المنصات الاجتماعية... تعبير أقصى عن الانغلاق على الذات

دراسات تحذر... الوحدة قد تصبح جائحة القرن الحادي والعشرين

 Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

المنصات الاجتماعية... تعبير أقصى عن الانغلاق على الذات

ليس تراكم الكيلوغرامات في الجسد، والتجاعيد في الوجه وصعوبة التخلص منهما، الميزات الوحيدة للتقدم في السن. هناك أيضا، إن كنا قد نجونا من الزهايمر، فقدان القدرة على تذكّر نوع العلاقات البشرية في زمن قد يخالُه البعض ماضيا سحيقا، زمن سابق لتكنولوجيا الاتصالات الجديدة ومختلف عن حياة اليوم، فلقد غيّرت التكنولوجيا العلاقات بين البشر وستغيرها دوما.

هكذا عوّض التلفزيون الحكواتي واستُبدلت ليالي السّمر بآلة تفرض صوتها وآراءها على العائلة، وهكذا أيضا غيّبت الهواتف الجوالة زمنا كان فيه الشبان والفتيات يتحايلون على أهلهم ليتصل بعضهم ببعض في الوقت المناسب بعيدا عن الرقيب، ثم هكذا أيضا جاءت الهواتف الذكية لتغوص بكل منا في عالم منفرد ومستقل وتُودي بسهرات الأسرة أمام التلفزيون.

سهّلت الهواتف الذكية كتابة الرسائل النصية واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي واستحدَثت الرسائل الصوتية، والنتيجة مفارقة غريبة: أصبح التواصل بين البشر متواترا وقليلا في الآن نفسه، فهو متواتر لأن الشروع في دردشة مع أحدهم أو إحداهن أصبح يسيرا إما إثر لقاء في الواقع أو إثر لقاء افتراضيّ، إذ إن هناك من تتشكل بينهم علاقات صداقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هنالك أيضا ذلك الكم الهائل من العلاقات العاطفية التي تبدأ في العالم الافتراضي، وعلى الرغم من أن بعضها قد يكلل بالنجاح، فإن أغلبها يفضي إلى تواصل هشّ بين من هو في توق دائم إلى استكشاف شخص جديد لمضاعفة حظوظه في لقاء الحب الكبير، ومن هو في بحث دائم عن "شخص/لعبة" للترويح عن نفسه.

تشير دراسة أميركية صدرت سنة 2015 إلى وجود أدلة اليوم على أن الوحدة تزيد من خطر الوفاة أكثر من السمنة

لكن في الوقت نفسه صار التواصل قليلا أيضا لأن الرسائل النصية والصوتية تخوّل لمن يرسلها أن يكتبها متى أتيح له بعض الوقت، ولمن يتلقاها أن يقرأها متى تسنّى له ذلك، ثم أن يرد عليها متى أسعفه الحظ، وفي الأثناء سيتلقى المرسل ويكتب المتلقي عشرات الرسائل الأخرى لعشرات المرسلين- المتلقين الآخرين. وفي النهاية، بات التواصل بين البشر أشبه بخط متقطع.

في زمن سابق، كان الناس يتواصلون عبر الهاتف السلكي ويقضون بعض الوقت متسمرين في مكانهم لأنه لم يكن بالإمكان نقل الهاتف من مكان إلى آخر، وكانت المكالمة تستوجب الإمساك بالسماعة ووضعها على الأذن فلا يمكن فعل أي شيء آخر في الوقت نفسه، فيولي كلٌّ من المتخاطبيْن الآخر انتباهه الكامل لوقت معين، ثم يغلق الخط وينصرف إلى حياته.

لقد خلقت الدردشة على مواقع التواصل الاجتماعي نوعا هشّا من التواصل، يكون فيه انتباه المتواصلين إما متقطعا في الزمن، أو مشتتا بين عدة أفراد، أو يكون تواصلا افتراضيا غير مدعوم بتواصل في الواقع فيبدو زائفا ولا يغذي حاجة الإنسان المدني بالطبع– كما يصفه ابن خلدون– إلى الاجتماع، وكل هذا من شأنه أن يخلق ويعزز الشعور بالوحدة.

