التنافس على إمكانات الطاقة في القارة أهمية إضافية كمصدر بديل للغاز والنفط الروسي، وخاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
علاوة على ذلك، مع تزايد الهجرة الأفريقية إلى أوروبا، تترك الثقافة الأفريقية أثرا كبيرا على البلدان المستقبلة، وخاصة في ميداني الفنون والرياضة. والأهم من ذلك أنها تعيد تشكيل السياسة.
المعضلة الأفريقية
ولكن أفريقيا– من جانب آخر– تشكل معضلة صعبة بشكل خاص بالنسبة لأوروبا. وقد أدت الهجرة غير الشرعية غير المنضبطة من القارة إلى تغذية النزعات المعادية للأجانب وساهمت في تزايد الدعم للأحزاب اليمينية في كثير من البلدان الأوروبية. وفي الوقت نفسه، تحتاج أغلب الدول الأوروبية، التي تعاني من الشيخوخة السكانية وتناقص عدد السكان، إلى شغل عدد متزايد من الوظائف للحفاظ على مستوى معيشتها. الجواب هو الهجرة، ولكن يجب أن تكون قانونية، بحيث لا تسمح إلا للمهاجرين من ذوي التعليم العالي والذين يتمتعون بالمؤهلات المطلوبة، مثل الأطباء والمهندسين والعمال ذوي المهارات العالية.
وثمة أمور أخرى تحتاج إلى دمج أفريقيا بقوة في الجهود العالمية، مثل التهديدات العابرة للحدود الوطنية للنظام العالمي، كتغير المناخ، والإرهاب، والأوبئة.
تواجه الولايات المتحدة نصيبها من التحديات، بما في ذلك كيفية التوفيق بين التزامها بنشر الحكم الديمقراطي والحاجة إلى التعامل مع الحكومات الأفريقية كما هي
لقد أدت الأحداث الأخيرة في أفريقيا إلى زيادة الاهتمام العالمي بالقارة، وهذا نتيجة مباشرة لسلسلة الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل التي بدأت عام 2020 في مالي، وما تلاها من انقلابات في بوركينا فاسو وتشاد وغينيا والنيجر والسودان والغابون. وتثير هذه الأحداث تساؤلات حول المسار السياسي المستقبلي الذي قد تتخذه أفريقيا، ولا سيما إذا كانت القارة تتحرك نحو إنشاء كتلة حرجة للأنظمة التي يقودها الجيش والتي يمكن أن تكون بمثابة ثقل موازن للحكومات المدنية، ما سيؤدي إلى تقويض الإجماع الذي تم التوصل إليه في الاتحاد الأفريقي حول رفض الانقلابات العسكرية في القارة.
وما أعطى تلك الانقلابات أهمية أكبر حقيقة أنها وقعت خلال فترة اكتسبت فيها الصين وروسيا أفضلية، وإن كانت طفيفة، على الولايات المتحدة من حيث الشعبية بين الدول النامية الممتدة من قارة أوراسيا إلى شمال وغرب أفريقيا. وفي حين تدعم الولايات المتحدة الحكم المدني والحكومات الديمقراطية، فإن الصين وروسيا تشعران براحة أكبر في التعامل مع الأنظمة التي يقودها الجيش. وسيكون لهذه الديناميكية على الأرجح أثر على المنافسة المستمرة بين القوى العظمى وتشكل النظام الدولي.
وينظر المسؤولون الأفارقة بأغلبية ساحقة إلى دور الصين في أفريقيا بشكل إيجابي، ويرحبون بعدم تدخل الصين في شؤونهم الداخلية ومساهماتها في تحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يطمح بعض الأفارقة إلى تكرار التنمية الاقتصادية السريعة في الصين ويعتقدون أن دولهم يمكن أن تستفيد من تجربة الصين الأخيرة في انتشال نفسها من الفقر.
وفي الوقت الحالي، تتمتع الصين بأكبر حضور في أفريقيا، ويمكن القول إنها صاحبة التأثير الأكبر. ومع ذلك، فإنها لا تزال تواجه تحديات، تتعلق في المقام الأول بالاتهامات بخلق "فخ ديون" للدول الأفريقية.
