محافظ مصرف ليبيا المركزي... بيروقراطي تحول إلى ثعلب سياسي

الصديق الكبير رجل ليبيا القوي، المصرفي الماهر، "حليف واشنطن" أم "القذافي الجديد"؟

إيوان وايت
إيوان وايت

محافظ مصرف ليبيا المركزي... بيروقراطي تحول إلى ثعلب سياسي

يلعب محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق عمر الكبير، دورا محوريا في الإدارة الاقتصادية-السياسية، المصرفية والنقدية في طرابلس منذ 13 عاما. تكنوقراطي مخضرم، خريج جامعة "هارتفورد" الأميركية، كان من أبناء النظام السابق ثم من أوائل الثائرين عليه، اكتسب شرعية نضالية وثورية من الأرض، دخل بمقتضاها إلى المجلس الانتقالي الليبي، ومنه قفز ليتولى حاكمية مصرف ليبيا المركزي، ليقبض على مفاتيح خزائن الذهب واحتياطي العملات الأجنبية. من هو رجل ليبيا القوي، المصرفي الماهر، "حليف واشنطن" أم "القذافي الجديد"؟

يمارس محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، مسؤولياته من مكتبه في مبنى تاريخي على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، أو من جناح في نزل في تونس أو من مالطا أو تركيا. المكان لا يهمّ كثيرا، الأهمّ ما يملكه المحافظ من أسلحة كـ"رموز السويفت"، ومن تحالفات إقليمية ودهاء في التشبيك وإبرام الصفقات والتسويات، وقد مكّنته هذه المواهب من الحفاظ على منصبه طيلة 13 سنة، مرت خلالها البلاد بحربين أهليتين وعاشت مئات الأحداث المروعة والدامية التي تسببت في انهيار جل أجهزة الدولة ومؤسساتها باستثناء المصرف المركزي، بنك البنوك، و"قاعة العمليات المحورية في البلاد" في عهد المحافظ الكبير الملقب بـ"الحاج" في زمن السلم وبـ"القذافي الجديد" في زمن الحرب.

يتركز الاهتمام خلال الأزمات على محافظي البنوك المركزية، ويقال إنها لحظتهم، إلا أن الأمر يختلف في ليبيا، فالمحافظ، ويدعى الصديق الكبير، هو سيد كل الأوقات والملفات، سواء أكانت في صميم صلاحياته ومسؤولياته أم خارجها، من أبسط المسائل إلى أكثرها تعقيدا، وسواء اتصلت برسم السياسات النقدية أم المالية والاقتصادية والاستثمارية أم الديبلوماسية والأمنية والعسكرية، أم حول الخطط التقشفية أو البنى التحتية.

أنهى الصراع الدائر بين الدبيبة والكبير اتفاقا أمنيا وماليا وسياسيا غير مسبوق في ليبيا ما بعد سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي

من مكتبه الأنيق في المبنى ذي التصميم الإيطالي المعروف بـ"قصر الحكم" خلال الحقبة الاستعمارية الإيطالية، تصدر القرارات الأكثر خطورة في البلاد، على الحكومات، كما على المؤسسات والشركات، وكذلك على الأفراد. هو الرجل القوي في ليبيا، والمهيمن في صناعة القرار، بفضل دعم الدوائر المالية العالمية والعواصم التي تتنافس وتتصارع على خيرات هذه الدولة الغنية في شمال أفريقيا.

في الداخل الليبي، حاول كل الذين مروا على السلطة إزاحة المحافظ، لكن دون جدوى. لا تزال آخر المحاولات مستمرة ومستعرة منذ نهاية العام المنصرم، عندما انطلقت شرارة الصراع بين الكبير وعبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة المعترف بها دوليا. وهو صراع يمثل جولة جديدة من الصراعات للتحكم في الموارد المالية الضخمة للدولة الليبية، والتي يديرها مصرفها المركزي، القلب المالي للبلاد.

