نحن مواطنون طباعيّون، أي نطبع الورق حتى هذه اللحظة، ومع ذلك غيّرت وسائل الإعلام التقنية عاداتنا في القراءة وأصبحنا مواطنين رقميين، وهو ليس بموضوع جديد، لكن الرجوع بين حين وآخر إلى المحتويات والمشاركات التي تحدث بيننا على شبكات التواصل الاجتماعي، يثبت لنا أكثر فأكثر هذا التغير في سبل استخدامنا للمعلومات، وتفاعلنا الثقافي. لم تعد المنشورات الورقية، التي تتعرض لاضطرابات قوية، مصدرا من مصادر هذين الاستخدام والتفاعل، وهذا ليس خطأ الإنترنت ولا التكنولوجيا في طبيعة الحال.
فقرّاء اليوم عامة يستهلكون المنصات السمعية والبصرية بشكل شبه كامل، ويمضون الكثير من الوقت يوميا على المنصات، وينتشرون عبر حسابات ومنصات رشيقة جدا في التوزيع، وهذ ما كسر قواعد السوق الورقي، خاصة الدوريات الثقافية، بالتحديد في العالم العربي، تلك التي لا تتلقى دعما من حكومات، فلم يعد ممكنا لها الاستمرار ورقيا.
إذاً، الإحصاء ضروري لمعرفة أنفسنا، مع التعرف الى نسيج النشر (التقليدي)، أي باعة الكتب والموزعين والناشرين... هل يستمرون؟ وهل نواصل استخدام الورق أم نودّعه؟فناشر اليوم يواجه نقاطا منتشرة على الخريطة الإلكترونية، تزداد اتساعا مثل الفقاعات المفككة، ترتفع وتنفقئ، مع كل فرد صغير وكبير يستطيع فعل ذلك، فكيف للناشر الورقي أن يحافظ على عدد ولو قليل من القراء أو المستهلكين الذين لديه؟
علينا أن نعترف بأن التحول الرقمي هو الأفضل، فهو الأقل تكلفة والأكثر انتشارا
علينا أن نعترف بأن التحول الرقمي هو الأفضل، فهو الأقل تكلفة والأكثر انتشارا، بعد أن أُغلق الكثير من المكتبات، وتوقف العديد من الدوريات والمجلات والمطبوعات الورقية، اثر معاناة كبيرة للناشرين المستقلين، والشركات المتوسطة الحجم، ممن يحاول بعضهم استبدال نوع المنشور والطرح من أجل الاستمرار. لكننا رأينا بصورة متسارعة الكثير من النهايات، فحتى أهم وأعظم المحررين المحميين بشبكة واسعة من القراء قد تأثروا، ومن أجمل الأدلة شجاعة صحيفة "غارديان" في تحولها الرقمي، وقد سبقت غيرها بسبب الإحصاءات المسبقة، والنتيجة كانت طريقة تفكير مختلفة تماما للحفاظ على الصحيفة، فوضع القائمون عليها استراتيجيا تعاونية بين جميع الأطراف، لتتحول رقمية بكل بسالة.
فماذا عن الإحصاءات في الدول العربية، حول الدوريات الثقافية، هل هناك جدية حولها؟ أم أن الأمر يعتمد على الدعم والاستراتيجيات التعاونية بين الأطراف، خاصة أن غالبية الدوريات الثقافية عمرها عقود، ولديها تراث ثقافي ضخم، وبالتالي فإن تحولها إلى رقمي لن يكون مهمة مستحيلة، فالجمهور القارئ اليوم يتألف من مواطنين رقميين، وليسوا من عالم ورقي وتلفزيوني وإذاعي.
هل القراء الشباب في الجامعات والمدارس، لا يزالون يجدون في تلك الدوريات ما يلبّي تطلعاتهم؟
كما أن هناك سؤالا، علينا أن طرحه اليوم: لمن تُوجّه الدوريات الثقافية اليوم ثقافتها، من فلسفة وشعر وتاريخ وأدب؟ وهل القراء الشباب في الجامعات والمدارس، لا يزالون يجدون في تلك الدوريات ما يلبّي تطلعاتهم؟ لا نبالغ إن قلنا إن غالبية الدوريات الثقافية العربية لا تبني معاييرها في العمل على فكرة التواصل مع أعمال المؤلفين والموسيقيين والفنانين والمبدعين الجدد عبر طرح تلك الأعمال والتفاعل معها، وبالتالي الحفاظ على القراء من هذا العمر وإثارة اهتمامهم، والأهم التفكير الدائم بأننا بحاجة إلى جذب الشباب إلى عالم الثقافة، وهذا يعني استهداف الجمهور الأكبر عددا، بدلا من جمهور محدّد، مما يعني الانتقال إلى ثقافة رقمية حقيقية، والقفز إلى الأمام بالعثور على جمهور شاب بجانب الجمهور الاعتيادي. أو فلنقل علينا إيجاد الطبقة التكنولوجية الشابة، وجذبها تدريجيا وبعمق إلى عالم الثقافة، وهو ما يعني تبنّي استراتيجيات ذكية وتناول نطاق أوسع من الموضوعات، لا سيما أن معظم الشباب ما عادوا يُقبلون على الدوريات الثقافية التقليدية، ولا يتواصلون مع ما تطرحه من رؤى وأفكار، وبالتالي فمن الضروري لاستمراريتها، الاستماع إلى رؤى الشباب النقدية وإيجاد سبل مبتكرة للتواصل معهم، فالمسألة في نهاية المطاف ليست طريقة تقديم المحتوى الثقافي، ورقية أم رقمية، بل أن يستمرّ هذا المحتوى في أن يكون جذابا ومجديا وقابلا للنمو والتجدّد.
فهل آن أوان العد التنازلي لاختفاء الدوريات الثقافية الورقية في بطن الإنترنت آكل الورق؟