العلاقات الصينية- الإسرائيلية تتجه للتدهور... دون حرب غزة

الاضطراب ليس اقتصاديا ولا حتى أمنيا بل هو في جوهره جيوسياسي

ألكسندر اسبانا/المجلة
ألكسندر اسبانا/المجلة

العلاقات الصينية- الإسرائيلية تتجه للتدهور... دون حرب غزة

أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي الثلاثاء حصول اتفاق بين 14 فصيلا فلسطينيا لتشكيل "حكومة مصالحة وطنية موقتة" لإدارة غزة بعد الحرب. ما أسباب تدخل بكين وحدود دورها في الشرق الأوسط؟ علاقتها مع إسرائيل؟

هذا نظرة معمقة الى العلاقة بين الصين وإسرائيل وخلفية وساطة بكين بين الفصائل الفلسطينية:

يحق لنا أن نستنتج أن تدهور العلاقات الصينية- الإسرائيلية هو الضرر الجانبي الذي ينبغي أن تتحمله بكين، بسبب تعبيرها الصريح عن دعمها المطلق للقضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما يعني أن وقوف بكين مع العالم العربي يأتي بتكلفة كبيرة على مصالحها الاقتصادية الخاصة.

صحيح أن الصين دافعت بعد هجوم "حماس" على إسرائيل عن "الحق غير القابل للتصرف" للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، ولم ترَ في الهجمات الإسرائيلية على غزة دفاعا عن النفس، بل نزعت عنها شرعيتها، وانتقدت الجيش الإسرائيلي لممارسته "عقابا جماعيا" على أهل غزة. وصحيح أن كل هذه الأمور ستلقي بظلالها حتما على علاقتها مع إسرائيل. غير أن الشراكة الاقتصادية الصينية- الإسرائيلية ما انفكت تتراجع منذ عام 2018، أي قبل 7 أكتوبر والحرب اللاحقة في غزة.

وبينما يعتقد جمهرة من المحللين أن الصين ضحت بعلاقتها مع إسرائيل لصالح العالم العربي، فإن الحدثين أقل ترابطا بكثير مما يبدو على السطح. إن العلاقات بين الصين وإسرائيل مهيأة لأن تشهد إعادة تقييم وإعادة تنظيم لتفاعلاتها الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية. وإليك الأسباب.

اتسمت علاقات الصين مع إسرائيل- على قصرها- بالبرغماتية والتعقيد في آن معا. والصين بطبيعتها ليست عدوا لليهود. ومتحف شنغهاي للاجئين اليهود يستعيد ذكرى اليهود الذين لجأوا إلى شنغهاي في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين عندما لم يكن يستقبلهم سوى قلة في العالم. وبينما تواصل مجتمعات عديدة محاربة العداء للسامية، على المستويين الإثني والتاريخي، فالصينيون ليسوا بالأساس في حالة عداء للسامية.

والصين ليست تهديدا وجوديا لإسرائيل. كما أن إسرائيل، التي تعيش في ظل تهديدات وجودية من محيطها، لا ترى في الصين معتديا عسكريا ولا مصدرا لتقويض الأمن، وذلك انطلاقا من نوايا الصين ومن وجودها. وترى إسرائيل في الصين بلدا ذا "وزن ثقيل اقتصاديا ووزن خفيف سياسيا وبوزن الريشة عسكريا". والعلاقة بين الصين والدولة اليهودية، التي وصفها رئيس الوزراء نتنياهو ذات مرة بأنها "زواج عقدته السماء"، أصبحت الآن متجمدة بسبب التحديات التي تتجلى في بعض الانقسامات المبدئية والأساسية التي تواجه العالم في هذا القرن: كالقضية الفلسطينية وأمن إسرائيل والعلاقات الأميركية- الصينية والقدرات النووية الإيرانية ودورها المستقبلي في الشرق الأوسط.

