"مضايف عاشوراء" في لبنان... سيطرة العقلية الحزبية

"مضايف الطعام" تعويض هزيل عن بطولة مأمولة

أ ف ب
أ ف ب
مشاركون في ذكرى عاشوراء في بيروت في 17 يوليو

"مضايف عاشوراء" في لبنان... سيطرة العقلية الحزبية

لم تعرف مواسم عاشوراء (ذكرى معركة كربلاء) في لبنان، ظاهرة "مضايف الطعام"، إلا في السنوات الأخيرة، كواحدة من مظاهر إحياء الذكرى، التي وفدت من العراق، بعد انهيار النظام السابق.

والمضايف موجودة في العراق منذ زمن بعيد، بغض النظر عن تجاوزها حدود المنطق اليوم، وكانت مذ عُرفت، حاجة لا بد منها، لخدمة الزوار الوافدين من مناطق بعيدة إلى مدينة كربلاء للمشاركة في إحياء الذكرى، وبما أن أهل جنوب العراق معروفون بكرمهم وحبهم للإمام الحسين بن علي، فقد كانوا ينصبون الخيام على جانبي الطريق الذي يصل إلى النجف؛ المحطة الأولى للزوار، بكربلاء، محطتهم الثانية، في منطقة تتوسط الطريق تسمى خان النص، فيستريح فيها الزوار ويتناولون التمر والماء والشاي، ثم يكملون سعيهم.

منع النظام العراقي السابق المظاهر العاشورائية كلها، ومنها المضايف، وبعد سقوطه، عاد الشيعة العراقيون إلى إحياء طقوسهم وممارستها بدافع من الحرمان السابق، فبالغوا فيها حد الابتداع، وأصابت هذه الاندفاعة "مضايف الطعام" المتواضعة، فحولتها من ممارسة اجتماعية تعاضدية، إلى طقس استهلاكي ليس له أيه قيمة دينية أو نفحة ثورية أو إنسانية مرتبطة بالذكرى.

ثم انتقل هذه الطقس تدريجيا إلى المجتمعات الشيعية الأخرى، ووصل إلى لبنان، عبر القوى المرتبطة طائفيا وسياسيا وعسكريا بالعراق الجديد، لتجعل منه كرنفالا سنويا، يزيد من إفراغ الذكرى من معانيها من جهة، ويعزز الهوية الطائفية والولاء السياسي، من جهة أخرى.

تحولت المضايف في لبنان إلى كرنفال سنوي، يزيد من إفراغ الذكرى من معانيها من جهة، ويعزز الهوية الطائفية والولاء السياسي، من جهة أخرى

لكن، برغم المبالغات التي أصابت "مضايف الطعام" في العراق، تبقى ظاهرة لها مبرراتها، لأنها نشأت تلبية لحاجة حقيقية، أما المضايف المنتشرة بأعدادها المهولة في لبنان، فتقدم الطعام والشراب للناس الخارجين للتو من مطابخهم، ما ينفي دواعي إقامتها، إضافة إلى أن الإسراف في ما تقدمه من صنوف، يُوحي وكأن التخمة واجب مقدس، على النقيض لما نُقل عن الرسول وأهل بيته، من دعوات إلى الزهد والتقشف في ما يدخل البطون.

في هذا الموسم تحديدا، خرجت الظاهرة عن حدود العقل والتفكير، بعد دعوة الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، إلى مضاعفة أعداد المضايف قدر المستطاع، وبذل ما في الجيوب لتوزيع الطعام.

يقول أحد المتتبعين لتحولات عاشوراء بين الماضي والحاضر، إن "أهل جبل عامل (الجنوب اللبناني) كانوا يكتفون في مواسم عاشوراء، بتوزيع الماء، لأن الماء له رمزية في عاشوراء، فالرواية تحدث أن الحسين وصحبه وأهل بيته قضوا عطشى، ثم صاروا يصنعون الكعك ويقدمونه عن روح الحسين، أما الهريسة (مزيج من القمح واللحوم) فلم تكن حكرا على الشيعة، فهي تقليد قروي ماروني أيضا، ثم  صار هناك أحزاب ومؤسسات وممولون وعائلات وحسينيات وطهاة وعائلات، خطفوا الذكرى وطقوسها وعاداتها، وطيفوها وسيسوها وحرفوا معانيها وقيمها وأهدافها، لغايات سلطوية". 

وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، منذ يومين أحيت سلطة الأمر الواقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، ذات الغالبية الشيعية، ذكرى عاشوراء بطبخ أكثر من أربعة أطنان من الهريسة، كاسرة الرقم القياسي لأكبر وليمة في تاريخ الشيعة في لبنان، وتفاخر المعدّون بزحمة الناس حول المواقد المنصوبة في الشارع، برغم أن المشهد في إطاره العام كان مسيئا لكرامتهم الإنسانية، وانكشافا لخصوصياتهم، لذلك ارتفعت أصوات تدعو إلى تهذيب المشهد العام للذكرى، والحرص على عدم تحويلها إلى سوق للأكل، يتنافس فيه الطهاة على إعداد أشهى الأطباق.

تقول نازحة جنوبية تُقيم في النبطية إن "مشاهد الازدحام والاكتظاظ والخناقات، أمام مضايف الطعام، تُشعرني بالخجل، كذلك المقاطع التصويرية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، لصواني الأرز واللحم والدجاج والقيمة العراقية والمناسف والكعك والكنافة والعصائر وغيرها، وتعلو في خلفيتها الندبيات الحسينية"، وتسأل: "لماذا لا يوجد مثل هذا الازدحام أمام مراكز الإيواء، أو لإعانة فقراء الحي والأرحام والمرضى والطلاب، خصوصا أن المضايف هي لغير الجائعين؟ أليس عيبا هذا التفاخر العلني في هكذا أوضاع إنسانية، فشمال غزة يموت جوعا، كذلك السودان، ودول المحور كلها تنوء تحت ثقل الجوع من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى إيران؟".

والمفارقة أن الذكرى تلتصق بالعطش، فلمَ الإصرار على طقس الأكل، والصرف عليه إلى هذا الحد؟ هذا السؤال يشغل حاليا الطائفة الشيعية بطبقاتها الاجتماعية وتوجهاتها السياسية، وقد نقل النقاش التاريخي، حول تحويل عاشوراء من ثورة على الظلم إلى بكائية، إلى مستوى السجال اليومي حول ثوابات الطبخ.

فعقلاء الطائفة الذين يقفون دوما بوجه البدعة لئلا تصبح ضلالة، يعترفون بأن ظاهرة المضايف أزاحت مشهد البكاء والتفجع الذي كان محل نقد، من الواجهة، وحلت مكانه.

رويترز
مؤيدون لـ"حزب الله" يشاركون في إحياء ذكرى عاشوراء في الضاحية الجنوبية لبيروت في 17 يوليو

ويرون أن الاستثمار في عاشوراء صار مزدوجا: استثمار مادي من قبل قراء العزاء الحسيني، وسياسي من الأحزاب، في البكائية، واستثمار في المضايف، وفي الحالين، نجح المستفيدون في تجريد المناسبة من قيمها الإنسانية، وتشويه أهدافها النبيلة.

في الحديث عن البكاء وقبل الوصول إلى ظاهرة المضايف، كان عدد من رجال الدين الشيعة المتنورين، أمثال: محمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، ومحمد حسن الأمين، وهاني فحص، قد بذلوا جهودا جبارة لتصويب أهداف عاشوراء أولا وتهذيب فعالياتها ثانيا، طمعا في إخراجها من دائرة الاستغلال العاطفي، وحاولوا الإفادة من مفاهيمها لمواجهة الفاسدين، وبناء مشروع إصلاح سياسي داخل الطائفة. لكن، ولأسباب سياسية معروفة، انتصرت الجهة التي غلّبت البعد البكائي للذكرى، على حساب بعدها الثوري.

