أولويات السياسة الخارجية لحزب "العمال" وتحدياتها

إعادة ضبط العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من العداء

إدواردو رامون
إدواردو رامون

أولويات السياسة الخارجية لحزب "العمال" وتحدياتها

بعد النصر الانتخابي الساحق الذي حققه حزب "العمال" في الرابع من يوليو/تموز، بات الحزب الآن في مواجهة مهام الحكم. وبالفعل، كان السير كير ستارمر وحكومته نشطين بشكل استثنائي خلال أيامهما الأولى في المنصب، وكانا حريصين على طمأنة الناخبين بأن "التغيير" الذي وعدا به ليس مجرد شعار فارغ.

ومن بين أنشط وزراء ستارمر يبرز وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي، الذي كان ديناميكياً بشكل خاص، حريصا على الانتقال من سنوات "الانغلاق على الذات" التي اتسم بها حكم "المحافظين" السابق، إلى "إعادة ربط بريطانيا بالمجتمع العالمي". ومع ذلك، فإن إعادة الاتصال بطريقة جوهرية قد يكون أمرا صعبا، فالنزعة المالية المحافظة التي يتبناها ستارمر وتركيزه على مشاكل بريطانيا الداخلية سيحدان من ميزانية الخارجية ومن اتساع نطاق الاهتمام بالشؤون الخارجية. إذن، ما هي الأولويات التي ستعطيها حكومة المملكة المتحدة الجديدة للخارج وما العقبات التي قد تواجهها؟

ستظل أهم علاقات بريطانيا التاريخية، وهي مع أوروبا والولايات المتحدة، تتبوأ رأس الأولويات. فإعادة ضبط العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من العداء التي تلت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تحتل قلب استراتيجية حزب "العمال". وأكد لامي ذلك بالسفر إلى برلين في اليوم التالي لتعيينه. كما أراد بزيارته لبولندا والسويد أن "ندع سنوات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وراءنا"، كما قال لصحيفة "الغارديان".

وعلى الرغم من الحملة الداعية للبقاء في الاتحاد الأوروبي، أصر ستارمر (ولامي) على أن المملكة المتحدة لن تنضم مرة أخرى إلى الاتحاد الأوروبي ولا إلى سوقه الموحدة أو اتحاده الجمركي، لكنهما حثا على تعاون أمني أوثق. واقترح لامي صفقة أمنية واسعة النطاق تشمل الدفاع والطاقة والتغير المناخي والهجرة. وبالمثل، تريد وزيرة المالية الجديدة راشيل ريفز تحالفا أوثق مع الاتحاد الأوروبي لتعزيز التجارة والاتفاقات "المصممة حسب الطلب" في قطاعات معينة.

وفي الوقت الذي قد تتقبل فيه حكومات يسار الوسط الأخرى في بولندا وألمانيا هذه الخطط، فإن حزب "العمال" قد يجد صعوبة في إقناع أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين. فصعود اليمين الشعبوي في جميع أنحاء أوروبا، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي في فرنسا، سيجعل الكتلة الأوروبية أكثر قومية وترددا في إسداء أي خدمة لبريطانيا. قد تتوفر بعض الرغبة في التعاون الأمني، خاصة في ظل المخاوف المستمرة بشأن أوكرانيا، لكن حزب "العمال" قد يصطدم بجدار عندما يتعلق الأمر بتحسين العلاقات الاقتصادية. فقد كان موقف بروكسل طوال مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يؤكد على أن المملكة المتحدة لن تستطيع انتقاء واختيار جوانب من السوق الموحدة، وهذا لم يتغير. بل يزداد هذا الموقف ترجيحا بوجود المزيد من الحكومات القومية في العواصم الأوروبية التي قد ترغب في إعطاء الأولوية لصناعاتها الخاصة وحمايتها.

