اعتدال ترمب في "المؤتمر الجمهوري"... تكتيك انتخابي أم توجه جديد؟https://www.majalla.com/node/321306/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%84-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D9%8A%D9%83-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D8%AA%D9%88%D8%AC%D9%87-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%9F
كان لافتا وغير مألوف تماما أن يستنفر المرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترمب، في خطابه أمام المؤتمر الوطني الجمهوري، الذي عُقد في مدينة ملاوكي، روحَ الوحدة بين الأميركيين، ويتحدث ضد "التفرقة"، مؤكداً للأميركيين "أننا نرتفع سوية ونسقط سوية"، ورافضا أن "نشيطن الاختلاف". ركز الرجل في خطابه على محاولة الاغتيال التي تعرض لها في بنسلفانياً مؤخراً، متناولا إياها بقدر من التفصيل في سياق إنساني، لشخص يواجه احتمالات موت قريب عبر الاغتيال، وليس لسياسي يقاتل معارضيه الأقوياء الذين يحاولون إنهاء حياته. على نحو غير متوقع، كانت لغة الرجل هادئة تثير التعاطف وما هو مشترك بين الأميركيين، وليست صاخبة أو عدوانية تستنفر حس الصراع التي عُرف بها الرجل.
لم يكن هذا الخطاب الترمبي جديدا ومفاجئا فقط، بل كان أيضا مناسبا تماما لمؤتمر وطني جمهوري هدفه التقليدي والصحيح هو كسب أصوات الناخبين، خصوصا المتأرجحين، وليس إثارة العداوات التي تُغذي أحاسيس عدم الارتياح بين الكثير من الناخبين.
يعتبر المؤتمر الوطني الجمهوري، كما مثيله الديموقراطي الذي سيُعقد في مدينة شيكاغو الشهر المقبل، الحدثَ الأهم في حياة "الحزب الجمهوري" الذي يحصل في كل سنة رئاسية انتخابية، أي مرةً كل أربع سنوات. الغرض القانوني لعقد المؤتمر هو تسمية المرشح الرئاسي للحزب من خلال عملية انتخاب حزبي، شبيهة بإجراءات المجمع الانتخابي الذي ينتخب الرئيس الأميركي في جلسة أمام الكونغرس في يناير/كانون الثاني، بعد شهرين من الانتخابات الرئاسية العامة في نوفمبر/تشرين الثاني. فبعد أجراء الانتخابات التمهيدية لـ"الحزب الجمهوري" في الولايات الخمسين والأراضي الخمسة التابعة لأميركا على مدى بضعة أشهر، تبعث هذه كلها ممثليها عن الفائزين والخاسرين في هذه الانتخابات إلى المؤتمر الوطني الانتخابي ليدلوا بأصواتهم فيه تعبيراً عن أصوات الناخبين المشاركين في هذه الانتخابات التمهيدية. عبر هذه العملية فقط يصبح الفائز قانونياً مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية.
عدا استيفاء هذا الشرط القانوني، فإن الغرض الأهم للمؤتمر الوطني، جمهورياً وديموقراطياً، هو الدعاية الانتخابية للمرشح الرئاسي باستخدام كل الوسائل المتاحة. هذا عملياً ما حصل في أيام المؤتمر الجمهوري الذي اختتم أمس واستمر أربعة أيام، من الإثنين إلى الخميس (بين 15 و18 يوليو/تموز الحالي). تأتي الفقرة الأهم في المؤتمر في يومه الأخير حين يلقي المرشح الرئاسي، الذي اصبح رسمياً مرشح الحزب، دونالد ترمب، خطاب الترشيح.
في القضايا الاجتماعية الداخلية، كالإجهاض، ظهرَ في برنامج ترمب بعض التراجع عن الخطاب القاسي والقاطع
في إطار الترويج لترمب، المهمة الأساسية للمؤتمر، حَشَدَّ المؤتمر نحو 80 متحدثا مختلفا ألقوا خطباً معدة بعناية هدفها إظهار جوانب مختلفة إيجابية في شخصية ترمب سياسيا واجتماعيا وانسانيا، كجد يحب أحفاده، كما فعلت، على نحو بدا عفويا، حفيدته كاي ماديسون ترمب، مرورا بنائبه، جي. دي. فانس الذي أكدَّ، كما حفيدة ترمب، على الجانب الشخصي في الأشياء المتعلقة بتحديات جذوره المتواضعة وصولا إلى نجاحه، ليتوقف عند الفشل الفظيع المفترض في سياسات الرئيس جو بايدن. ثمّ كان خطاب ابن ترمب الأكبر، دونالد، الذي تناولَ سياسات والده كرئيس والتي بحسبه جعلت "أميركا عظيمة مرة أخرى"، رغم سعي الديموقراطيين، بحسب ترمب الابن، لافشاله عبر رفع قضايا في المحاكم ضده لهزيمة "أمل أميركا الوحيد"، لكن من دون نجاح!
