"لا ستريغا" ساحرة الفضاء الأدبي الإيطالي

فوز "السنّ الهشّة" لدوناتيلا بييترأنطونيو

 Reuters
Reuters
دوناتيلا بييترأنطونيو وفي عام 2024، فازت بجائزة "لا ستريغا" عن رواية "السنّ الهشّة"

"لا ستريغا" ساحرة الفضاء الأدبي الإيطالي

لعلّ ما يسحر فضاء الأدب الإيطالي خلال السنوات الأخيرة، هنّ الكاتبات في الدرجة الأولى. فقد فازت في أهم جائزة أدبية إيطالية، "لا ستريغا" (الساحرة حرفيا)، في دورة العام الماضي، آدا ده آدامو، وتلتها هذا العام دوناتيلا بييتر أنطونيو عن روايتها "السنّ الهشة"، والمقصود بالسنّ الهشة هنا المرحلة التي يدخل فيها الشابات والشبان في معترك الحياة وما ينتظرهم من مفاجآت يمكن حتى أن تودي بحياتهم.

تسلط رواية بييتر أنطونيو الضوء على هذه المرحلة الفاصلة، من خلال حادثة اختفاء ثلاث فتيات في إحدى الغابات. نقرأ في مقطع من الرواية: "الهشاشة تلازمنا دوما، آباء وأبناء، عندما نحتاج إلى إعادة البناء وعندما لا نعرف حتى أين نضع الأسس. ولكن هناك لحظة محددة، عندما نلقي بأنفسنا في العالم، مكشوفين وعراة، وعلى العالم ألا يؤذينا. لهذا السبب تنظر لوتشيا، التي نجت بالمصادفة في إحدى الليالي قبل ثلاثين عاما، بخوف إلى صمت ابنتها. في تلك الليلة في دِنْتي ديل لوبو (ناب الذئب)، كانوا جميعا هناك، الرعاة وأصحاب المخيّم والصيادون ورجال الدرك. الجميع، باستثناء ثلاث فتيات لم يعد لهنّ وجود".

قوة ثقافية دافعة

تأسّست "لاستريغا" في روما عام 1947 على يد الزوجين ماريا وغوفريدو بيللونتشي، وذلك بفضل تمويل غويدو ألبرتي، منتج المشروب الكحولي، "ستريغا"، الذي منح اسمه للجائزة. يرتبط هذا الاسم أيضا بأسطورة ساحرات بنيفنتو في مقاطعة كامبانيا، التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر. بناء على الاعتقاد الشائع، كانت الساحرات يلتقين تحت شجرة تسمى "جوز بنيفنتو"، حيث لا يختلف مظهرهن خلال النهار عن سائر النساء، لكنهن في الليل يحلّقن في سماء المدينة وينشدن ترانيم سحرية، أشهرهنّ تشيكّولارا وينارا ومانولونغا.

يرتبط اسم الجائزة بأسطورة ساحرات بنيفنتو في مقاطعة كامبانيا، التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر

بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أصبحت الجائزة قوة دافعة لعالم الثقافة الإيطالية، التي أنهكتها الديكتاتورية الفاشية لأكثر من عشرين عاما. تورد ماريا بيلونتشي، في مذكراتها أنه "في شتاء وربيع عام 1944، بدأ الأصدقاء والصحافيون والكتّاب والفنانون والأدباء وناشطون من كل الأحزاب يجتمعون للمشاركة في موضوع مؤلم في الحاضر وغير مؤكّد في المستقبل. ثم، بعد الرابع من يونيو/ حزيران، مع نهاية كابوس تحرير روما وسقوط الفاشية، استمر الأصدقاء في الحضور، وفي الحقيقة كانت تلك محاولة لأن نكون متّحدين لمواجهة اليأس والتشتت".

كان أول كاتب يحصل على "جائزة لا ستريغا" عام 1947 هو إنيو فلايانو عن روايته "زمن القتل" التي صدرت أخيرا عن "منشورات المتوسط" بترجمة الناقد السينمائي العراقي عرفان رشيد. وحتى عام 2024، فازت ثلاث عشرة امرأة بالجائزة: الأولى إلسا مورانتي، في عام 1957، تلتها ناتاليا غينزبرغ (1963)، آنا ماريا أورتيزه (1967)، لالّا رومانو (1969)، فاوستا تشالنتي (1976)، ماريا بيلونتشي (1986)، ماريا تيريزا دي لاشا (1995)، داتشا مارايني (1999)، مارغريت ماتسانتيني (2002)، ميلانيا ماتسوكّو (2003)، الألمانية المنحدرة من عائلة بولندية هيلينا يانيتشيك (2018)، آدا ده ادامو (2023)، ودوناتيلا دي بييتر أنطونيو (2024). بينما فاز بالجائزة منذ تأسيسها خمسة وستون رجلا، من بينهم أمبرتو إيكو وتشيزاره بافيزه ودينو بوتزاتي، ولا يزال نقص التكافؤ بين الجنسين ضمن قائمة المتأهلين للتصفيات النهائية والفائزين بالجائزة يثير استياء الحركات النسوية.

