صغار السن والأجهزة اللوحية... فرص معرفية تهددها ألغام

كيف تسهم منصات التواصل الاجتماعي في تشكيل قيم الهوية والثقافة والمكانة؟

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

صغار السن والأجهزة اللوحية... فرص معرفية تهددها ألغام

يُمكن معرفة التحول الذي طرأ على الثقافة الشفوية اليومية من خلال الكلمات التي تُستخدم للتعبير عن الأنشطة الحياتية ودرجة انخراط الأفراد بوسائل التواصل الاجتماعي، في وقت باتت فيه حتى التعبيرات العائلية والعاطفية والشخصية تجد متنفسها عبر تلك الوسائل التي بدأت تخلق نوعا من البنية الاجتماعية. هذه البنية تحولت إلى طريقة حياة مُضمرة داخل كل عائلة ولم يتم الانتباه جيدا، في أغلب الحالات، إلى مدى تأثير علاقة الوالدين بالجهاز اللوحي وتأثير هذا على الأولاد، مما جعل الأطفال والناشئة متصلين أيضا عبر الأجهزة اللوحية التي يوفرها الأهل لهم. فتحول سياق حياة أغلب الأطفال إلى سياق الانسجام الاجتماعي والعاطفي الذي خلقه الكبار عبر وسائل التواصل والأجهزة اللوحية دون مراقبة جيدة أو حذر مما قد يتعرف عليه الأولاد أو تطرحه عليهم وسائل التواصل أو ما قد يفقدونه من أدنى معيار لحماية الذات قبل الولوج لعوالم الأجهزة الذكية.

وقد دفعت المجتمعات العربية أثر ذلك مثلها مثل المجتمعات الأخرى في العالم، وقد شهدت تلك المجتمعات آثارا واضحة، لعل من أبرز علاماتها في الفترة الأخيرة الجريمة البشعة لعصابة أطفال "التيكتوكر" في لبنان، أو الجريمة التي وقعت في مصر منذ أشهر، حين جنّد فتى في الرابعة عشرة مقيم في الكويت، شابا في نهاية الثلاثين من عمره لارتكاب جرائم مصورة بحق فتيان، أو استغلال الأطفال في عروض الغناء واللعب لكسب مشاهدات ثم التواصل مع الفتيان والأطفال بطرق غير شرعية.

نجوم الأطفال الجدد

قبل ذلك ومع انتشار عصر التلفزيون الذي امتدت آثاره حتى بدايات القرن الحالي، وتحوله ليصبح ركنا أساسيا في كل منزل، أصبحت الشاشة حينها رمزا للتواصل الاجتماعي والثقافي. شخصيات بارزة في مجالات متعددة في الفن والثقافة والسياسة برزت على التلفزيون، واكتسبت مكانة رمزية. بدأت رحلة الاستدماج النفسي (محاولة الشخص نسخ أو تكرار سلوكيات أو أفكار من أشخاص آخرين) مع أبطال ومشاهير عالميين وعرب. وطرحت الألفية الفائتة اتصالا محدودا مع الفنانين والمشاهير. وقدمت الجرائد والمجلات مادة محدودة عن الأبطال المتخيلين، والمقابلات التلفزيونية كانت قليلة إلى حدٍ كبير.

الأجهزة اللوحية باتت جزءا من البعد التربوي الرسمي في أغلب البلدان العربية. لكن في البيئة العربية تنتفي تقريبا المرافق الخاصة للعب الأطفال، والمدارس لا تعطي للعب مساحة داخل مسيرة التعليم

البُعد الداخلي العميق للتعلق بالشخصيات كان بعيدا عن التفاصيل اليومية أو المعروفة عن المشاهير. فكانت الصور المعلقة على جدران الغرف عبارة عن إعجاب بدلالات نفسية مختلفة. دور الطفولة واختياراتها قد يؤثر بشكل لاحق على حياة الفتى أو الطفل، فكثيرا ما يكون الرمز الموضوع في الغرفة دافعا لأن يُقلد في النجاح أو الموهبة.

