"التزييف العميق"... صوت جديد في الانتخابات الأميركية

الواقع برؤية مختلقة

شاترستوك
شاترستوك

"التزييف العميق"... صوت جديد في الانتخابات الأميركية

في يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن المدعي العام لولاية نيوهامشير الأميركية فتح تحقيق عاجل بعدما تقدم ناخبون بشكوى زعموا فيها تلقي مكالمة هاتفية من الرئيس الأميركي جو بايدن تدعوهم الى الامتناع عن التصويت في الانتخابات التمهيدية في الولاية.

بعد أيام، تبين أن تلك المكالمة تم تزييفها بواسطة الذكاء الاصطناعي. أحدثت تلك المكالمة ضجة كبيرة؛ وأثارت نقاشات حول استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملية "التزييف العميق".

تصل التكنولوجيا يوما بعد يوم الى أهداف كان من المستحيل تصورها بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، في مجال تكنولوجيا التعلم الالي وتكنولوجيا التعلم العميق.

ومع تصاعد وتيرة إتقان "التزييف العميق"، أصبح من الصعب التحقق من نزاهة العديد من الصور والاصوات والمقاطع المصورة، وهي مسألة تفرض تحديات جديدة وعميقة على الاقتصاد والمشهد السياسي.

ومع تزايد التعقيد في تقنية "التزييف العميق"، يتزايد إمكان إساءة استخدامها، مما يهدد سلامة المعلومات، ويقوض ثقة الجمهور، ويغذي الفوضى الاقتصادية والسياسية.

يشكل انتشار "التزييف العميق" تهديدا خطيرا لنسيج المجتمع الحديث، بدءا من التلاعب بأسواق الأوراق المالية والاحتيال على الشركات وصولا إلى نشر المعلومات المضللة وتقويض العمليات الديمقراطية.

عانت شركات عدة من تزييف اخبار منقولة على لسان مسؤوليها بعدما دفعت تلك التصريحات عددا من المستثمرين الى سحب استثماراتهم. كما استخدم التزييف العميق لاختلاق مقاطع مرئية للعديد من الفنانين وأيضا لأشخاص عاديين بهدف ألحاق الضرر بسمعتهم او الانتقام منهم، بدوافع الحب والغيرة.

ويشكل "التزييف العميق" خطرا على عملية الانتخابات السياسية في العديد من دول العالم، لقدرته على اختلاق مقاطع مرئية تكاد تقترب من الواقع للمرشحين المنافسين تحض على عدم انتخابهم. فما هو التزييف العميق وما قدرته على تلفيق مواد يتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وما هي حدود تكنولوجيا التزييف العميق في المستقبل، وهل من الممكن التعرف بسهولة اليها أم سيكون من الصعب التحقق من صحتها؟

مع تزايد تعقيد تقنية "التزييف العميق"، يتزايد إمكان إساءة استخدامها، مما يهدد سلامة المعلومات، ويقوض ثقة الجمهور، ويغذي الفوضى الاقتصادية والسياسية

ما هو "التزييف العميق"؟

"التزييف العميق" هو عمل تقني لإنشاء صور ومقاطع صوتية ومرئية زائفة، بطريقة واقعية ومقنعة للغاية، بواسطة نوع خاص من التعلم الالي يسمى التعلم العميق.

يحاول الباحثون في التعلم العميق ابتكار خوارزميات مستوحاة من بنية الدماغ ووظيفته، تُعرَف باسم الشبكات العصبية الاصطناعية، بهدف الوصول الى أداة قوية لتحليل البيانات المعقدة ومعالجة اللغة الطبيعية والتعرف الى الكلام.

يندرج التعلم العميق ضمن تطبيقات التعلم الآلي الناتجة من الذكاء الصناعي، وهي التقنية التي تساعد الالة - سواء أكانت حاسوبا، أم روبوتا، أم روبوتا للدردشة- على تقليد التصرفات البشرية، بناء على البيانات المتوافرة والمعلومات الموجودة.

ولأن التعلم الالي يعتمد على الخوارزميات والبيانات المتوافرة له لحمل الكومبيوتر على أداء مهمات أكثر؛ أصبح التدخل البشري أقل. وكلما زاد كمّ المعلومات والبيانات، زادت قدرة الكومبيوتر على التعلم وعلى التقرير والتوصل الى استخلاص النتائج.

ومع توفير المزيد من البيانات، يمكن تحسين جودة نماذج التعلم الآلي باستمرار، للحصول على أداء أفضل وأقرب إلى التصرف البشري.

وفي قلب التعلم العميق توجد الشبكات العصبية، التي تتكون من طبقات من العقد المترابطة، أو الخلايا العصبية. تم تصميم هذه الشبكات للتعرف الى الأنماط والتعلم من البيانات بطريقة مشابهة للدماغ البشري.