لم تُقم الصين وإسرائيل علاقة دبلوماسية رسمية إلا في عام 1992، وكانت بكين قد اعترفت، قبل ذلك بثلاثة عقود تقريبا، بمنظمة التحرير الفلسطينية رسميا واحتفت بتمثيلها الدبلوماسي في بكين. وقد سبق دعم الصين للقضية الفلسطينية انضمام الصين نفسها إلى الأمم المتحدة.

منذ عام 2021، حققت السيارات الكهربائية الصينية غزوا قويا للسوق الإسرائيلية

 

كان تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين في يناير/كانون الثاني 1979 إيذانا ببداية حقبة جديدة في تعامل الصين مع إسرائيل. وواصلت إسرائيل، بدعم ضمني من الولايات المتحدة، نقل الخدمات والتكنولوجيات الدفاعية من إسرائيل إلى الصين على مدى العقود الثلاثة التالية.

وعززت الدولتان منذ تطبيع العلاقات في عام 1992، تبادلا نشطا في الميدان التجاري والاستثماري وفي ميدان الأبحاث والتطوير على مدار العقود الثلاثة التالية.

التجارة الصينية- الإسرائيلية

ارتفعت التجارة البينية من 50 مليون دولار عام 1992 إلى 24.45 مليار دولار في عام 2022، أي إنها تضاعفت 489 مرة على مدى ثلاثة عقود. وبحلول عام 2022، غدت الصين ثالث أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأكبر شريك تجاري لها في آسيا. إلا أن ارتفاع معدل التبادل التجاري دفعه في المقام الأول واردات الصين إلى إسرائيل، فأحدث ذلك خللا كبيرا في الميزان التجاري. وقد بلغت صادرات إسرائيل إلى الصين ذروتها عام 2018، بينما بقيت صادرات الصين إليها على حالها عام 2022.

وعند فحص بيانات الصادرات الصينية إلى إسرائيل على مدى العقد الماضي، يُظهر مسارها ارتفاعا مطردا حتى عام 2022. أما في عام 2023 فحدث تباين حاد في الصادرات مثير للاهتمام، حيث ارتفعت صادرات الصين من السيارات الكهربائية إلى إسرائيل بشكل حاد وسط انخفاض في إجمالي الصادرات.

رويترز
الرئيس الصيني شي جين بينغ في الوسط، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني العشرين لـ"الحزب الشيوعي الصيني" في العاصمة بكين

والقطاع الذي قاد الارتفاع المطرد في الصادرات الصينية إلى إسرائيل على نحو بارز على مدى العقد الماضي، هو أولا منصات التجارة الإلكترونية العابرة للحدود، بينما قاده مؤخرا اختراق الصين للسيارات الكهربائية. ويبرز هذا النجاح متجرا "على إكسبرس التابع لشركة علي بابا"، ومتجر الأزياء عبر الإنترنت "شين".

ومنذ عام 2021، حققت السيارات الكهربائية الصينية أيضا غزوا قويا للسوق الإسرائيلية. وكانت اثنتان من أفضل العلامات التجارية الصينية للسيارات الكهربائية، "بي واي دي"، و"جيلي"، المسؤولتين عن 45 في المئة من إجمالي مبيعات السيارات الكهربائية في إسرائيل عام 2023. وعلى الرغم من توتر العلاقات في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، فقد بقي 22 في المئة من مجموع السيارات الجديدة المباعة في إسرائيل سيارات صينية، وهي نسبة أعلى بكثير من نظيراتها الغربية، وهذا يشير إلى مرونة السوق الفريدة.

شهدت استثمارات الصين في إسرائيل نموا متسارعا خلال الفترة 2014-2018، تجلت بها استراتيجيات الصين المزدوجة طويلة المدى، مثل مبادرة الحزام والطريق

كما أن شركة "إنتل" كانت وحدها المسؤولة عن 40 في المئة من إجمالي قيمة الصادرات الإسرائيلية الرائدة إلى الصين عام 2018. وقد دعمت صادرات الرقائق الإسرائيلية إلى الصين توسع القدرة التصنيعية على نطاق واسع في الصين منذ ظهور "كوفيد". أما صادرات الخدمات من إسرائيل إلى الصين فهي ضئيلة، بخلاف تجارتها الكبيرة في هذا الميدان مع الغرب.

