"أترك العالم خلفك"...

"أترك العالم خلفك"...

تذكّر العالمُ يوم الجمعة الماضي الفيلم السينمائي الذائع الشهرة، "أُترك العالم خلفك" (Leave The World behind)، للمنتج والمخرج السينمائي المبدع سام إسماعيل، الأميركي من أصول مصرية، وذلك على إيقاع اليوم التكنولوجي الأسود، الذي استيقظ فيه العالم على عطل تقني نجم عن "خطأ" في تحديث أحد برامج التكنولوجيا، وأدى إلى تأخير آلاف رحلات الطيران أو إلغائها، وإقفال مطارات، وإلغاء المواعيد الطبية وآلاف العمليات الجراحية، وتوقف الخدمات المصرفية والمالية، وبعض منصات التداول ووسائل الإعلام حول العالم، وكذلك وسائل النقل كمحطات القطارات، ومرافئ الشحن.

الفيلم النبوئي المثير الذي لم تمض سنة على عرضه للمرة الأولى على شاشة "نتفليكس"، يروي كيف أن طاقم التمثيل، وفي مقدمه أماندا (تؤدي دورها جوليا روبرتس، وزوجها كلاي (يؤدي دوره إيثان هوك)، إلى ماهرشالا علي وميهالا هيرولد وكيفن بيكون، عاشوا هول الكارثة الناجمة عن الخلل البنيوي الذي ضرب بنى التواصل، ولا سيما الهواتف والتلفزيونات والشاشات والرادارات والآلات وغيرها من التقنيات التكنولوجية الحديثة.

وها إن الخطأ التقني يقع فعلا وحقا، ويتمدد من خوادم "حوسبة سحابية" الى مئات مليارات الحواسيب ما وراء البحار، ليثير الرعب من احتمال نهاية العالم. وقد تسبب هذا العطل في حدوث ترددات واضطرابات شديدة طاولت العديد من الدول في أقاصي الأرض، بما في ذلك أوستراليا ونيوزيلندا واليابان والهند والمملكة المتحدة. وقد نال العطل لساعات من برامج الخدمات الصحية الوطنية في لندن، حيث انقطع تواصلها الالكتروني مع الصيدليات مما أدى إلى اضطراب عمليات توزيع الأدوية للمرضى كالمعتاد.

البرنامج الذي تسبب تحديثه في شل أكثر القطاعات حيوية في العالم، لم يكن برنامجا عاديا، بل هو تابع لشركة "كراود سترايك" التي تُعرف بخدماتها الحرفية في مكافحة الهجمات السيبرانية، وكان تأثيرها الأشد وقعا على أنظمة برنامج "مايكروسوفت ويندوز"، التي تشغل نحو 72 في المئة من الحواسيب حول العالم! من هنا يمكننا تخيل فداحة الأمر.

الخطأ التقني الذي قيل إنه حصل "يفضح" مدى اعتماد المطارات والمستشفيات والمصارف والأسواق والاقتصاد العالمي على حفنة من شركات التكنولوجيا الكبرى لتشغيل البنية التحتية الحيوية 

يذكّر هذا "الانهيار" التكنولوجي العالمي، كما وصفته صحيفة "إيفينيغ ستاندارند" البريطانية في اليوم نفسه، بمدى اعتماد العالم على التكنولوجيا والإنترنت، من الطائرات في السماء الى كومبيوترات غرف الطوارئ والعمليات الجراحية. 

وقد يكون القطاع التجاري من أكبر المتضررين، بعدما أُدخلت التقنيات الحديثة على سلاسل التوريد لتحسين إدارة المخزون وتنسيق الشحن والخدمات اللوجستية واتخاذ القرارات وتبادل المعلومات، مما جعله أكثر كفاءة وشفافية، ولكن على حساب تدارك أخطار قد لا تكون متكررة، ولكن قاتلة في حال حدوثها. 

جرس إنذار جدي

والأخطر، أن الخطأ التقني الذي قيل إنه حصل "يفضح" مدى اعتماد الاقتصاد العالمي والمصارف على حفنة من شركات التكنولوجيا الكبرى لتشغيل البنية التحتية الحيوية من جهة، ومدى تداخل خدمات الحوسبة السحابية والإنترنت بعضها ببعض من جهة أخرى، وما يشكله هذا الواقع من نقاط ضعف في النظام العالمي ككل، يجسدها خير تجسيد فيلم "أترك العالم خلفك".