في البداية؛ تستقبل طبقة الإدخال البيانات الأولية، مثل الصور أو النصوص أو الأصوات، ثم يأتي دور الطبقات المخفية، التي يمكن أن تكون عديدة وعميقة، لمعالجة المدخلات، من خلال الاتصالات الموزونة. تطبق كل خلية عصبية في الطبقة المخفية تحويلًا رياضيا على بيانات الإدخال، الذي يتضمن عادةً وظيفة تنشيط غير خطية؛ ثم تستخلص طبقة الإخراج النتيجة النهائية، مثل التصنيف أو التنبؤ.

 

في التعلم العميق؛ يحاول الباحثون ابتكار خوارزميات مستوحاة من بنية الدماغ ووظيفته، وتُعرَف هذه الخوارزميات باسم الشبكات العصبية الاصطناعية، بهدف الوصول الى أداة قوية لتحليل البيانات المعقدة ومعالجة اللغة الطبيعية والتعرف الى الكلام

استخدامات سياسية

مع التقدم السريع لتطبيقات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يوما بعد يوم، أصبحت عملية الانتخابات هدفا كبيرا لاستخدامات غير قانونية وأصبحت الانتخابات بعد اكتشاف الذكاء الاصطناعي عملية مختلفة تماما عن مثيلاتها في الأعوام الماضية.

ويتم استخدام تكنولوجيا التزييف العميق لاختلاق مقاطع صوتية تشبه الى حد كبير صوت أحد المرشحين في الانتخابات لتشويه صورته ونشر اخبار مغلوطة عن برنامجه الانتخابي.

وبعد حادث تزييف مكالمة بايدن الهاتفية، أصدرت هيئة الاتصالات الفيديرالية الاميركية بيانا أفاد بأن استخدام الذكاء الاصطناعي في تزييف مقاطع صوتية او مرئية امر غير قانوني وخرق واضح لقانون الاتصالات الفيديرالي.

فتح ذلك البيان بابا أمام فرض غرامات مالية كبيرة على المخالفين؛ وهذا ما حدث ضد من قام بنشر المكالمات الآلية للرئيس بايدن، حيث قدمت هيئة الاتصالات الاميركية مقترحا لفرض غرامة مالية قدرها 6 ملايين دولار على مرتكب هذا الفعل.

بررت هيئة الاتصالات الغرامة الكبيرة بأنها تمثل رادعا قويا لكل شخص يقوم بهذا الفعل غير القانوني، وخصوصا بعد انتشار الأدوات التي تمكن من تزييف الأصوات بسهولة.

تكرر الامر نفسه في ولاية كارولينا الجنوبية حيث نشرت مكالمة آلية للسناتور لينزي غراهام يسأل فيها المقترعين عمن هو المرشح الذين سيصوتون له في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في الولاية.

تطور الامر سريعا ليصبح الذكاء الاصطناعي حلبة اخرى للصراع بين المرشح الديمقراطي جو بايدن ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب في السباق الرئاسي.

حرب التزييف

اتهمت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيار حملة ترمب والحزب الجمهوري بتعمد استخدام تكنولوجيا التزييف الرخيص وقص المقاطع المصورة للرئيس بايدن لإظهار ضعفه العقلي والبدني في كثير من المناسبات.

وقالت إن حملة ترمب قامت بتعديل فيديو لبايدن اثناء حضوره قمة مجموعة السبع في إيطاليا، بحيث بدا أنه لا يدري إلى اين يذهب، مما اضطر رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني الى ارشاده الى مكان الحضور؛ فيما أظهر الفيديو الأصلي بايدن بأنه ترك اللقاء مع الزعماء لتحية أحد المظليين.

تكنولوجيا التزييف الرخيص هي نسخة أسهل وأقل تكلفة وتعقيدا من تكنولوجيا التزييف العميق؛ إذ يحرر القائمون عليها المقاطع المصورة الأصلية يدويا، باستخدام أدوات تكنولوجية متاحة وسهلة بحيث يبدو الفيديو مختلفا عن الحقيقة عبر تبطيئ سرعته او قص أجزاء منه او تسريعه او حذف مدة زمنية كاملة لنشر معلومات غير صحيحة.

ولأن تلك التقنية منخفضة التكلفة ويسهل الحصول على أدواتها؛ تنشر موادها بصورة أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي لبث الأخبار المضللة وغير الصحيحة في شتى المجالات.

كان لترمب أيضا نصيب من استخدام التزييف العميق وتوظيفه في مسار الانتخابات لصالحه، حيث نشرت على الأنترنت في مارس/آذار الماضي صور تجمع الرئيس ترمب مع اشخاص من أصول أفريقية في محاولة لإظهار ترمب محبوبا من هذه المجموعة، ولتشجيعها على التصويت لصالحه.

شاترستوك

وظهر الرئيس الأميركي السابق معانقا مجموعة من السود الذين ظهروا سعداء جدا في الصورة التي اتضح في ما بعد بأنها قد زُيِّفت باستخدام التزييف العميق.

يُعدّ الفوز بثقة السود في الولايات المتحدة أمرا مهما للغاية بالنسبة الى ترمب، في طريقه المحتمل للفوز بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لذلك تم توظيف التكنولوجيا سياسيا لصالح حملته الانتخابية.