الاستثمار في عاشوراء صار مزدوجا: استثمار مادي من قبل قراء العزاء الحسيني، وسياسي من الأحزاب في البكائية، واستثمار في المضايف. وفي الحالين، نجح المستفيدون في تجريد المناسبة من قيمها الإنسانية

إن العقلية الحزبية- الدينية التي سيطرت بالتدريج على المجتمع الشيعي، منذ ما بعد انتصار "الثورة" في إيران، أدركت أن الطريق إلى تعزيز سلطتها، لن يستقيم إلا باستغلال شعار المظلومية التاريخية التي تجسدها عاشوراء، بعد رفدها بشعور المحرومية الحديثة، فخطفت عاشوراء واحتكرتها، ثم ألبستها ما يناسبها من مواقف ومفاهيم.
وعن هذه النقطة تحديدا، كتب محمد مهدي شمس الدين أن "الشيعة مخطئون في فهمهم لهذه الذكرى على أنها ذكراهم، وهذه سرقة... فعاشوراء ليست لهم وحدهم بالتأكيد، وحكم يزيد لم يعارضه شيعة أهل البيت فقط، بل الكثير من المسلمين".

وتفسر سيدة شيعية معارضة، احتكار الشيعة للذكرى، بقولها: "إن خصخصة تلك المناسبة، ضمِنت سلطانا مديدا لرجال دين وسياسيين شيعة، ونصّبتهم ملوكا يرث بعضهم بعضا، لذلك، لو لم يكن هناك عاشوراء لاخترعوها".
لكن، هل هناك سبب آخر، يكمن خلف هذه المبالغات الفاقعة في المضايف؟

من الواضح أن الأيديولوجيا قد عجزت هذا الموسم، عن تقديم فكرة جديدة عن عاشوراء، في ظل ما يجري في غزة، أو لعل عاشوراء بحد ذاتها، تراجع ثقلها المأساوي أمام المأساة المستمرة في غزة منذ تسعة أشهر، فإذا أردنا الحديث عن أهل الكوفة، أو عن كربلاء، أو عن الجوع والعطش، أو عن حرق الخيام، أو أي مشهد آخر، ستحضر غزة كشاهد حي على كل هذا وأكثر، لهذا سارع المصنع الأيديولوجي لإنتاج حيلة ذكية وعلى قدر كبير من العبثية، وهي إشغال الناس عن أسئلة غزة وإلهاؤهم بالطعام. 

وعليه، يجري الحديث عن أن دعوة نصرالله، إلى المبالغة في إقامة مضايف الطعام، تعويض هزيل عن بطولة مأمولة، ليست في المتناول، وتنكّر سريع وعند أول احتكاك لشعار "تحرير القدس"، فدعوة وحدة الساحات هي نفسها دعوة الحسين إلى نصرته في معركته غير المتكافئة، أما ترك أهل غزة وحدهم، فهو انعكاس لما قاله الحسين في كربلاء، بعدما حاصره جيش يزيد وتخلى عنه من دعوه "دعونا إلى الحرب لينصرونا فعدوا علينا يقاتلونا".

يفسر معارض شيعي ما يجري قائلا: "كأن (نصر الله) يقول إننا لسنا بحاجة إلى استخلاص أفكار وعبر ثورية جديدة، ولا نريد رؤوسا حامية ودعوات إلى الحرب والنصر والشهادة، ولا حماسة ولا زخما ولا تحشيدا، أكثر مما يحصل"، ويقول: "برغم أن جبهة الجنوب مفتوحة منذ أكثر من تسعة أشهر، فإنه يمكن القول إن الحزب يحارب سياسيا، ويلتزم بالمناورة المحدودة والمحددة، ولا ينوي القفز عن الطوق، ولأجل استمرار هذا الوضع من دون مساءلة، عليه حرف اهتمام الناس من عقولهم إلى بطونهم".

إذن، برغم أن أهمية المناسبة، لا تتوافق والتخمة التي تصيب الشيعة هذه الأيام، فإن التكليف السياسي كان أكثر قدرة على توجيههم من العاطفة الدينية، لذلك انصرفوا منذ بداية شهر محرم، إما إلى إقامة مضايف الطعام وإما إلى الأكل، ليساهموا من دون وعي منهم في نزع البعد الإنساني عن الذكرى، وعزلها عن الحدث الآني الدائر حولها.

font change

مقالات ذات صلة