العلاقة مع الولايات المتحدة معقدة أيضا. حيث إن ستارمر وكذلك لامي ملتزمان بالحلف الأطلسي وهما قريبان أيديولوجياً من الديمقراطيين الذين ينتمي إليهم بايدن. ومع ذلك، فإن حظوظ بايدن الانتخابية لا تبدو جيدة مع تقدم ترمب في استطلاعات الرأي ومع الجدل الدائر في حزبه الديمقراطي لاستبداله. ولذا، فعلى ستارمر أن يخفف من تقاربه الطبيعي مع بايدن، لإدراكه أن ترمب قد يحل محله قريبا. وقد بنى لامي بالفعل علاقات مع فريق ترمب ومع إدارة بايدن أيضا، تحسبا للمستقبل.

صعود اليمين الشعبوي في جميع أنحاء أوروبا، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي في فرنسا، سيجعل الكتلة الأوروبية أكثر قومية وترددا في إسداء أي خدمة لبريطانيا

وإذا فاز ترمب، فسوف تزداد الصعوبات شدة. ولهذا أصر ستارمر على أنه "سيعمل مع من سيُنتخب" في أميركا في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لمعرفته أن المملكة المتحدة لا تستطيع تحمل قطيعة مع الولايات المتحدة، ولا سيما بعد أن تركت الاتحاد الأوروبي. إلا أن ترمب في الوقت نفسه قد يبعد واشنطن عن مصالح رئيسة للمملكة المتحدة، مثل "الناتو" والصراع الأوكراني، وهو ما سيجبر ستارمر على اتخاذ موقف يتسم بتوازن قلق وصعب.

ومع أن العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا ستظل على رأس الأولويات الأساسية، فإن الصراعات في كل من غزة وأوكرانيا ستظل تحظى بأهمية كبيرة ما دامت مشتعلة. فقد كلف الغضب الشعبي من سياسة حزب "العمال" تجاه غزة حفنة من المقاعد في الانتخابات العامة، على الرغم من التحول التدريجي في نهج ستارمر الذي كان مؤيدا لإسرائيل في وقت سابق من الحرب. فتحدث ستارمر بعد انتخابه مع كل من الزعيم الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكدا على أهمية وقف إطلاق النار وعلى إقامة دولة فلسطينية على المدى الطويل. غير أن موقفه هذا قد يكون في النهاية تحولا في الأسلوب أكثر منه في الجوهر.

ونظرا لأهمية العلاقة مع الولايات المتحدة، يبدو من غير المرجح أن يتغير موقف حزب "العمال" من غزة تغيرا حادا بعيدا عن موقف واشنطن المؤيدة بقوة لإسرائيل. أما في أوكرانيا، فتتمتع المملكة المتحدة بقدرة أكبر على التأثير وبإحساس أعلى بضرورة التصرف السريع، وقد تجد نفسها تؤدي دورا أكثر بروزا وفاعلية إذا تراجع ترمب في حال فوزه عن موقف الولايات المتحدة الحالي. ولكن في الوقت الحالي، وكما هو الحال مع غزة، من المرجح أن تستمر السياسة على ما كانت عليه في عهد "المحافظين".

وبالإضافة إلى هذه القضايا، تحدث لامي عن رغبته في التركيز على تغير المناخ والمشاركة مع الجنوب العالمي. ثم هناك مسألة الصين، حيث يعاني حزب "العمال" توترا ما بين حاجة الاقتصاد المتعثر في المملكة المتحدة إلى التجارة والاستثمارات وبين التهديد الأمني المحتمل من بكين. ولا شك أن كل هذه الأمور ستحظى ببعض الاهتمام، بيد أنها ستظل في أسفل قائمة الأولويات في الوقت الحالي. إضافة لذلك، تفتقر المملكة المتحدة إلى القدرة على التعامل مع طيف واسع من الأمور الأخرى في مجال الشؤون الخارجية.

لعل لامي وستارمر يأملان في تجديد انخراط بريطانيا في الشؤون العالمية، ولكننا لا نزال بعيدين عن تلك المستويات المتميزة التي حققها توني بلير في هذا الميدان. فالقيود على ستارمر أكبر، والموارد المخصصة للشؤون الخارجية أقل مقارنة بحكم سلفه بلير، عندما حقق فوزا ساحقا مماثلا عام 1997، وهو ما يعني أن سياسة ستارمر الخارجية ستكون على الأرجح أكثر تواضعا بكثير.

font change

مقالات ذات صلة