وصرح ترمب لدى لقائه مع اليوتيوبر، لوجان بول، الأسبوع الماضي، بأنه سعيد بما توصلت اليه تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وأعلن انه استخدم خطابا كُتب خلال ثوان بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث أعرب عن اندهاشه من الدقة الرهيبة في هذا الخطاب ومن قدرته الحماسية.

 لذلك أعلن ترمب مازحا بأنه سيفصل كاتب الخطابات الخاص بحملته لأنه لا يحتاجه. في الوقت نفسه، أعرب عن قلقه من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وخصوصا التزييف العميق، لقدرتها على نشر مقاطع منسوبة اليه يمكن ان تؤدي الى اندلاع حرب نووية، حيث قال انه من الممكن تركيب مقطع فيديو له يقول فيه إن الولايات المتحدة الاميركية أطلقت رؤوسا نووية ستصل الى أهدافها في خلال دقائق. هذا السيناريو وغيره من السيناريوهات يؤكد التطور الكبير في قدرات الحواسيب في تزييف الحقائق؛ الامر الذي يلقي الضوء على خطورتها الكبيرة وقد تنتج منه تحالفات او تصعيدات عسكرية على الصعيد الدولي المتأزم أصلا.

وتشير الاتهامات المتبادلة بين حملتي بايدن وترمب إلى استخدام تقنيات التزييف الرخيص والتزييف العميق للتلاعب بالصور والمقاطع المصورة بهدف التأثير على الرأي العام وإظهار المنافس بشكل سلبي. تبرز هذه التقنيات خطورة انتشار المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إليها، مما يعزز الحاجة إلى تنظيم استخدام هذه التكنولوجيا في السياقات السياسية ومراقبتها. من جهة أخرى، تبرز تصريحات ترمب حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي مخاوف جديدة تتعلق بالأمن القومي والإمكانات الهائلة لتزييف الحقائق، مما يتطلب تطوير سياسات وإجراءات فعالة للتعامل مع هذه التحديات في المستقبل القريب.

مع التقدم السريع لتطبيقات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يوما بعد يوم أصبحت عملية الانتخابات هدفا كبيرا لاستخدامات غير قانونية وأصبحت الانتخابات بعد اكتشاف الذكاء الاصطناعي عملية مختلفة تماما عن مثيلاتها في الأعوام الماضية

تأثيرات سلبية

يحمل التزييف العميق تأثيرات سلبية خطيرة على الاقتصاد والشركات، حيث يمكن أن يُستخدم في ارتكاب عمليات احتيال مالي وتشويه سمعة الأفراد والعلامات التجارية.

على سبيل المثل، يمكن للمحتالين استخدام تكنولوجيا التزييف العميق لانتحال هوية مسؤولين في الشركات لإجراء تحويلات مالية زائفة، مما يؤدي إلى خسائر مالية كبيرة.

 ففي واحدة من أشهر حالات الاحتيال باستخدام التزييف العميق عام 2019، قام المحتالون بتقليد صوت المدير التنفيذي لشركة طاقة بريطانية وتمكنوا من إقناع مدير في الشركة بتحويل مبلغ 243 ألف دولار إلى حساب مصرفي تابع لهم.

وبدا الصوت حقيقيا الى درجة أن ذلك المدير لم يتساءل او يشك في الأمر وقد أجرى اللازم لإتمام عملية التحويل المالي بناء على ثقته بمدير الشركة.

بالإضافة إلى ذلك، يمثل التزييف العميق تهديداً جديداً للأمن السيبراني والحفاظ على سرية البيانات، حيث يتطلب من الشركات زيادة التكاليف لتطوير تقنيات مكافحة هذه الظاهرة وتعزيز نظم الحماية والسياسات الأمنية.

فتقنية التزييف العميق تقوم بتوليد مقاطع صوتية تشبه إلى حد كبير الصوت الاصلي، مما يمكن استخدامها للتحقق من الهوية باستخدام الصفات البيومترية مثل بصمة الصوت، مما يزيد تعقيد التهديدات السيبرانية وتهديدها.

تتطور هذه التقنيات بوتيرة أسرع بكثير من انتشار الوعي بها، خاصةً بين كبار السن وغير المتعلمين في العديد من دول العالم؛ وهذا النقص في الوعي يجعل الناس عرضة للخداع عبر التلاعب بأصواتهم وصورهم باستخدام التطبيقات التي تنتج تزييفا عميقا.

تنصب الاهتمامات الحالية عادةً على مشكلات النصب عبر البريد الإلكتروني وضعف كلمات المرور، لكن التركيز على خطر التزييف العميق أمر ضروري أيضا. فهذه التقنيات ستنتشر بقوة وستمثل تهديدا كبيرا في المجالات السياسية والاقتصادية وللأفراد على حد سواء. لذا، يجب على الشركات ووسائل الإعلام توجيه جهودها نحو تعزيز الوعي حول خطورة التزييف العميق، وضرورة التعامل مع هذا التهديد المتنامي بجدية، وتعزيز التدابير الأمنية والتعليمية لحماية الأفراد والمؤسسات منه.

font change