لكن في الوقت نفسه صار التواصل قليلا أيضا لأن الرسائل النصية والصوتية تخوّل لمن يرسلها أن يكتبها متى أتيح له بعض الوقت، ولمن يتلقاها أن يقرأها متى تسنّى له ذلك، ثم أن يرد عليها متى أسعفه الحظ، وفي الأثناء سيتلقى المرسل ويكتب المتلقي عشرات الرسائل الأخرى لعشرات المرسلين- المتلقين الآخرين. وفي النهاية، بات التواصل بين البشر أشبه بخط متقطع.
في زمن سابق، كان الناس يتواصلون عبر الهاتف السلكي ويقضون بعض الوقت متسمرين في مكانهم لأنه لم يكن بالإمكان نقل الهاتف من مكان إلى آخر، وكانت المكالمة تستوجب الإمساك بالسماعة ووضعها على الأذن فلا يمكن فعل أي شيء آخر في الوقت نفسه، فيولي كلٌّ من المتخاطبيْن الآخر انتباهه الكامل لوقت معين، ثم يغلق الخط وينصرف إلى حياته.
لقد خلقت الدردشة على مواقع التواصل الاجتماعي نوعا هشّا من التواصل، يكون فيه انتباه المتواصلين إما متقطعا في الزمن، أو مشتتا بين عدة أفراد، أو يكون تواصلا افتراضيا غير مدعوم بتواصل في الواقع فيبدو زائفا ولا يغذي حاجة الإنسان المدني بالطبع– كما يصفه ابن خلدون– إلى الاجتماع، وكل هذا من شأنه أن يخلق ويعزز الشعور بالوحدة.
كيف تصنع وسائل التواصل الاجتماعي الوحدة؟
تقول الكاتبة الأميركية كايت وودسوم في مقال لها نشر في صحيفة "واشنطن بوست" في يوليو/تموز 2023 إن شركات التكنولوجيا اختطفت حاجة الناس إلى الانتماء والمكانة الاجتماعية، ففي السابق كانت الروابط البشرية تعني البقاء على قيد الحياة والنجاح بالنسبة إلى القبيلة، لكن الإنسان أصبح ينشئ روابط ويحصل على الشعور بالاستحسان على وسائل التواصل الاجتماعي، فيكافئه دماغه بإفراز هرمون المتعة الدوبامين، غير أن الدماغ يفرز الهرمون نفسه عند الشعور بالشماتة، فتتغذى هذه الحاجة العصبية القهرية من عدد المتابعين وإشارات الإعجاب وكذلك الخوارزميات التي تضخم محتوى سلبيا، وكما هي الحال مع أي نوع من المنشطات، بمرور الوقت تتزايد حاجة الدماغ إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويتحول الأمر إلى إدمان.
تذكر وودسوم أن شانشانغ وانغ من مختبر القرارات وتطوير الكبار في جامعة فلوريدا الوسطى يعتبر التجرّد من الإنسانية هو الثمن الذي يدفعه الناس مقابل استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي ليتواصلوا في ما بينهم.
من جهتها، تعتبر المؤرخة البريطانية فاي باوند آلبرتي في كتابها "سيرة العزلة: تاريخ العاطفة" (2019) أننا حينما نغرق في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي لأشخاص لا نعرفهم، فإن ذلك يشكل في أغلب الأحيان نوعا من الضياع في عالم يتجه أكثر نحو الفردانية ويتجنب الشعور بمعاناة الآخرين أو يتظاهر بعدم رؤيتهم.
يُصنَّف استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في علم النفس كاستخدام سلبي للإنترنت، على عكس استخدامه الإيجابي للتعلم أو العمل مثلا، وهذا الاستخدام السلبي للإنترنت هو الذي يفضي إلى الإدمان عليه، ولقد برهنت الدراسات في علم النفس على وجود علاقة بين الإدمان على الإنترنت والشعور بالوحدة، حسب أندرو سميث وحصّة الهنيدي في دراسة لهما نشرت في "جورنال الأخلاقيات" في 2023 بعنوان "الإنترنت والوحدة"، كما تُبيّن هذه الدراسة أيضا أن الشباب أكثر شعورا بالوحدة من الكهول.
الوحدة مرض العصر والمستقبل
عندما أطلق المطرب البلجيكي النجم سترومايي سنة 2022 أغنيته "الجحيم"، عرفت الأغنية نجاحا صاروخيا، في حين تقول أولى كلماتها: "لست الوحيد الذي يشعر أنه وحده"، ليردف: "هناك مثلي الكثير (...) وبالرغم من ذلك، أشعر أنني وحيد"، وربما كان هذا النجاح الموسيقي أحد الأدلة على أن الوحدة تحولت إلى وباء.
ويبدو أن الوعي بخطورة الوحدة على المجتمع والصحة قد ازداد في الغرب، فلقد عينت المملكة المتحدة منذ سنة 2018 وزيرا للوحدة، كما تشير دراسة أميركية صدرت سنة 2015 عن جامعة "بريغام يونغ" إلى وجود أدلة اليوم على أن الوحدة تزيد من خطر الوفاة أكثر من السمنة، وتحذر استنادا إلى بحوث أخرى من أن الوحدة قد تتحول إلى جائحة بحلول عام 2030، وتضيف أن السمنة التي تمثل اليوم جائحة وتأخذها السلطات على محمل الجد وتضع لمكافحتها سياسات عامة، قد تم تحليلها والتكهن بها قبل ثلاثة عقود عندما تناولها المختصون بالبحث ودقوا ناقوس الخطر في أواخر العقد السابع وبداية العقد الثامن من القرن الماضي، ويعتبر واضعو الدراسة أنهم اليوم يدقون ناقوس الخطر بخصوص الوحدة.