حتى عام 2000 كان طبع الصور المختارة من قِبل المعجبين محدودا ومُكلفا، فكانت الصور تُسرق من الجرائد والمجلات، مئات الصور قُصت بالمقص من المجلات والجرائد لتُعلق داخل البيوت. باستطاعتنا أن نتذكر كيف كانت غرفنا، صور منتخبات عالمية، وصور لاعبين كرة قدم. الصور تعلق على الجدران كشكل من أشكال التقدير الشخصي والزينة، مما يعكس الإعجاب بالشخصيات الثقافية والفنية والثورية. هذه الصور تمثل نافذة داخلية للعالم الخارجي ووسيلة لتعزيز الهوية الثقافية والفردية في الفضاء العام والخاص.

نجوم التكنولوجيا والأدوار التربوية

التكنولوجيا الرقمية حولت سريعا رغبات كانت صعبة المنال لدى الأطفال والناشئة، فلم تعد جدران الغرف تحمل رموزا أو صورا، تمثل لدى الأطفال شغفهم أو شخصياتهم المحببة، باتت الأجهزة اللوحية تتكفل بالمهمة نفسها، فأصبحت واجهة الشاشة حائطا، مع كثير من الرؤى الفنية في رسم وتشكيل الشخصيات المحبوبة، وأخضعت سلطة الأجهزة اللوحية المشاهير أنفسهم ليكونوا أقرب من جمهورهم ومحبيهم. حيث بدأ التواصل أكثر مع النجم، وحتى حياته العامة والخاصة أصبحت معروضة ويمكن تداول تفاصيلها ومشاهدتها ومراقبتها بشكل هوسي. وباتت الأخبار العالمية ترصد المتابعين وأعدادهم وكبريات الشركات التجارية تتصارع على الإعلانات من خلالهم.

يضاف البُعد التربوي الذي شرع أكثر لثقافة الجهاز اللوحي الذي لا مفر منه لفهم تعلق الأطفال والناشئة بوسائل التواصل والأجهزة اللوحية. فهذه الأخيرة باتت جزءا من البعد التربوي الرسمي في أغلب البلدان العربية. لكن بالأصل في البيئة العربية على سبيل المثال، تنتفي تقريبا المرافق الخاصة للعب الأطفال، والمدارس لا تعطي للعب مساحة كبيرة داخل مسيرة التعليم. وفي الوقت نفسه، لا تسود ثقافة تفاعل الطفل عبر الألعاب البدنية والثقافية التواصلية الاجتماعية. وأيضا تعاني أغلب المجتمعات العربية من أزمات اقتصادية وسياسية تجعل العائلات منكفئة عن التفاعل الاجتماعي، وبالكاد تخرج العائلات من بيوتها فتضيق مساحة الخارج والتواصل لدى الطفل والفتى.

في سوريا ولبنان ومصر مثلا لا تتوافر مؤسسات اجتماعية أو ثقافية تتسم بالكفاءة يجتمع حولها الشباب لإبراز قدراتهم ورؤاهم الذاتية، أو حتى لإنتاج مستوى تواصلي قيمي وأخلاقي.فتمت عملية نقل النشاط البنيوي لدى هذه الفئة نحو الاكتفاء بفعل المشاهدة والتعلق بالجهاز اللوحي بدلا من المشاركة العميقة باللعب والتواصل وإنتاج الذات عبر السياق الاجتماعي.

تشير الدكتورة باميلا أشقر، اختصاصية في التربية وأنماط التعليم في لبنان، إلى أنه لا مفر من دخول التكنولوجيا والأجهزة اللوحية الإطار التعليمي، ولهذا فوائد جمة كحماية البيئة بالتخلص من كم المطبوعات الهائل، وأيضا تخفيف الأحمال على حقائب الأطفال، لكن هناك خطرا آخر تربويا بامتياز، كيف لنا أن نحمي الطفل من فكرة التقابل والتعامل مع الشاشة، وحصوله على المعلومات والدراسة منها فقط، فارتباط المنهج التعليمي بالساعات المطلوبة من استخدام جهاز لوحي للدراسة لا يمكن السيطرة عليها. مما يجعل، حسب الدكتورة أشقر، المهمة ملقاة على الأهل. خاصة أن الأطفال والناشئة ينخرطون بوسائل التواصل مثل أهلهم، فالصور، والتعاملات الاجتماعية لحياة هذه الفئة قد تُدار من خلال الوسائط، كمواعيد الأنشطة، ومتابعة البرامج الدراسية والكثير من المشتركات الحياتية والتعليمية.