ومع اشتداد الحرب التكنولوجية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين على مستوى العالم، واجهت الشركات التي تتخذ من إسرائيل مقرا لها، قيودا مماثلة على صادراتها من الرقائق. ولما بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى الصين ذروتها في عامي 2017-2018، ساهمت صادرات شركة "إنتل" من الرقائق الدقيقة بمعظم النمو في الصادرات. ومع تحول البيانات والأمن السحابي إلى مخاوف أمنية، من المرجح أن تشهد منصات التجارة الإلكترونية الصينية ركودا في نموها، على الرغم من جاذبيتها في المساعدة بتخفيف وطأة ضغط التضخم في إسرائيل.

حتى لو لم تحدث مأساة السابع من أكتوبر/تشرين الأول قط، لأمكن للقيود المتزايدة على التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، أن تغير مسار التجارة الثنائية بينهما، وعلى الأخص في الساحة الرقمية العابرة للحدود والمركبات الكهربائية والرقائق الدقيقة، التي تمثل الجزء الأكبر من تجارتهما الثنائية.

وليس فتور التجارة الصينية- الإسرائيلية إلا مظهرا من مظاهر فك الارتباط التجاري بين الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من كل الجهود الرامية إلى التركيز على الجانب البرغماتي والتجاري، ستظل التجارة عرضة لمعوقات شديدة لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

ضغوط أميركية

شهدت استثمارات الصين في إسرائيل نموا متسارعا خلال الفترة 2014-2018، تجلت بها استراتيجيات الصين المزدوجة طويلة المدى: مبادرة الحزام والطريق التي تربط أوراسيا عبر شبكة البنية التحتية، وسعي الصين إلى تبوأ الصدارة الصناعية العالمية عبر استراتيجيتها "صنع في الصين 2025". وأكد المعهد الوطني للإحصاء في إسرائيل أن الاستثمارات الصينية في إسرائيل كانت أقوى في قطاعي البنية التحتية والتكنولوجيا.

وإذا كانت صادرات إسرائيل إلى الصين قد شهدت ذروتها عام 2018، فقد شهدت استثمارات الصين في إسرائيل أيضا ذروتها في العام نفسه. ولا يُعزى تقلص الاستثمارات الصينية في إسرائيل بعد ذلك مطلقا إلى تحول استراتيجية الصين بعيدا عن طموحاتها في مجال التكنولوجيا والابتكار. فالضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على إسرائيل لغربلة الاستثمارات الصينية واستبعادها من قطاعات التكنولوجيا في إسرائيل، كان بداية تحول عن تلك الفترة الذهبية للتكنولوجيا، عن ذلك "الزواج الذي عقدته السماء" ولا رجعة عنه. فأنشأت إسرائيل عام 2019، بناء على طلب الولايات المتحدة، آلية لمراقبة الاستثمارات الأجنبية، بهدف تهدئة مخاوف الولايات المتحدة من الاستثمارات الصينية في ميدان البنية التحتية الحيوية في إسرائيل. وخسرت الصين مناقصة محطة "سوريك-2" لتحلية المياه بعد أن تلقت إسرائيل تحذيرا من وزير خارجية أميركا آنذاك مايك بومبيو، ضد الاستثمارات الصينية في البنية التحتية الحيوية.