بخلاف المعتاد، لم يحتو المؤتمر الكثير من المعلومات عن البرنامج الانتخابي لترمب الذي أشار إلى 20 وعد انتخابي، عبر وثيقة وزعت في المؤتمر تحت عنوان "البرنامج السياسي لعام 2024 للحزب الجمهوري لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى". تضمنت هذه الوعود الأفكار الترمبية المألوفة كالحمائية الاقتصادية عبر فرض المزيد من التعريفات الجمركية على الواردات الأجنبية، وتخفيضات ضريبية كبيرة للأكثر غنى، والانعزالية السياسية عن العالم الخارجي، وسياسات هجرة متشددة، ضد "الغزو في حدودنا" تتضمن تهجيراً قسرياً لمهاجرين غير قانونيين، وغيرها الكثير من السياسات التي تعرض رؤية ترمب اليمينية المتشددة مما لا يتسق بسهولة مع القيم الجمهورية التقليدية التي تقوم على حرية التجارة ودعوات الزعامة الأخلاقية للعالم، والتعاون مع أوروبا الغربية كخيار استراتيجي طبيعي، والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية خارجياً للدفاع عن المصالح الأميركية.
أما في القضايا الاجتماعية الداخلية، كالإجهاض، ظهرَ في البرنامج بعض التراجع عن الخطاب القاسي والقاطع، مقارنة ببرنامج الحملة الانتخابية في 2016، بخصوص اعتبار الإجهاض خطأ أخلاقيا ودينيا باسم الدفاع عن "الحياة الإنسانية. . . لأطفال لم يُولدوا" لصالح فهم حقوقي للأمر يتعامل معه بوصفه شأناً قانونياً يتعلق بالولايات، وليس بالحكومة الاتحادية.
على مدى سبعين دقيقة، لم يتحدث ترمب عن استثنائيته كشخص قادر على القيام بما لا يستطيعه الآخرون
غاب عموماً في المؤتمر الاستغلال المتوقع لمحاولة اغتيال ترمب في بنسلفانيا عبر توجيه سهام الاتهام للديموقراطيين بأن خطابهم المعادي لترامب ساهم به، كما غابت ايضاً اللغة القاسية والحادة ضد "الحزب الديموقراطي"، خصوصاً ضد بايدن، كأشخاص تتم عادة شيطنتهم في الخطاب الترمبي التقليدي، لصالح الاكتفاء بنقد السياسات الديموقراطية والآثار السيئة المفترضة لرئاسة بايدن. يعكس هذا "الانضباط" الخطابي، لكامل المؤتمر عموما، ولخطاب ترامب خصوصاً، لجهة غياب التحريض، قرارا من القيادات الجمهورية المهمة، مثل رئيس مجلس النواب، زعيم الأغلبية الجمهورية، مايك جونسون، وزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش مكونال. تحاجج هذه القيادات أن الأميركيين العاديين مَلَّوا خطابَ الانقسام والاختلاف والشيطنة وأن الاستمرار عليه قد يكلف الجمهوريين البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر المقبلة، فضلا عن أهمية الحفاظ على تضامن داخلي في "الحزب الجمهوري" الذي تشكو أقلية مؤثرة فيه من هذا الخطاب المتطرف الذي عُرف ترمب به طويلا.
على مدى سبعين دقيقة، لم يتحدث ترمب عن استثنائيته كشخص قادر على القيام بما لا يستطيعه الآخرون (برغم بعض إشاراته العابرة والضمنية بهذا الصدد في ثنايا الخطاب كادعائه القدرة على إنهاء الحروب باتصال هاتفي)، بل مَرَّ على سياساته المألوفة تحت عنوان "نحن" المتواضعة وليس "أنا" الخارقة: بناء جدار على الحدود مع المكسيك لمنع الهجرة غير القانونية، وتنشيط الاقتصاد، وهزيمة الصين اقتصاديا وكبح التضخم ومواجهة إيران، ودعم إسرائيل وإنهاء الحرب في أوكرانيا، كلّها تحت عنوان استعادة عظمة أميركا المهدورة تحت قيادة إدارة ديموقراطية….
لم يذكر ترامب في خطابه اسم خصمه الديموقراطي، بايدن، إلا مرة واحدة، وأشار إلى أنه يفعل هذا متعمداً. قد يكون هذا جزءاً من خطاب معتدل لم يُعرف به الرجل، استجابة لتوصيات ملحة من قيادات جمهورية، أو ربما قناعة منه بأنه لا جدوى من الهجوم على بايدن وشيطنته، لأنه، في آخر المطاف، لن يكون خصمه في الانتخابات الرئاسية وسيُستبدل بديموقراطي آخر، أو قد يكون ذلك خليطا من الأمرين: التوصيات الجمهورية واحتمالات استبدال بايدن. لكن ما يبدو مؤكدا ومعقولا أن خطابا معتدلا في النبرة الشخصية، وليس في المحتوى السياسي، لا يعني أن ترمب تغيّر كشخص، وإنما اضطر للتكيف مع الوقائع، فكم سيستمر هذا التكيف؟