تمرد الأطفال والناشئة على النسق التقليدي لاختيار الشخصيات المحبوبة والمُلهمة، ولم تعد قيمة الشخصيات آتية من عصر التلفزيون

وتدقق الدكتور باميلا مفهوم التسوية لدى الأطفال، بقيام الأهالي بدفعهم نحو اللعب عبر الأجهزة اللوحية بدلا من تعليم الأطفال أو الفتيان أنشطة أخرى منتجة معرفيا أو سياقيا أو حتى على مستوى الدماغ.

ولأن المدارس لا تتدخل إرشاديا في حياة الطلبة، أو تفرض تنظيم أوقات استعمال الأجهزة اللوحية، أصبح عالم الجيل الحالي أكثر انغماسا في الجهاز اللوحي. خلافا للدول المتقدمة التي تحافظ على بنية استراتيجية لمرافق اللعب، والتي نجحت إلى حد ما في ربط الأجهزة اللوحية بالعملية التعليمية وفق معايير شديدة الدقة في الاستخدام حتى التعليمي منها، هناك ثورة حقيقية يتم المشاركة فيها عبر وسائل التواصل، وطريقة استهلاك المحتويات والتفاعل معها. فقد نظم الاتحاد الأوروبي منهاجا قائما على استخدام الأجهزة وفق معايير لا تتخلى عن الورقة والقلم واللوح وتحديد ساعات الاستخدام للمتطلبات الدراسية إلكترونيا، وذلك لمنح الطلبة تفاعلا أكبر وفقا لأجسادهم. هذا نفسه ما تشير إليه الدكتورة أشقر بأهمية استخدام الورقة والقلم والكتاب، وذلك لأنها تضفي مساحة تفاعلية أكبر للأطفال وانسجاما جماعيا داخل الصفوف.

وقد حددت منظمة الصحة العالمية معايير محدودة أيضا لاستخدام الأطفال والناشئة الأجهزة اللوحية، ووصولا لعمر الثانية عشرة لا يُنصح بمشاهدة أو التعامل مع الجهاز اللوحي لأكثر من ساعتين في اليوم. بمعنى ما، هناك معايير تخضع لدراسات نفسية ومعرفية، وتنبيهات لمستويات الاحتكاك بالجهاز اللوحي.  الأطفال والناشئة بالأصل يشعرون بأن الجهاز اللوحي حق من حقوقهم، وذلك لأن العصر بات يطرح إشكاليات التعلق بوسائل التواصل الاجتماعي وبإمساك الجهاز اللوحي باليد دوما من قبل الأهل قبل الأطفال، وبالتالي فإن فعل التعلق والمشاركة عليه أن يكون مضبوطا، فجزء كبير من الحياة أصبح من خلال الأجهزة اللوحية اللامعة. وتشير الدكتورة أشقر إلى ضرورة تفعيل ثقافة التواصل والعمل والتربية في المدارس خارج سياق الأجهزة وتقليل استخدامها، حفاظا على الملكات التفاعلية والاجتماعية للأطفال خوفا من تعويضها فقط عبر الشاشات.

من يحب أطفالنا وما المخاطر؟

تمرد الأطفال والناشئة على النسق التقليدي لاختيار الشخصيات المحبوبة والمُلهمة، ولم تعد قيمة الشخصيات آتية من عصر التلفزيون، فعصر التلفزيون يخضع بحد أدنى لمراقبة إنتاجية وثقافية، خلافا للعالم الذي يتيحه الجهاز اللوحي عبر برامج التواصل الموجودة عليه والتي لا يخضع صانعو المحتوى فيها لأي رقابة، ولا يستطيع الأهل إلا أن يحاولوا إنتاج فعل رقابي على أولادهم. رغم أن المشاهير عبر التلفزيون غربيا قد أثروا بشكل كبير على حياة المراهقين والفتيان، فأبطال مسلسل "Different Strokes"(ضربات مختلفة)والذين أصبحوا أحد أشد الرموز تعلقا لدى جيل كامل، كانت نهايتهم كارثية على مستوى الحياة الشخصية، فرغم تعلق الناس بهم واتخاذهم رموزا، فإن حياتهم الفعلية خارج التلفزيون لم تكن ذات قيمة أو تحقق مثالا يقتدى. لكن القرب الحالي من النجوم وترقب عثراتهم وأخطائهم وكوارثهم الإنسانية يضع في عقول الأطفال مفهوما خاطئا بأن حياة المشاهير هي الحياة الطبيعية دونا عن أي حياة أخرى.