صراع الدبيبة - الكبير

أنهى الصراع الدائر بين الدبيبة والكبير اتفاقا أمنيا وماليا وسياسيا غير مسبوق في ليبيا ما بعد سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي. مثّل هذا الاتفاق المصلحي قاعدة استقرار نسبي وهش حصل بمقتضاه الدبيبة على "سخاء" استثنائي من المصرف المركزي، بلغ أرقاما قياسية، وفق المحافظ نفسه، الذي أكد في شهر فبراير/شباط 2024، أن الإنفاق الحكومي بلغ خلال ثلاث سنوات فقط من حكم الدبيبة، 420 مليار دينار ليبي، أي نحو 87 مليار دولار.

إيوان وايت

تصاعدت وتيرة صراع الدبيبة-الكبير في الفترة الأخيرة، ويترقب الجميع كيف سيُحسم ولصالح مَن. تعطي تجارب الأمس القريب والبعيد الأفضلية للصديق، الشخصية ذات الثقل والنفوذ والدهاء، والقدرة على تحريك الحياة السياسية والمالية. إذ يكفي مراقبة حجم المتابعة لخريطة تحالفات المحافظ واصطفافاته، التي لا تقيّم وتحلل فحسب، بل يُستشرف من منطلقها شكل التطورات المقبلة في البلاد وطبيعتها.

من ضمن ذلك، البيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي في ليبيا الصادر في 16 مايو/أيار المنصرم، وقد جاء متطابقا مع سردية المحافظ وداعما لسياساته. أكدت البعثة تسجيل توسع في الإنفاق العام سنة 2023 جراء ارتفاع كتلة الأجور وزيادة دعم الطاقة أكثر مما كان متوقعا، مما تسبب في ارتفاع المعروض النقدي بأسرع وتيرة منذ سقوط نظام القذافي.

يعتبر الصديق الكبير الأكثر إلماما بتوجهات الدوائر الدولية المؤثرة في سير الأحداث في البلاد، ويُحسب له أنه لا يراهن إلا على "الحصان الرابح"

وأشارت البعثة إلى أن مصرف ليبيا المركزي حافظ على الاحتياطات الأجنبية بشكل وصفته بالمريح إلى حد كبير (سجل الاحتياطي الليبي 82 مليار دولار بحسب أرقام الصندوق في آخر عام 2022)، وذكرت أن المصرف حاول الحد من استخدام النقد الأجنبي عبر تشديد القيود على الاعتمادات المستندية وخفض الحدود المتاحة لمشتريات النقد الأجنبي لأغراض شخصية وفرض ضريبة بنسبة 27 في المئة على سعر الصرف الرسمي للعملات الأجنبية بصفة موقتة.

أكثر شخصية خلافية

يعتبر الصديق الكبير الأكثر إلماما بتوجهات الدوائر الدولية المؤثرة في سير الأحداث في البلاد، ويُحسب له أنه لا يراهن إلا على "الحصان الرابح"، وقد استفاد من ذلك بشكل كبير يمكن تلخصيه في صموده طيلة أكثر من عقد في منصب حساس، ومحل مطامح، ومطامع الداخل، والخارج.

إيوان وايت

لا شك أن المحافظ هو أكثر شخصية خلافية في ليبيا ما بعد القذافي؛ فكيف يُقدّم؟ هذا بعض ما يمكن أن تسمعه من الفاعلين (مسؤولون وديبلوماسيون ورجال أعمال وسياسيون وغيرهم) إن سألت عن المحافظ. هو رجل الدولة الصامد في وجه العواصف، و"الحاج الكبير" و"آخر من تبقى من الثوار"، وهو أيضا "صانع" الحكام والأثرياء، وممول "الإخوان والإرهاب"، وزعيم "العصابات والمافيات" و"قذافي جديد" و"المتصرف في دار مال المسلمين" و"قائد مدينة الألعاب المالية".