 Reuters
الكاتبة والمترجمة الإيطالية ماريا بيلونشي (ماريا فيلافيكيا بيلونشي) تجلس على مكتبها، في روما

أما الكتّاب الذين فازوا مرتين بالجائزة، فهما باولو فولبوني، في عام 1965، عن روايته "آلة العالم"، وفي عام 1991، عن روايته "الطريق إلى روما"، وساندرو فيرونيزي الذي حاز  الجائزة للمرة الثانية عن رواية "الطنّان"، بعد المرة الأولى في عام 2006 عن رواية "فوضى هادئة".

أصدقاء الأحد

تنص آلية الجائزة على أن يعهد اختيار الفائز إلى مجموعة من أربعمئة رجل وامرأة من القراء المختارين، بمن في ذلك الفائزون السابقون. ولا يزال يُطلق على أولئك الذين يشكّلون هيئة المحلفين اسم "أصدقاء الأحد"، نسبة إلى اليوم المختار لاجتماعاتهم الأولى. يمكن للأعضاء الأربعمئة اقتراح العناوين التي يفضّلونها، وكل عضو له الحق في الإشارة، بعد الحصول على موافقة المؤلف/ المؤلفة، إلى العمل الذي يستحق المشاركة في الجائزة، مصحوبا برأي نقدي موجز عن الرواية المقترحة.

لا يزال نقص التكافؤ بين الجنسين ضمن قائمة المتأهلين والفائزين يثير استياء الحركات النسوية

يُسمح حاليا بمشاركة 12 عملا كحد أقصى (القائمة الطويلة)؛ في حالة وجود عدد أكبر من الأعمال المقترحة، تختار اللجنة التوجيهية الكتب الاثني عشر المقبولة للمشاركة بقرار غير قابل للاستئناف. يحدد اختيار آخر (عادة في شهر يونيو/حزيران) الأعمال الخمسة النهائية (القائمة القصيرة)، على الرغم من أنه في ثمانية إصدارات (1953، 1960، 1961، 1963، 1979، 1986، 1999 و2020) كان من الضروري إضافة عمل سادس إلى مجموعة المتأهلين للتصفيات النهائية، إذ تتطلب اللائحة أن يكون هناك كاتب واحد على الأقل منشور له عمل من قبل ناشر متوسط ​​الحجم، بينما في عام 2022 ولأول مرة في تاريخ الجائزة، كان هناك سبعة متأهلين للتصفيات النهائية في الجولة الثانية، مع مرشحَين اثنين على قدم المساواة في المركز الخامس، صدرت روايتاهما عن دار نشر صغيرة وأخرى متوسطة.

يجري التصويت النهائي لـ"أصدقاء الأحد" الذي يعلن العمل الفائز، ويُبث مباشرة منذ عام 2014 على القناة الحكومية الثالثة "راي 3"، في يوم الخميس الأول من شهر يوليو/ تموز في "نيمفايوم" (النيمفايوم هو مبنى روماني مقدّس مخصص لحوريات الماء، وغالبا ما يقع بالقرب من نافورة أو مصدر للمياه) بالمتحف الإتروسكي الوطني في فيلا جوليا في روما. الاستثناء الوحيد كان في عام 2016، لمناسبة الدورة السبعين للجائزة، عندما أقيم حفل توزيع الجوائز في أول جمعة من شهر يوليو/تموز (8 يوليو 2016) في قاعة باركو ديلا موزيكا، في روما أيضا.

في عام 2014، خلال الدورة نصف السنوية للرئاسة الإيطالية لمجلس الاتحاد الأوروبي، أُعلن إطلاق جائزة "لا ستريغا الأوروبية" بفضل التعاون بين مؤسسة بيلونتشي، ومؤسسة كازا ديلي ليتّيراتورا، ومهرجان روما الدولي للأدب وممثلية الأدب في إيطاليا لدى المفوضية الأوروبية.