بعض المحتويات على "تيك توك" مثلا أسست لطرح إنذارات عديدة على المحتويات المقدمة، مثل منصة(for you)  التي نبهت منها منظمات دولية لأضرارها النفسية على صغار السن، وأوضحت دراسات أجرتها معاهد نفسية جامعية وطبية نفسية أوروبية، التأثيرات على عقول الصغار وتوازنهم لا بل ودفعهم للانتحار في بعض الأحيان. بدوره، طرح الاتحاد الأوروبي احتجاجات على منصة "تيك توك"، فعدم حماية خصوصية الأطفال والناشئة تجعلهم عرضة لإعلانات معينة تؤثر عليهم، ومحتوى يُفرض عليهم فقط بناء على كشف خصوصياتهم. والأهم عدم وجود خوارزميات حمائية لهم. في كندا مثلا أُدمجت الأجهزة اللوحية في النظام التعليمي، ونوهت "الجمعية الكندية لطب الأطفال" إلى ضرورة استخدام محدود للأجهزة اللوحية لدى الأطفال والناشئة، خارج السياق الاندماجي التعليمي وهذه توصية أساسية من ضمن التوصيات للأهالي من أجل صحة الأطفال.

يرتبك كل فتى وطفل أمام تجارب ذويه، مما يجعلهم أحيانا متابعين سلبيين وينغرسون في الاكتئاب الضمني ويلومون أنفسهم عما لا يستطيعون فعله

وتشير مؤسسة "The Children's Society"البريطانية إلى أن المخاطر على الأطفال والناشئة يمكن معرفتها بشكل بديهي، ويجب التنبّه إليها. وتتضمن هذه المخاطر العيش بعيدا عن الواقع، ودون حياة اجتماعية تفاعلية حقيقية، والضغط على الذات لتصبح تعبيراتها ضمن نمط غالب على صفحات التواصل، والعزلة واشتداداها بسبب التواصل السلبي للتفاعل، والأهم هو الانجراف لمنظمات سياسية واجتماعية لم يستعد لها عقل الفتى أو الطفل. يحرم "تيك توك" وبرامج التسلية المفتوحة القائمة على المشاهدات ما يُسمى"practice or preparation theory of play"، (نظرية الممارسة أو الإعداد في اللعب أو التعلم)، فالمشاهدة تلغي حماس اللعب والقدرات البدنية عند الطفل، وتلغي مهارات التكيّف الاجتماعي عند الطفل.

خطورة القيم السطحية

 لم يعد المشاهير عند صغار السن أبطال الكرتون الذين يحفزون المخيلة، ولا لاعبو كرة القدم فحسب، بل باتت عوالم جديدة من الترفيه والاستهلاك تحتل عقولهم وتحدد خياراتهم. وتكون العاقبة حينما لا يكون الطفل أو الفتى مستعدا لتلقي هذا الكم من الاستعراضات والخيارات التي يطرحها صُناع المحتوى. وهناك نجوم ومشاهير غريبون على الأجيال السابقة، كمحترفي الألعاب عبر المنصات الإلكترونية الذين يمارسون ألعاب القتال والمنافسة بحرفية عالية، وصناع محتوى غريبو الأطوار كمجربي المفرقعات، أو مجربي المقالب أو حتى مجربي البشر. تنفك الرمزية عند صغار السن عما كان عاديا وعميق الأثر عند الأجيال السابقة، وذلك تحديدا على مستوى القيمة الأخلاقية أو الفنية أو المعرفية النفسية. مثلا، هل كان من الممكن أن نضع أو نشارك صورة لأفضل لاعب بلعبة "سوبر ماريو"؟ في افتقاد لأدنى معايير الاختيار لدى صغار السن، يقع الأطفال العرب في منحى الانجذاب الكلي لمشاهير وسلوكيات نجوم وسائل التواصل، الرقابة المستحيلة على المحتوى عربيا وعالميا، حول الأطفال إلى ضحايا مُركّبين، من فراغ تطرحه إدارة المنازل عائليا والانتباه لما يُسمى آليات التواصل الصحية عبر الإنترنت، ومن ثم عدم وجود خطط حكومية للاعتناء بصغار السن بشكل منهجي وقيمي تعليمي. فضلا عن افتقاد الخطط التي قد توضع تربويا لصداها ومنهجها داخل المنازل.