كيف تصنع وسائل التواصل الاجتماعي الوحدة؟

تقول الكاتبة الأميركية كايت وودسوم في مقال لها نشر في صحيفة "واشنطن بوست" في يوليو/تموز 2023 إن شركات التكنولوجيا اختطفت حاجة الناس إلى الانتماء والمكانة الاجتماعية، ففي السابق كانت الروابط البشرية تعني البقاء على قيد الحياة والنجاح بالنسبة إلى القبيلة، لكن الإنسان أصبح ينشئ روابط ويحصل على الشعور بالاستحسان على وسائل التواصل الاجتماعي، فيكافئه دماغه بإفراز هرمون المتعة الدوبامين، غير أن الدماغ يفرز الهرمون نفسه عند الشعور بالشماتة، فتتغذى هذه الحاجة العصبية القهرية من عدد المتابعين وإشارات الإعجاب وكذلك الخوارزميات التي تضخم محتوى سلبيا، وكما هي الحال مع أي نوع من المنشطات، بمرور الوقت تتزايد حاجة الدماغ إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويتحول الأمر إلى إدمان.

تذكر وودسوم أن شانشانغ وانغ من مختبر القرارات وتطوير الكبار في جامعة فلوريدا الوسطى يعتبر التجرّد من الإنسانية هو الثمن الذي يدفعه الناس مقابل استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي ليتواصلوا في ما بينهم.

من جهتها، تعتبر المؤرخة البريطانية فاي باوند آلبرتي في كتابها "سيرة العزلة: تاريخ العاطفة" (2019) أننا حينما نغرق في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي لأشخاص لا نعرفهم، فإن ذلك يشكل في أغلب الأحيان نوعا من الضياع في عالم يتجه أكثر نحو الفردانية ويتجنب الشعور بمعاناة الآخرين أو يتظاهر بعدم رؤيتهم.

يُصنَّف استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في علم النفس كاستخدام سلبي للإنترنت، على عكس استخدامه الإيجابي للتعلم أو العمل مثلا، وهذا الاستخدام السلبي للإنترنت هو الذي يفضي إلى الإدمان عليه، ولقد برهنت الدراسات في علم النفس على وجود علاقة بين الإدمان على الإنترنت والشعور بالوحدة، حسب أندرو سميث وحصّة الهنيدي في دراسة لهما نشرت في "جورنال الأخلاقيات" في 2023 بعنوان "الإنترنت والوحدة"، كما تُبيّن هذه الدراسة أيضا أن الشباب أكثر شعورا بالوحدة من الكهول.

الوحدة مرض العصر والمستقبل

عندما أطلق المطرب البلجيكي النجم سترومايي سنة 2022 أغنيته "الجحيم"، عرفت الأغنية نجاحا صاروخيا، في حين تقول أولى كلماتها: "لست الوحيد الذي يشعر أنه وحده"، ليردف: "هناك مثلي الكثير (...) وبالرغم من ذلك، أشعر أنني وحيد"، وربما كان هذا النجاح الموسيقي أحد الأدلة على أن الوحدة تحولت إلى وباء.

ويبدو أن الوعي بخطورة الوحدة على المجتمع والصحة قد ازداد في الغرب، فلقد عينت المملكة المتحدة منذ سنة 2018 وزيرا للوحدة، كما تشير دراسة أميركية صدرت سنة 2015 عن جامعة "بريغام يونغ" إلى وجود أدلة اليوم على أن الوحدة تزيد من خطر الوفاة أكثر من السمنة، وتحذر استنادا إلى بحوث أخرى من أن الوحدة قد تتحول إلى جائحة بحلول عام 2030، وتضيف أن السمنة التي تمثل اليوم جائحة وتأخذها السلطات على محمل الجد وتضع لمكافحتها سياسات عامة، قد تم تحليلها والتكهن بها قبل ثلاثة عقود عندما تناولها المختصون بالبحث ودقوا ناقوس الخطر في أواخر العقد السابع وبداية العقد الثامن من القرن الماضي، ويعتبر واضعو الدراسة أنهم اليوم يدقون ناقوس الخطر بخصوص الوحدة.

الغرب بدأ يهتم بالبحث عن شيء آخر غير الفردانية، وصار يلتفت من جديد إلى الجماعة وقيم التشارك

يتتالى أيضا صدور الكتب التاريخية والفكرية عن الوحدة في الغرب في السنوات الأخيرة بحثا في استفحال هذه الظاهرة، فإلى جانب كتاب "سيرة العزلة: تاريخ عاطفة" الآنف الذكر، أصدر الأكاديمي البريطاني وأستاذ التاريخ الاجتماعي ديفيد فنسنت كتابا بعنوان "تاريخ العزلة" عام 2020، وفيه يصف الوحدة بالوباء، ويذكر أنه في عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، كان الانفراد يُعتبر انحرافا عن الفطرة الطبيعية للبشر التي كان يُفترض أنها اجتماعية بالأساس، لكن خلال العصر الرومانسي تغيرت هذه الرؤية في الغرب وصار يُنظر إلى الوحدة كنوع من التأمل الروحي واستكشاف الذات والعالم غير المرئي، وأصبح الشعور بالوحدة سمة للعصر الحديث.