روسيا بدورها شريك جذاب بالنسبة للدول الأفريقية، تُعَد روسيا نظرا لما تمتلكه من ثروة من الخبرة الفنية، ونهجها غير المشروط في التعاون، ومكانتها العالمية تعد ثقلا موازنا للغرب. غير أن روسيا تواجه تحدياتها الخاصة، تحديدا فيما يتعلق بالاستثمارات والمساعدات المالية والتنموية. ولمعالجة أوجه القصور هذه، تسعى روسيا إلى تعزيز جهودها من خلال إشراك الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومجموعة "بريكس".
صعود العسكر
ويأتي صعود الأنظمة العسكرية، والتي يخضع الكثير منها لعقوبات من قبل الدول الغربية، ليعطي فرصة ذهبية لروسيا لتوسيع نفوذها في القارة. وكثيرا ما تعارض هذه الأنظمة العسكرية السياسات الغربية وتعطي الأولوية لمكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن. وتتماشى هذه المشاعر المعادية للغرب والتركيز على الأمن بشكل جيد مع المصالح الروسية، مما يجعل هذه الأنظمة أكثر انفتاحا على الدعم والتعاون الروسي.
وتواجه الولايات المتحدة أيضا نصيبها من التحديات، بما في ذلك كيفية التوفيق بين التزامها بنشر الحكم الديمقراطي والحاجة إلى التعامل مع الحكومات الأفريقية كما هي. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين عليها أن تتغلب على خيبة الأمل الناجمة عن الوعود التي قدمتها خلال القمة الأميركية الأفريقية الأولى دون أن توفِ بها، وخاصة فيما يتعلق بتشجيع الشركات الأميركية الخاصة بالتغلب على ترددها في الاستثمار داخل أفريقيا.
سوف يستمر اللاعبون الرئيسون الآخرون في السعي وراء مصالحهم في أفريقيا، لكنهم لن يتمكنوا من التنافس مع القوى العظمى
وفي حين تتمتع كل من الصين وروسيا بميزة على الغرب من حيث إن دعمهما الاقتصادي والسياسي والعسكري لا يترافق بشروط، فإن الغرب يمتلك ميزة حاسمة تتمثل في أن النخب الأفريقية ترتبط به بشكل وثيق من خلال التعليم.
ورغم أن عددا كبيرا من الأفارقة درسوا في الاتحاد السوفياتي ويتابعون اليوم دراستهم في روسيا، ويشكلون بذلك جزءا من النخبة في المجتمعات الأفريقية، فإن أعدادهم لا تقترب من أعداد الذين درسوا في الغرب. ونتيجة لهذا فإن النخب الأفريقية، رغم أنها قد لا تفضل المواقف السياسية الغربية في كثير من القضايا، فإنها تظل أكثر ميلا نحو الغرب، ثقافيا على الأقل.
وفي الوقت نفسه، سوف يستمر اللاعبون الرئيسون الآخرون في السعي وراء مصالحهم في أفريقيا، لكنهم لن يتمكنوا من التنافس مع القوى العظمى. ومع ذلك من الخطأ الاستهانة بدورهم، لأن بإمكانهم أن يشكلوا مصدرا بديلا لدعم الدول الأفريقية، التي قد تستغل هذه العلاقات لإدارة علاقاتها مع القوى العظمى والكبرى.
وبينما يعلق اللاعبون الأجانب توقعات متزايدة على علاقاتهم مع أفريقيا، فإن البلدان الأفريقية بدورها، لديها تطلعات طموحة للفوائد التي تأمل في تحقيقها من المنافسة بين هذه القوى. إن التفاعل بين هذه التوقعات والتطلعات قد يحدد مستقبل أفريقيا.
ويمكن القول اختصارا إن التدافع صوب أفريقيا سوف يستمر، وربما يشتد في العقود المقبلة. وسيكون التحدي الذي يواجه أفريقيا هو كيفية تحويل هذه المنافسة لصالحها.