لم نستطع أن نجد إحصاءات على المستوى القومي للبلدان العربية لمدى الساعات المستخدمة للأجهزة اللوحية ووسائل التواصل لدى الفتيان والأطفال، حصلنا فقط على دراسات منتشرة داخل مكتبات الجامعات. هذه المشكلة سألنا عنها الدكتورة باميلا أشقر أيضا، والتي أكدت أن "هناك ضرورة للإحصاء لكن ماذا بعد؟ الاتحاد الأوروبي وبعض الدول المتقدمة تفرض على البرامج والمنصات خيارات الموثوقية والأمان، أما في مجتمعاتنا لم ينظر المسؤولون للأخطار الحقيقية للعصر الحديث وتقنياته".

الإحساس بالفشل

خطر آخر يظهر عبر برامج التواصل، خاصة التي تقدم محتوى يهدف للربح، فالأطفال يشاهدون نماذج لا تقدم أي محتوى مفيد أو هام، بل محتوى استهلاكي للعب أو التحدث دون أي موضوع محدد. ومستوى المشاهدات يمنح فتية وفتيات أرباحا خيالية، مما يجعل المشاهد الصغير يعاني من عقد نفسية مختلفة، منها الإحساس بالفشل، وعدم الإنجاز، فمشاهير "تيك توك" مثلا لم يصبحوا مشاهير فقط، بل أغنياء ومنتجين دون أي فعل حقيقي سوى فتح الكاميرا. نحن لا نتحدث عن محتوى، فالأطفال ينخرطون بمشاهدة لا تملك أي بنية درامية، فقد يشاهدون أطفالا آخرين، أو مقاطع مضحكة، لم يعد هناك مجال محدد لدراسته أو معرفة ما يقدمه، فقد يشاهد الطفل مقاطع هزلية، أو مقاطع مبيعات ومنتجات، لم يعد هناك قيمة عمومية يمكن تنشئة الأطفال عليها قيميا.

يرتبك كل فتى وطفل أمام تجارب ذويه، مما يجعلهم أحيانا متابعين سلبيين وينغرسون في الاكتئاب الضمني ويلومون أنفسهم عما لا يستطيعون فعله. يؤثر هذا على بنية مفهوم النجاح الاجتماعي والدراسي، استهلاك الذات يورط الصغار في متابعة سلبية يندرج تحتها تقديس هؤلاء في الوقت الذي تمارس فيه الحكومات العربية الدور الرقابي على محتوى ومضامين وسائل التواصل الاجتماعي بهدف حماية أمنها القومي وضمان عدم اختراقها رقميا والتي قد تطاول في كثير من الأحيان منظمات ومؤسسات وشخصيات اعتبارية، لكن هذا الدور الرقابي الذي تمارسه باجتهاد لا يلزمها بمراقبة الحسابات الشخصية على "تيك توك" و"إنستغرام" أو تقييد البرامج على شبكة الإنترنت، لكنه يتخذ شكلا رقابيا مختلفا كليا، لتقع مهمة الحراسة الرقمية على عاتق الوالدين وضمن مهامهم الجوهرية. إذ ترى الدكتورة في الفلسفة والمختصة في المجال الفلسفي للعدالة الاجتماعية الدكتورة إيليان سعادة أن "عملية الرقابة الرقمية واجب على الأهل بالدرجة الأولى لاعتبارات القرب الجغرافي والتماس المباشر بين الوالدين والأولاد بحكم وجودهم في مكان واحد، وغالبا ما تكون عملية الرقابة بسيطة مع الحفاظ على المساحة الخاصة للأطفال".