المقلق أن هذا كله حدث في وقت لا يزال العالم يختبر أداء روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي وفاعليتها للعمل وحدها

لا بد أن يشكل حدث التاسع عشر من يوليو/تموز الجاري، جرس إنذار جديا لإعادة النظر في المسار الذي يتخذه التطور التكنولوجي الفائق السرعة من دون أي ضوابط جدية. ولا بدّ، مع تأثر خط الطوارئ 911 في الولايات المتحدة، من توفير أنظمة بديلة لخدمات الحوسبة السحابية، أو وجود خطط طوارئ للسيطرة على البيانات ولحصر الأضرار. لا تقتصر الخسائر على الجانب المالي وعشرات المليارات التي سجلتها الجهات المتضررة من وقف الأعمال وتوقف الانتاج، بل هناك ما هو أهم ويتعلق بحياة الناس، كحال المرضى في المستشفيات الذين لم يحصلوا على الرعاية المناسبة في الوقت المناسب، فيما واجه بعضهم الموت.   

كبسة زر

المقلق في الأمر، أن هذا كله حدث في وقت لا يزال العالم يختبر أداء روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي وفاعليتها للعمل وحدها، بالتوازي مع تعلق الغالبية الساحقة من الناس بالمشهد الوردي الذي يرسمه "تشات جي. بي. تي." من خلال الاستجابة إلى طلبات مستخدميه بكبسة زر. السؤال الأول الذي يتبادر إلى الأذهان، أليس هناك كبسة زر ذكية تستطيع أن تتدارك وقوع الأعطال الطارئة، أو المميتة مستقبلا، أو أن توقف النزيف قبل وقوع الواقعة؟ 

المفاجأة غير السارة هي أن العديد من الخوادم وأجهزة الكومبيوتر لا تزال في حاجة إلى الإصلاح يدويا، مثل إعادة التشغيل (reboot) 15 مرة متتالية، على ما نصحت به "مايكروسوفت"! علما أن لدى العديد من المؤسسات المتضررة، ملايين من هذه الأجهزة المنتشرة حول العالم. فهل آن الأوان لندرك أن المجتمع الحديث القائم على المعلومات يرتكز على أسس هشة للغاية؟ 

يبدو أن العالم لم يتعلم شيئا من الجائحة للأسف، حيث لا يزال الخطر داهما، وحيث من المحتمل أن يُترك الإنسان إلى مصيره ذات يوم في مواجهة "الروبوتات القاتلة" عند أي مفترق

من المفيد جدا أن نتذكر استقالة عرّاب الذكاء الاصطناعي، جيفري هينتون، من "غوغل"، العام الماضي، وتحذيراته مع أقرانه، من مثل يوشوا بنجيو ونيك بوستروم وغيرهما.

إقرأ أيضا: الروبوت أم العقل من يتحكم بالاقتصاد والانسان؟

المشهد العام الذي خلفته واقعة "كرواد سترايك"، يعيد إلى الذاكرة العجز العالمي أمام جائحة "كوفيد-19" التي عزلت أفراد العائلة الواحدة بعضهم عن بعض، وولدت حالا من الذعر حيال الآخر حتى ظهور اللقاح، الذي تكشف لاحقا عن فضائح في خصوصه، هو الآخر، فيما لا يزال الكوكب يجرجر ذيول خسائره الاقتصادية والمالية المجلجلة الى اليوم.

يبدو أن العالم لم يتعلم شيئا من الجائحة للأسف، حيث لا يزال الخطر داهما رغم كل التقدم التكنولوجي الذي يجري التوصل إليه في كل لحظة، وحيث من المحتمل أن يُترك الإنسان إلى مصيره ذات يوم في مواجهة "الروبوتات القاتلة" عند أي مفترق. وإذا كان من عبرة، فإن على البشر أن يتواضعوا قليلا ويستعدوا لمواجهة الحقيقة التي فحواها أن ما يصنعونه يبقى محدودا وخطيرا الى درجة الفناء وفي آن واحد.

font change