شملت الانتقادات والاتهامات والمؤاخذات الموجهة إلى المحافظ، مختلف جوانب التسيير والتدبير بصفته وشخصه، في ماضيه وسيرته ومسيرته، وتحالفاته، واجتماعاته، وتنقلاته. ومنذ تاريخ تعيينه حتى اليوم، لا تكاد الشكاوى المرفوعة تنتهي في حقه، منها ما بلغ حد التشكيك حتى في جنسيته الليبية من خلال دعوة وجهها "ثوار الزاوية" عام 2013 إلى رئيس الحكومة آنذاك تطالب بإقالة الكبير لعدم توفر شرط قانون الجنسية الليبية فيه (غير حامل للجنسية) إذ لا يستقيم ان تُمنَح لأجنبي إدارة أهم مؤسسة سيادية في البلاد.

لا شك أن المحافظ هو أكثر شخصية خلافية في ليبيا ما بعد القذافي؛ هو رجل الدولة الصامد في وجه العواصف، و"الحاج الكبير" و"آخر من تبقى من الثوار"

مصرفي بارز، وعضو في مجالس إدارة مصارف، كان يجلس جنبا إلى جنب مع الصديق الكبير، قال لـ"المجلة": "أعمل مع الصديق لسنوات وهو مصرفي جيد لا تنقصه الكفاءة". ورأى أن "بقاء الصديق في المصرف المركزي لسنوات قد يكون الأفضل لليبيا، ومهما كانت الانتقادات والأخطاء والانحرافات، ففي اعتقادي، إن نظرنا إلى الأمر بالمقاييس الموضوعية، أي بالممكن والمتاح ووضع البلاد، فقد أثبت الكبير مهارة عالية في الحفاظ على احتياطات ليبيا وثرواتها".

شخصيتان في حياة الرجل

لكن لا يبدو أن معيار الكفاءة فقط كان محددا في مسيرة الرجل الذهبية، من بدايتها مرورا بتقلباتها حتى بلوغ المجد. فقد لعب الحظ دورا حاسما إلى جانب الكبير منذ سنوات الطفولة، في حي بلخير وسط مدينة طرابلس، الواقع على بعد أمتار قليلة من مبنى المصرف المركزي كما أفاد تقرير مطول للزميل الأول في المعهد الأممي للشؤون الدولية والأمنية الدكتور ولفرام لتشر نشر على موقع "نيو لاينز". من هناك انطلقت صداقة الصديق "المثمرة" بشخصيتين مركزيتين طبعتا تاريخه وقلبتاه رأسا على عقب.

الشخصية الأولى، محمد البخاري، وزير المالية في نظام القذافي، بحسب الروايات المتداولة التي أكدها تقرير لتشر، وهو أيضا مؤلف كتاب "تفتيت ليبيا" (Libya's fragmentation)، الذي نشره مركز أبحاث أميركي. فبفضل وساطة من صالح إبراهيم الذي قدمه إلى الرجل الثاني في نظام العقيد، عبد السلام جلود، دخل الصديق الكبير عام 1988 عالم الكبار.

رويترز
محافظ البنك المركزي الليبي الصادق الكبير، يتحدث في مقابلة صحافية مع وكالة "رويترز" في لندن، 24 يوليو 2019.

فقد عين الصديق الكبير عندما كان في بداية الثلاثينات، رئيسا لمجلس إدارة مصرف "الأمة" الذي يعد أكبر المصارف المملوكة للدولة. تقول شهادات إن التعيين جرى آنذاك من دون علم محافظ مصرف ليبيا المركزي في فترة كانت تدار فيها البلاد بالوساطات والمحسوبية في مختلف المناصب والمواقع حتى الأشد حساسية ودقة منها. استفاد الكبير من تلك السياقات، وقد يكون حالة نادرة في تاريخ المصارف في العالم، أن يعين مصرفي لم يلبث أن انطلق في مساره المهني، على رأس أكبر مؤسسة مصرفية على الإطلاق.