دعم الصين للقضية الفلسطينية لا ينبغي أن يشكل مفاجأة للإسرائيليين أو ضربة قاتلة. فلطالما صوتت الصين ضد المقترحات الإسرائيلية في الأمم المتحدة طيلة العقود الماضية

يعد مشروع ميناء حيفا وميناء أشدود الأكثر إثارة للجدل، من بين مشاريع البنية التحتية التي قدمتها الصين لإسرائيل خلال العقد الماضي. ففي عام 2021، فازت مجموعة شنغهاي الدولية للموانئ الصينية بعقد استئجار ميناء حيفا وتشغيله مدة 24 عاما، وهو ميناء يؤمّه الأسطول السادس الأميركي على نحو متكرر. وفي عام 2014، فازت شركة هندسة الموانئ الصينية بمناقصة لبناء ميناء أشدود الذي تديره الحكومة الإسرائيلية الآن. ولم تنضم في ذلك الوقت أي شركة أميركية إلى المناقصة.

بددت إسرائيل مخاوف أميركا بشأن أمن الأسطول السادس في ميناء حيفا بعض الشيء، بإشارتها إلى أن تجسس الصين الذي يمكنها فعله أثناء عملية الميناء، يمكنها أيضا فعله باستئجار شقة في الميناء. وقد زار الأسطول السادس الأميركي ميناء حيفا ثلاث مرات منذ أن بدأت الصين عملها فيه، مما يؤكد أن المخاوف الأميركية هي مخاوف جيوسياسية إلى حد كبير وليست عسكرية بحتة.

أ.ف.ب
فلسطينيون أمام منازل مدمرة في حي التفاح في غزة في 8 يوليو

ومع أن الاستثمارات الصينية لم تشكل سوى 5 في المئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تلقاها قطاع التكنولوجيا في إسرائيل عام 2018، فإن الاستثمارات الصينية في شركات الابتكار والتكنولوجيا الناشئة في إسرائيل أثارت مخاوف الولايات المتحدة على نحو متزايد.

بالنسبة لإسرائيل، فإن الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمية. ولا خيار أمام إسرائيل سوى أن تقيد الاستثمارات الصينية كتفا بكتف تقريبا مع الولايات المتحدة.

تدهور العلاقات الصينية- الإسرائيلية

ووفقا "لاستطلاعات بيو" عام 2019، فقد حظيت الصين باستحسان كبير بين الإسرائيليين. وفي عام 2022، على الرغم من فيروس "كورونا"، كان نصف الإسرائيليين تقريبا ممن شملهم الاستطلاع ينظرون إلى الصين باستحسان، مقارنة بنحو 20 في المئة فقط في الولايات المتحدة. ويتشارك الإسرائيليون وجهة نظر أكثر إيجابية تجاه الصين مقارنة بنظرة الغرب.

مما لا شك فيه أن شعبية الصين بين الإسرائيليين سوف تتضاءل بعد 7 أكتوبر بسبب انتقاداتها الحادة. إلا أن دعم الصين للقضية الفلسطينية لا ينبغي أن يشكل مفاجأة للإسرائيليين أو ضربة قاتلة. فلطالما صوتت الصين ضد المقترحات الإسرائيلية في الأمم المتحدة طيلة العقود الماضية. ولا جديد في موقف الصين من القضية الفلسطينية.

وليس الاضطراب الذي أصاب العلاقات الصينية- الإسرائيلية في جوهره اقتصاديا ولا حتى أمنيا، بل هو في جوهره جيوسياسي. فقد بدأت العلاقات الثنائية بينهما في ظلال ما شهدته العلاقات بين الولايات المتحدة والصين من دفء منذ أربعة عقود ونصف. ومن المحتم أن يتبع مسار هذه العلاقة مسار العلاقات الأميركية- الصينية الآخذة في التدهور. ولا يبدو أن الصين أو إسرائيل أمامهما خيار كبير لتغيير هذا الواقع.

ولا لوم على غزة في ذلك، فأيا ما تكن الاستراتيجية أو الموقف الذي تتبناه الصين من الشرق الأوسط، فإن علاقاتها مع إسرائيل، الحليف الأقوى للولايات المتحدة في المنطقة، لا بد أن تتدهور.

* نشر المقال في 21 يوليو وتم تحديثه في 23 يوليو 2024

font change

مقالات ذات صلة