يفقد الأطفال الباعث الروحي والقيمي مع انهيار اقتصاد بعض البلدان، مما يزيد الأمر صعوبة

تنصح سعادة الأهل باتباع إجراءات مبسطة من شأنها أن تحمي أطفالهم من كافة أنواع الاستغلال العاطفي والجنسي المحتمل وحمايتهم من المحتويات الضارة والمضللة، وفي مقدمتها عدم ترك الأطفال مع أجهزتهم الإلكترونية، تقول لـ"المجلة": "الوجود المستمر مع الطفل أثناء تجربته الرقمية والتعرف على طبيعة المضمون المتابع والعلاقة التي تجمعه بالأصدقاء ونوع المواضيع المطروحة بينهم، مع ضرورة الإشراف على المحتوى الذي بين أيديهم عبر الاستعانة بأدوات رقابة الأهل من خلال ربط حسابات الأطفال مع أجهزة الوالدين الخليوية، مما يعطي الأطفال شعورا باحترام الخصوصية وعدم تضييق الخناق عليهم باعتبار أن الخدمة عن بعد ويزيد من أمانهم في آن معا".

تُلزم سعادة الأهل بالمسؤولية الاجتماعية والنفسية إزاء أطفالهم والتي تندرج تحت عدم السماح لهم بالغرق الرقمي في ظل الانفتاح التكنولوجي الجارف، لا سيما عندما يصل الأمر إلى تبني سلوك هوسي منتظم لشخصية مشهورة والتركيز على هوية الطفل الخاصة. توضح الاختصاصية: "يحدث كثيرا أن يُعجب الطفل والمراهق بشخصيات شهيرة إلى حد التأثير والتقليد والافتتان بهم كلاعبي كرة القدم أو المطربين الذين وصلوا إلى العالمية وتحولوا إلى أيقونات، في هذه المرحلة يجب على الأهل إشراك طفلهم في كواليس هذه النجومية وكيف وصلوا إلى هذه الدرجة من التفوق والتميز عن غيرهم بفضل الجهد والتعب والتحديات وليس من فراغ، والأهم من ذلك هو مساعدتهم على تحديد هويتهم الخاصة التي ليس بالضرورة أن تتطابق مع هوية المشاهير والإنصات إلى تفضيلاتهم الشخصية وإشباعها سلوكيا والتركيز على مهارتهم الخاصة وتطويرها".

وتجد سعادة أن الدور الرقابي للحكومات على المحتوى الرقمي يختلف عن الرقابة المنزلية التي تتخذ شكلا مغايرا وأقل مباشرة وأكثر مساندة وهو منوط بالمفهوم التثقيفي والتنويري والتوعوي، وذلك من خلال دعمها لبرامج ثقافية وتعليم الطفل الاستخدام الآمن والمسؤول للإنترنت وتقديم توصيات حماية للأهل وتحذيرها من البرامج الخطيرة، إلى جانب سن تشريعات صارمة لحماية الأطفال من مخاطر الاستغلال بأشكاله المختلفة أو الإتجار بهم.

النجوم وتحويلهم إلى أمثلة يمكن الاقتداء بها، أو تقليدها، أو الانجذاب إليها والتعامل معها، هي المأساة التي يواجهها الأطفال. فضيحة "التيكتوكر" في لبنان مؤشر إلى انكشاف عالم صغار السن على كوارث نفسية واجتماعية لا يمكن معرفة آثارها في الوقت القريب، خاصة أن العالم الافتراضي أصبح أكثر صلة وواقعية من قدرات العالم الحقيقي بمؤسساته وآلياته في إنتاج الجذب وتحقيق القيم والانخراط في غاية أخلاقية أو قيمية.

يفقد الأطفال الباعث الروحي والقيمي مع انهيار اقتصاد بعض البلدان، خاصة في بلدان مثل سوريا ولبنان ومصر، مما يزيد الأمر صعوبة. فالنواة الأولى لكل مجتمع هي العائلة، والتي تُعاني تحت ضغوط هائلة لتأمين سبل الحياة. بالتالي، تُشاع قلة الانتباه والحرص، والدول التي تميل إلى إلغاء الحياة السياسية والاجتماعية تخسر في مكان آخر اتزانا اجتماعيا وواقعيا لعيش الحياة خارج إطار الأجهزة اللوحية ونجومها ومشاهيرها.

font change

مقالات ذات صلة