تُمنح الجائزة سنويا لأعمال تتصف بالأصالة والعمق في السرد المعاصر لمؤلف أوروبي فاز بجائزة وطنية ذات صلة بالبلد الذي نُشرت فيه روايته.

جدال

صاحَبَ الجائزة منذ تأسيسها الكثير من الجدال في عالم الثقافة والنشر، أشهرها موقف بيار باولو بازوليني، عندما نشر رسالة عشية منح الجائزة في الرابع والعشرين من شهر يونيو/حزيران عام 1968، على صفحات جريدة "إل جورنو" بعنوان "أنا أتهم"، يعلن من خلالها انسحابه من المسابقة الأدبية التي كان يتنافس فيها في ذلك العام برواية "تيوريما - النظرية"، وعنوان فرعي ينطوي على اتهام درامي: "باسم الثقافة أنسحب من جائزة لا ستريغا".

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يشارك فيها بازوليني في جائزة "لا ستريغا"، إذ حاول ذلك سابقا في عام 1955 مع رواية "فتيان الشارع"، وبعد أربع سنوات، في عام 1959، مع "حياة عنيفة"، التي تعد واحدة من أشهر رواياته. في عام 1959، كان على بعد خطوة واحدة من نيلها، لكن فوز جوزيبي تومازي دي لامبيدوسا برواية "الفهد" - بعد وفاته – حالت دون ذلك. ولكن هذه المرة كان هناك شيء مختلف، فقد كان استياء المؤلف غامرا وعلى وشك أن ينفجر، مما يخاطر بإطاحة هيبة الجائزة نفسها وتفجير المنافسة بأكملها.

استنكر بازوليني تدخل "الناشر الصناعي" في دائرة أدبية يعتبرها المؤلف بحكم تعريفها "غير صناعية"

لماذا قرر بازوليني فجأة، في واحد من أعظم أعمال التمرد التي ميزت مسيرته الأدبية والفنية الانسحاب من الجائزة؟ من الواضح أنه فعل ذلك بطريقة درامية. ففي نهاية المطاف، كان عام 1968، عام الاحتجاجات الطالبية الأوروبية والثورات التحررية في دول العالم الثالث، وفي أعقاب مناخ كهذا، صاغ بازوليني أيضا اتهامه، الذي ترك بصمة لا تمحى.

وفي تبريره لأسباب انسحابه - الذي لم تقبله لاحقا ماريا بيلونتشي ومنظمو الجائزة - شن بازوليني هجوما قاسيا على "الصناعة الثقافية" التي سيطرت عليها البورجوازية الجديدة ووضعت جائزة "لا ستريغا" في أيدي صنّاع الثقافة من الرأسماليين الجدد.

واستنكر بازوليني تدخل "الناشر الصناعي" في دائرة أدبية يعتبرها المؤلف بحكم تعريفها "غير صناعية". وتكرر الصراع الأبدي بين النشر التجاري والنشر الثقافي في كلام المؤلف. يقول بازوليني إن الكتاب أصبح الآن "منتجا استهلاكيا" يجب أن يستجيب لمعايير السوق الاقتصادية البحتة. والنتيجة هي أن "الأعمال التافهة والكتب التافهة والكتاب غير الموهوبين" تُطرح أعمالهم في السوق.

وعرّف الكاتب "جائزة لا ستريغا" بأنها "ميدان عمليات النزعة الاستهلاكية الأكثر وحشية"، وذكر من خلال انسحابه أنه لا يريد أن يكون شريكا في هذا الوضع وغير مستعد للتنازلات. وفي الختام، أعرب عن أمله في إمكان إعادة تشكيل جائزة "لا ستريغا"، والوقوف إلى جانب المصالح الثقافية لا المصالح الصناعية.

أثارت تهمة بازوليني ضجة كبيرة، واستقال ألبرتو مورافيا وداتشا مارايني، تضامنا، من دورهما كناخبين. لكن انسحاب الكاتب لم يُقبل في النهاية. ومع ذلك، شاركت "تيوريما" في التصويت النهائي يوم 4 يوليو/تموز وحصلت على 11 صوتا، حددت على مرأى من الجميع على السبورة الرسمية.

الفائز، كما كان متوقعا، كان "عين القطة" لألبرتو بيفيلاكوا، لكن المثير للاهتمام أن اتهام بازوليني ترك أثره الكبير، والحقيقة هي أن الجميع يتذكر اليوم العنوان بالأحرف الكبيرة "باسم الثقافة أنسحب من لاستريغا"، وقلة تتذكر رواية بيفيلاكوا.

font change

مقالات ذات صلة