من ناحيته، يقدر المفكر الفرنسي جاك آتالي في كتابه "تاريخ مختصر للمستقبل" (2006) أنه بحلول سنة 2050 سيصبح العالم عبارة عن أفراد منعزلين، ويعزو الكاتب ذلك إلى أنّ الرأسمالية سوف تجتاح العالم وتغيّره من خلال تكنولوجيا تدفع بالإنسان إلى العزلة والاستقلالية في العمل وفي اكتساب المعرفة والترفيه مع فرض أدوات تكنولوجية لمراقبة نفسه وأدائه في جميع المجالات، أي صحته وعلمه وعمله. سيصير الإنسان حسب تطلعات المفكر الفرنسي كائنا فردانيّا بحتا مكتفيا بذاته وبالتكنولوجيا المتوفرة، ويضيف أنه "كلما كان الإنسان وحيدا، زاد في استهلاكه وفي مراقبته لنفسه وبحثه عن وسائل للترفيه كي يملأ حياته الوحيدة".

 Sara Gironi Carnevale

إذا كان الغرب قد شخّص هذا الوباء الذي يتهدده والذي تزيد من خطره وسائل التواصل الاجتماعي بمنشوراتها ودردشتها، فكيف هو الأمر بالنسبة إلى العالم العربي؟ هل هو معرض للخطر نفسه وهو الذي يستخدم 69 في المئة من سكانه الإنترنت حسب تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لسنة 2023 عن قياس التنمية الرقمية؟

الوحدة وتكنولوجيا الاتصالات في العالم العربي

أصدر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية(CSIS) عام 2019 دراسة بعنوان "الروابط الملزمة: الأسرة والقبيلة والأمة وصعود الفردانية العربية"، أجريت في أربعة بلدان عربية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن وتونس، واستنتج مقرر الدراسة، جون ألترمان، أن التغيرات الاجتماعية الجارية في مختلف أنحاء العالم لها تأثير متباين في المجتمعات العربية، وإن كان الولاء والالتزام قد لعبا في السابق دورا كبيرا في معاملات العرب بعضهم مع بعض ومع حكامهم، فإن النزعة الفردية المتزايدة في المنطقة تفرض تحديات على الأسرة والقبائل والحكومات.

تذكر الدراسة أن شبكات الثقة التقليدية لم تعد تخدم مصالح العرب كما هو الحال في السابق، فهي تأخذ منهم وقتا طويلا، وقد صاروا يعيشون بعيدا عن عائلاتهم الموسّعة ويعملون لساعات أطول ويسعون إلى تخصيص المزيد من الوقت للأصدقاء والعائلة المقرّبة.

تمثل التكنولوجيا وتحديدا تكنولوجيا الاتصالات الجديدة، أحد الأسباب المذكورة في الدراسة لتزايد الفردانية لدى العرب، فهي تعطي، خاصة للفئة الشبابية، مساحة غير مسبوقة من الخصوصية وتمنحهم استقلالية وتخلق لهم عالما فرديا يسعى إلى أن يشركهم (أو ربما يلهيهم) باستمرار، كما تذكر الدراسة أن وسائل التواصل الاجتماعي أعطتهم مصادر بديلة للمعلومة وإمكانيات بديلة للترفيه، لكن في الوقت نفسه، فالمجموعات التي تنشأ على وسائل التواصل الاجتماعي مرنة من حيث دخولها ومغادرتها ولذا، فهي لا تمنح السند المادي اللازم في وقت الحاجة، ولا تمثل شبكات تضامن مهمة.

تخلص هذه الدراسة على الرغم من ذلك، إلى أنه من الخطأ الافتراض أن الولاء ظل يلعب الدور المركزي نفسه في حياة العرب الذي كان يلعبه قبل جيل مضى. وهو ما يهدد بانتشار الشعور بالوحدة في العالم العربي مدفوعا بتكنولوجيا التواصل الجديدة كما في الغرب، مما يطرح التحديات نفسها، ويجعل من الحتمي البحث عن حلول لها.