لم تكن نهاية التجربة الفريدة سعيدة، فقد كان الصديق الكبير وعشرات من المسؤولين ضمن المتهمين في واحدة من أكبر فضائح الفساد المالي والمصرفي في عهد النظام السابق. وفي تفاصيلها، وقّع منح قروض وتسهيلات عقارية بضمان من رئيس المخابرات، تسببت في إفلاس المصرف، وحكم فيها على الصديق في بداية التسعينات، بثلاث سنوات سجنا قضى منها 3 أشهر فقط، ومن السجن سافر إلى تونس حيث تقلد منصبا في مصرف تُعد ليبيا من أكبر المساهمين فيه.

وظف خصوم الصديق تلك القضية للطعن في تعيينه على رأس المصرف المركزي. لكن الكبير تمكن، مسنودا بداعميه، من احتواء حملة واسعة شنت عليه، وكانت الحجة المقدمة للدفاع عنه، خصوصية تلك الفترة التي كان فيها الصديق كجميع المسؤولين التنفيذين، يطبقون تعليمات "العقيد" والنظام.

يدير الصديق الكبير واحدا من أهم البنوك المركزية سلطة ونفوذا وصلاحيات ربما على المستوى العالمي، ويتهمه منتقدوه بأنه حوّل المصرف إلى "مزرعة خاصة" أو "دولة داخل الدولة"

كشفت تلك القضية الأهم في شخصية الصديق الكبير، ليس من خلال إعادة التموضع السريع فحسب، بل خصوصا عبر حسن إدارة الأزمة والانحناء للعاصفة ببراغماتية أو انتهازية. قد تختلف القراءات، لكنها عكست بالتأكيد صورة البيروقراطي الذي يعرف حدوده ويبحث عن مكان في ظل الشخص الأقوى.

هكذا نجا الصديق من تقلبات النظام، وهو المحسوب على الرجل الثاني فيه، عبد السلام جلود، الذي حوصر وفرضت عليه الإقامة الجبرية منذ عام 1992 حتى ثورة فبراير/شباط 2011.

 ... والشخصية الثانية

أما الشخصية المركزية الثانية في حياة الصديق الكبير، فهو عبد الرزاق العوادي، رجل الأعمال البارز والقيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين. والعوادي هو أيضا صديق طفولة المحافظ، من الحي نفسه في مدينة طرابلس، بحسب تقرير لتشر. وقد حصل الثنائي على منحة للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية زمن القذافي. يعود تعيين الكبير محافظا للمصرف المركزي عام 2011 إلى العوادي، الذي كان آنذاك مثل الكبير، عضوا في المجلس الوطني الانتقالي، ومن هذا المجلس صدر قرار التعيين على رأس مؤسسة الإصدار الليبية.

Shutterstock

تلك الصداقة أعطت اللون السياسي للصديق الكبير، الذي يعرف عنه كـ "إخواني"، وتنسب إليه تقارير عدة تهما خطيرة، منها توظيف المصرف المركزي لخدمة "التنظيم" وحلفائه وأجنداته، علاوة على دعم ميليشيات إرهابية، وهي تهم ينفيها الكبير. وكان أشدها ما جاء عام 2018 على لسان سفير بريطانيا السابق في ليبيا، بيتر ميليت، أمام برلمان بلاده، الذي قال إن مصرف ليبيا المركزي يمول الحرب الأهلية ويدفع مرتبات للمسلحين.

"دولة داخل الدولة"

يدير الصديق الكبير واحدا من أهم البنوك المركزية سلطة ونفوذا وصلاحيات ربما على المستوى العالمي، ويتهمه منتقدوه بأنه حوّل المصرف إلى "مزرعة خاصة" أو "دولة داخل الدولة". وتقول شخصية ليبية قريبة من المبعوث الخاص للأمم المتحدة في ليبيا المستقيل حديثا لـ"المجلة"، إن "ما يقوم به الصديق الكبير ليس الأفضل وهو شخصية لا تتمتع بإجماع ولا بثقة كل الفاعلين، لكن ربما تغييره يفتح الباب أمام المجهول مع التطورات الجديدة في البلاد".

