وعلى الرغم من التسلسل الزمني الممل، إلا أن غولدبلات ينجح في إضفاء نكهة من الحيوية والخفة على السرد. ويقدم الى القارئ قصصا مثيرة مثل حادثة أحد عدائي الماراثون في الألعاب التي أُقيمت في سانت لويس عام 1904، والذي أعطاه مدربه "مزيجا من الستريكنين والكحول وبياض البيض" بدلا من الماء خلال السباق، ونجح في الفوز بالسباق بفضله. يُظهر الكتاب كيف تتأثر كل نسخة من الألعاب الأولمبية بالقوى الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية، مما يجعلها ليست مجرد سرد لتاريخ للألعاب، بل لتاريخ العالم بأكمله.
"الميل المثالي"
إذا كان هناك رياضة واحدة تُعرّف الألعاب الأولمبية، فهي ألعاب القوى - أي منافسات المضمار والميدان. ظهرت سباقات الأرجل في كل نسخة من الألعاب الصيفية منذ أولمبياد عام 1896. بالنسبة إلى الرياضيين الذين لا يتمتعون بتغطية كافية خارج الأسابيع الأولمبية التي تجري مرة كل أربع سنوات، فإن الألعاب تمثل حافزا لتحقيق إنجازاتهم الملحوظة، وإن بشكل غير مباشر. ففي هلسنكي عام 1952، حل روجر بانيستر، العداء البريطاني، رابعا في سباق 1500 متر، وخسر الميدالية في سباق مثير حيث كان الفارق بين المركز الأول والخامس 0.8 ثانية فقط. إلا أن هذه الخسارة المؤلمة أعطت بانيستر الدافع لتحقيق تألق رياضي بعد عامين في سباق نظمته جامعة أكسفورد: سباق الجري لمسافة ميل في أقل من أربع دقائق.
ساعة العد التنازلي في برج إيفل في 17 يوليو 2024، باريس، فرنسا
يحكي نيل باسكوم في كتاب "الميل المثالي: ثلاثة لاعبين، وهدف واحد، وأقل من أربع دقائق لتحقيقه" (منشورات "هاربر كولينز") ببراعة قصة محاولات كسر هذا الحاجز - الذي كان ولفترة طويلة يُعتبر الكأس المقدسة في سباقات الجري لمسافات متوسطة. ولكن هذه القصة لا تقتصر على شخص واحد فقط: حيث قام كل من الأوسترالي جون لاندي، والأميركي ويس سانتي، بتحدي بانيستر. ويجعل باسكوم من قصصهم ترنيمة تحكي عن قوة الإصرار والمنافسة لتغيير حدود الأداء البشري.
"الهواة"
تمنح الألعاب الأولمبية الرياضات التخصصية لحظاتها الخاصة، ويُعدّ التجذيف من بين هذه الرياضات، بتاريخه العريق وشعبيته البسيطة وعائداته المالية المتواضعة. على الرغم من ذلك، يتحمّس المجذفون في سعيهم نحو النجاح الأولمبي مثل باقي المتنافسين في الرياضات الأخرى الأكثر شهرة.
في كتاب "الهواة: قصة أربعة شبان وسعيهم نحو ميدالية ذهبية أولمبية" للكاتب ديفيد هالبرستام (منشورات "راندوم هاوس")، يلقي هذا الصحافي الحائز جائزة بوليتزر، نظرة واضحة على ما يدفع الرياضيين من خلال سرد قصة أربعة مجذفين أثناء تنافسهم لتمثيل الولايات المتحدة في سباق التجذيف الفردي في ألعاب لوس أنجليس عام 1984.
يسأل هالبرستام ما الذي دفع هؤلاء الرجال، الذين ينتمون جميعهم إلى خلفيات طبقية عليا، إلى تحمل كل تلك المشقة من أجل مكافأة ضئيلة تتجاوز الميدالية الأولمبية؟ ويقدم هالبرستام إجابة بسيطة: "لأنهم أرادوا ذلك، ببساطة، ليس من أجل أي مكافأة سوى الشعور بالإنجاز ذاته".
كتاب هالبرستام يحتفل بروح الرياضي الهاوي، الذي كان في الأصل النوع الوحيد المسموح له بالمنافسة في الألعاب الأولمبية.
"جين الرياضة"
يثير العديد من المشاهدين الأقل موهبة تساؤلات حول سر براعة العدّائين والربّاعين والمبارزين والمصارعين والسبّاحين ولاعبي القفز والجمباز، أثناء منافساتهم في الألعاب الأولمبية. وغالبا ما يرد الرياضيون أنفسهم على هذه التساؤلات بأن السر يكمن في الانضباط والتدريب المستمر، وهذا بالطبع يلعب دورا مهما لا يُستهان به. ومع ذلك، كما يشير الصحافي ديفيد إبستاين في كتابه المدروس بعناية، "جين الرياضة" (منشورات"بورتفوليو")، فإن الرياضيين المتميزين يتمتعون أيضا بصفات جسدية استثنائية.
توم دالي من فريق GB وشريك الغوص نوح ويليامز خلال جلسة تدريبية في مركز لندن للرياضات المائية
مثلا، يُولد نحو 60% من لاعبي البيسبول المحترفين بإدراك عميق "استثنائي"، مقارنة بنحو 20% من الناس العاديين. ويُعدّ ايرو مانتيرانتا، المتزلج الفنلندي الذي فاز بسبع ميداليات في ثلاث دورات أولمبية في ستينات القرن العشرين، مثالا آخر على هذا الأمر. إذ ورث مانتيرانتا طفرة جينية زادت كميات خلايا الدم الحمراء والهيموغلوبين الموجودة لديه، مما ساعده في امتصاص كميات أكبر من الأوكسجين بالمقارنة مع منافسيه.