مضاد حيوي للوحدة

يظهر أن الغرب بدأ يهتم بالبحث عن شيء آخر غير الفردانية، وصار يلتفت من جديد إلى الجماعة وقيم التشارك. فلقد صدر في الولايات المتحدة في 2023 كتاب صار من أكثر الكتب مبيعا بعنوان "لا يكفي– عندما تصبح ثقافة الإنجازات سامة، وما يمكن فعله لمعالجتها" (Jennifer Breheny Wallace, Never Enough: When Achievement Culture Becomes Toxic — and What We Can Do About It, 2023)  وفيه تشرح كاتبته جنيفر بريهني والاس أن الآباء والأمهات يسعون إلى تربية أطفالهم كي يجعلوا منهم أشخاصا مستقلين وقادرين على التعويل على ذواتهم، لكن التجارب والبحوث التعليمية بدأت تكتشف أنه كي يكون الطفل ناجحا وسعيدا وفي صحة جيدة، فهو بحاجة إلى تعلم درس آخر، وهو الترابط (interdependence)، إذ تُحيل هذه البحوث على أن الشعور المستمر بقيمة الذات لا يتأتى من الاستحسان النابع عن مكافآت خارجية فقط، مثل الجوائز، وعروض العمل الفاخرة وغيرها، بل من معرفة مكانته في المجتمع ومن الشعور بأن الآخرين يقدرونه وبأنه يضيف قيمة للآخرين، ويُطلق الباحثون على هذا الشعور مصطلح "الشعور بالأهمية" (mattering)، ويعتبرون أنه فقط من خلال الترابط يمكن للأطفال الحصول على دليل على أهميتهم بالفعل.

ليس الشعور بالوحدة في العالم العربي اليوم بالحدّة التي يعرفها الغرب، لذلك لم نلتفت بما يكفي إلى هذه المسألة، لكن تسارع تطور التكنولوجيا سيسرّع بوصول العالم العربي إلى المشكلة

أما المفكر البريطاني مايكل فولي فيلاحظ في مقال له بعنوان "هل الفردانية آخذة بالأفول؟" نشر في مجلة "الفلسفة الآن" عام 2017، وجود تشكيل جديد وغير واع للتوازن بين الفردانية والحياة الاجتماعية، وهو ما يمثل في الوقت نفسه رفضا لتجاوزات الحرية ولكن رفضا للانصياع التقليدي أيضا. ويبدو أن الحل يكمن في المشاركة في أنواع جديدة من الجماعات التي يتم اختيارها وليس فرضها، وتكون عابرة غير مستدامة، وغير رسمية حيث لا تتطلب عضوية بشكل رسمي.

وربما تجاوز الفرنسيون مرحلة الوعي فحسب بضرورة المجموعة وقيم التشارك والترابط، إذ بدأت تظهر تجمعات سكنية جديدة مبنية على مبدأ اختيار أفراد لبعضهم من أجل تكوين مجموعة تربطها قيم مشتركة مثل التضامن الاجتماعي أو المحافظة على البيئة أو تعليم الأطفال بطرق مجدّدة وحرة، واقتداء بهذا المبدأ فقد أطلق المفكر الفرنسي الراحل بيار رابحي مبادرة القرى "كوليبري"، وهي آخذة بالتطور بسرعة متزايدة وصارت اليوم تعدّ أكثر من 1000 قرية تسمّى "واحة"، بين واحات تعاضدية تمثّل قرى جديدة، وواحات سكنية تشاركية ترمي إلى ترسيخ التشارك في تجمعات سكنية موجودة.

ربما ليس الشعور بالوحدة في العالم العربي اليوم بالحدّة التي يعرفها الغرب، لذلك لم نلتفت بما يكفي إلى هذه المسألة، لكن تطورها المتوقّع وتسارع تطور التكنولوجيا وتكنولوجيا الاتصالات تحديدا سيسرّع بوصول العالم العربي إلى المشكلة ذاتها، وعندئذ يمكن توقّع تصادم حاد بين الثقافة التقليدية القائمة على أواصر المجموعات الأسرية والقبلية وبين الفردانية، خاصة وأن الأولى تُعتبر متأصلة في المجتمعات العربية بينما الثانية دخيلة عليها، وهذا ما يمثل تحديا للمستقبل. فماذا نحن فاعلون؟ هل سيتوجه العرب كذلك نحو المجموعات الجديدة، أم إن الحركات الشمولية ستطغى لتغذي حاجة الإنسان إلى الترابط كما تغذيها اليوم الشعبوية في أوروبا وأميركا؟ أم ستعالج مؤسسة الأسرة نفسها وتتخلى عن أدران السلطوية لتفسح المجال لوجود الفرد بأريحية أكبر داخلها؟

في جميع الأحوال، أغلب الظن أنه عندما يحين هذا الوقت لدى العرب، فإن التكنولوجيا على شكلها الحالي لا تبدو قادرة على أن تسعفهم بل هي التي تعمّق الهوّة بين الإنسان وأخيه.

font change

مقالات ذات صلة