ما يدور داخل البيوت، وبين أزقة الحواري في هذا العالم الواسع، أكثر بكثير مما تقدّمه لنا تجارب السفر والسياحة. وحدها تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة، وما يسكن قلوب هؤلاء البشر المتناثرين في هذا المحيط الإنساني وعقولهم، بوابة المعرفة والالتقاء، تقارب الروايات والقصص، وهي مهمة للفحص والتحليل، من خلال البحوث الاجتماعية والإثنوغرافية، لتقديم مقاربة ثقافية موضوعية تساهم في بناء الجسور بين الناس في كل مكان. هذا مسعى لا يجب أن نتخلى عنه، رغم كلّ ما يقال عن واقع العلوم الإنسانية، واعتبار البعض لها عديمة الجدوى، إن لم تكن مضيعة للوقت. ذات مرة، قال الشاعر الإيرلندي شيموس هيني إن "فعالية الشعر معدومة، ولم يسبق لأي قصيدة أن أوقفت دبابة"، وهو كلام ربما يكون صحيحا، لكن من قال إن الكلمة العليا هي دوما للقوة أو العضلات وليست للأفكار؟
هناك قصص يومية اعتيادية تحولت إلى بحوث إثنوغرافية اطلعت عليها في أوراق باحثين في مؤتمرات علمية، من بينها تحقيق أجراه باحث أوسترالي حول شكوى سكان بناية يقطنون بجوار مهاجرين، من رائحة طبخ جيرانهم الآسيويين. وقد اعتبر هؤلاء، بحسب مقابلات أجريت معهم، أن انتقال روائح التوابل الآسيوية إلى مطابخهم، نوع من "هيمنة الأقليات" غير المرغوب بهم، على الرغم من محاولة بعض السكان غير المحليين مشاركة أطباقهم الشعبية مع جيرانهم من "العرق الأبيض"، لينعموا بتذوق تلك التوابل المهاجرة. لكن الثقافة، ثقافة رفض الآخر، هي بمثابة عصابة على العين تزرع في ضمير أفراد المجتمع.
ثقافة رفض الآخر هي بمثابة عصابة على العين تزرع في ضمير أفراد المجتمع
هذه الممارسات اليومية من الرفض، ناهيك عن الغرس الثقافي المتجذر في أن حكومة أستراليا لم تتخلّ عن قانون "أوستراليا البيضاء" سوى في نهاية سبعينات القرن الماضي، تغيرت تدريجيا بين عامي 1949 و1973، واستبدلت بالتعددية الثقافية، اقتداء بالولايات المتحدة الأميركية وكندا.
يذكر أن قانون أستراليا البيضاء كان ينطوي على مجموعة من السياسات العرقية الهادفة إلى منع الأشخاص من أصول إثنية غير أوروبية، ولا سيما الآسيويون وسكان جزر المحيط الهادئ، من الهجرة إلى أستراليا.
هذه الأمثلة من المنعطفات الثقافية والسياسية التي تمر بها الدول، تلقي بظلالها على سلوك الأفراد أنفسهم؛ ليس فقط في علاقتهم بالآخر، إنما في مفهومهم عن ذاتهم وموقعهم من الحياة، وهذا ينعكس في الدرجة الأولى على سؤال الهوية الحائر. لا يمكن تعميم تلك الدراسة على كل حال، لكن تظلّ أهميتها قائمة كدليل علمي على حصول مثل تلك الممارسات، وعلى أن السلوك الإنساني يتقاطع حتما مع الثقافة، مما يتطلب معرفة كيف نتفق، ومتى نختلف، وما مبررات الصراع الذي قد ينساه التاريخ أو تتنازل عنه السياسات لكنه يبقى قابعا في أعماق الذات الجمعية.
الثقافة التي تتناولها الدراسات الثقافية ليست مجموعة ثابتة من المعايير والقيم، بل هي شيء يتعرض للتبدل المستمر، وغالبا بطرق متعارضة. ونتيجة التنقلات عبر الهجرة أو الانتقال بدافع العمل أو الدراسة، تنتج سلوكيات وأشكال جديدة، وهذا الأمر طبيعي.
تصر الدراسات الثقافية على ضرورة معالجة المسائل المركزية والملحة والمقلقة التي تعتمل في المجتمعات، وتأتي أهمية دراسة الثقافة والدراسات البينية، والعبر ثقافية، من كونها تساهم في فهم ما يجري في العالم الذي نعيش فيه، ناهيك عن أنها تعزز معرفتنا بتحولات الهوية الناتجة من التمثلات الثقافية وتحولات الثقافة ذاتها، باعتبارها "نهرا لا يمكن السباحة فيه مرتين"، وبوصفها أداة ناجعة للنجاة من الغرق، مما يجعل من التفات صنّاع القرار الى أهمية الدراسات الثقافية والعبر ثقافية ضرورة ومطلبا. فالوعي الأحادي لم يعد مجديا في عالم متعدد الهويات.
لا تهدف معرفة الفروقات الثقافية إلى التطاحن والصراع، إنما إلى المعرفة العلمية الموضوعية، التي تقود إلى وضع السياسات والقوانين، وتساهم في تشكيل هوية الأفراد لقبول الاختلاف واحتضانه والاستفادة منه في معرفة أن ما هو مناسب لغيري لا يناسبني بالضرورة، وأن ما لديّ يضيف الى الآخر ويثريه، فكثير من القوانين والتعديلات فشلت لأنها مجرد محاكاة مباشرة لقوانين وجدت في ثقافات أخرى.
حان الوقت لانفتاح حقيقي يحتم دراسة الثقافات، ويستفاد منه ليكون بمثابة بوابة خضراء تنعش اقتصادات الدول
تتردد تقارير في الفترة الأخيرة من مدن مثل برشلونة وأمستردام، تنقل غضب السكان من كثرة السياح واعتبارهم دخلاء يضيقون المكان عليهم، وهذه ظاهرة نفسية اجتماعية تتطلب القراءة والدراسة، وربما تقع في نطاق رهاب الأجانب القائم على الشك وانعدام الثقة وغياب المعرفة بالآخر، وربما تكون لها أسباب محض اقتصادية. وفي أية حال، حان الوقت لانفتاح حقيقي يحتم دراسة الثقافات، ويستفاد منه ليكون بمثابة بوابة خضراء تنعش اقتصادات الدول وتثري المجتمعات ثقافيا واجتماعيا.