شخصية الصديق إنطوائية وباردة وهو ماهر في التواصل، يجيد لا أقول التلون لكنه قادر على التعامل بعقل بارد مع كل الأوضاع، والتقلبات، وإدارة الأخطار، والأزمات، وهو مصرفي صرف

مسؤول تونسي سابق

من بين هذه التطورات، الحضور القوي لقوات "فاغنر" الروسية وما ينسب إليها من أدوار في تأجيج أزمة الهجرة غير النظامية. ونقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تقرير في أبريل/نيسان المنصرم بعنوان "ليبيا: اختفاء منذ فترة من الأجندة الدولية"، عن مصدر ديبلوماسي تحذيره من تهميش الملف الليبي وقوله إنه قد يتحول إلى قنبلة قد تنفجر في وجه الجميع. وكشفت الصحيفة عن وثيقة موجهة من وزارة الخارجية الأميركية إلى الكونغرس في شهر مارس/آذار الماضي تطالب فيها بموازنة بقيمة 12,7 مليون دولار لمواجهة نفوذ روسيا المتزايد في ليبيا.

صحيفة الشرق الأوسط
محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير.

وبذلك، قد يكون الصديق الكبير، حليف واشنطن، مثلما يلقب، أكبر المستفيدين على الأرجح من العودة الأميركية، التي تعني ضمانات دعم قوي لمواجهة كل "المناورات" الهادفة لإزاحته من منصبه.

آخر الثوار

يقف الصديق لاستقبال ضيوفه في الباب، بأناقة إيطالية وابتسامة هادئة، كما يصفه لتشر، ووجه بلا تعبير يتماشى مع الواجهة الرسمية التي يحاول الرجل ترسيخها، كتكنوقراطي مخضرم بتجارب متنوعة، بين أميركا حيث نال الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة "هارتفورد"، في ولاية كونيتيكت الأميركية، وليبيا إثر عودته إليها، حيث صعد سريعا في سلم الوظائف، ومنها إلى تونس، حيث عمل واستقر، ثم بريطانيا، التي أمضى فيها سنوات إلى حين قرار العودة مجددا إلى ليبيا.

لا تتوقع أي حركة عفوية من الصديق الكبير، يقول مسؤول تونسي سابق كان قريبا من المحافظ الليبي، ويضيف: "هو شخصية إنطوائية وباردة وهو ماهر في التواصل، يجيد لا أقول التلون لكنه قادر على التعامل بعقل بارد مع كل الأوضاع، والتقلبات، وإدارة الأخطار، والأزمات. والصديق مصرفي صرف".

لا يمكنك وأنت تتابع تصريحات أو خطابات الصديق الكبير، إلا أن تلاحظ كيف يحرك يديه بشكل منتظم، وهي من التفاعلات التي تحظى باهتمام في دراسات "لغة الجسد". وقد أشارت نتائج دراسات نشرتها "بي. بي. سي." إلى أنها تعكس سلاسة أقل في التعامل وهيمنة أكبر وسيطرة في الوقت نفسه، وبحثا عن الاقناع. كذلك، يقول لتشر في تقريره أن الصديق الكبير لا يرد يرد الصديق الكبير على منتقديه إلا بنزاع قانوني، وبالاختفاء وراء الإجراءات.

الصديق من الشخصيات التي ساهمت في الثورة في أوج الأحداث، مما منحه شرعية نضالية وثورية، دخل بمقتضاها إلى المجلس الانتقالي الليبي، ومنه صعد، في مفاجأة للجميع، محافظا لمصرف ليبيا المركزي

لا يمكن القول إن الصديق الكبير كان في فسحة طيلة فترة توليه منصبه الحساس، ولا يمكن الاستهانة بأخطار المعارك والصراعات التي خاضها ويخوضها، في بلاد تتضارب فيها الأجندات الدولية وتهيمن فيها الميليشيات المسلحة على الميدان، وفي بلاد قد يكون الرد فيها على قرار مرفوض بقذائف الهاون.

تتطلب مواجهة ذلك، رباطة جأش وشجاعة مع تنامي استهداف القطاع المصرفي. فقد شهدت البلاد خطف عشرات المسؤولين المصرفيين (أكثر من 50 عملية خطف في 3 سنوات)، علاوة على عمليات اختلاس مسلحة على الطريقة الهوليوودية. طبعا، الكبير ليس في منأى من هذه الأخطار: ثمن رأس الصديق يساوي 2,5 مليون دولار. وكشفت صحيفة "لوموند" نقلا عن مصدر ديبلوماسي، أن الكبير هرب إلى تركيا في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، خوفا على سلامته الجسدية بعد مشاجرة عنيفة مع إبراهيم الدبيبة، إبن شقيق رئيس حكومة الوحدة الوطنية ومستشاره.

الشرعية النضالية

يصنف الصديق الكبير ضمن مجموعة أبناء النظام المنشقين أو المتمردين، إذ كان ممن أعلنوا الانشقاق مع تطور المواجهات التي أدت إلى سقوط نظام القذافي عام 2011. آنذاك، كان الكبير أشبه بمراسل حرب، أو بصحافي ميداني يقدم تطورات المعارك ويتابعها ويرصد أعداد المتمردين من ضباط وعسكريين ومسؤولين التحقوا بالثوار، وعدد "الأسرى" و"المناطق التي سقطت تحت سيطرة الثوار". وقتها كان الصديق يعرف عبر منصة التواصل الاجتماعي "فايسبوك، بـ"المحلل العسكري". لذلك يعتبر الصديق من الشخصيات التي ساهمت في الثورة، ليس من وراء البحار أو على الربوة في انتظار استكمال المعارك، إذ عاد المصرفي المرموق إلى ليبيا في أوج الأحداث، مما منحه شرعية نضالية وثورية، دخل بمقتضاها إلى المجلس الانتقالي الليبي، ومنه صعد، في مفاجأة للجميع، محافظا لمصرف ليبيا المركزي.

Shutterstock

انطلق الصديق في منصبه الجديد وتخلص سريعا من "جلباب" الثوري، صاحب خطاب التمرد والسلاح والدم، ليرسم صورة المسؤول المتزن الوقور الهادئ، "خارج الحسابات السياسية"، الحريص على حياد المؤسسة السيادية الأهم في البلاد، وحارس خزائنها الضخمة من نقد أجنبي وأطنان من معادن الذهب والفضة.

يقول مصدر ديبلوماسي لـ"المجلة" إن "الصديق الكبير يقول إنه على الحياد وإن لا علاقة له بالسياسة لكنه يكاد يكون السياسي الوحيد في ليبيا".

قد يُنظر إلى الصديق كرجل الحرب والسلام. تلخص الـ 13 سنة التي أمضاها على رأس المصرف المركزي الطبع الماكيافلي للرجل: الغاية تبرر دائما الوسيلة. ويقول خصوم الصديق إن منصب المحافظ كلف خزينة البلاد مليارات، تحت عنوان ودائع للدول الحليفة، وتهاون في إدارة ملف الأموال المجمدة، تضاف إليها ملايين الدولارات الموجهة لشراء ولاءات الميليشيات المسلحة وخطابات اعتماد على المقاس تسببت في ارتفاع قياسي للأسعار وانحدار قيمة الدينار الليبي و"سخاء" مع الحكومات المطيعة تصل إلى حد صرف رواتب لأكثر من مليوني ليبي.

يعني، ببساطة، وبحسب منتقديه، أن الاستقرار هو سر بقاء الصديق.

(*ملاحظة المحرر: حُدّث هذا المقال في 25 يوليو/تموز 2024 بعد نسب بعض الاقتباسات للدكتور ولفرام لتشر، الزميل الأول في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين).

font change

مقالات ذات صلة