إسرائيل وعقدة الخوف من الغياب الوجودي

دولة في حالة حرب دائمة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود إسرائيليون داخل قطاع غزة في 17 يونيو

إسرائيل وعقدة الخوف من الغياب الوجودي

لم تسترح إسرائيل، أو لم تشبع من الحروب، منذ إقامتها، إذ شهدت في تاريخها 12 حربا، عدا عن المعارك المتفرقة، 5 حروب منها مع جيوش عربية (1948، 1956، 1967، 1969/الاستنزاف، 1973)، و7 منها مع قوى لادولتية، أو مقاومة، ضمنها حربان في لبنان (1982، 2006)، و5 ضد قطاع غزة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023)، بالإضافة إلى مواجهة انتفاضتين فلسطينيتين كبيرتين (1987-1993)، و(2000-2004)؛ لدولة عمرها 75 عاما فقط، ما يعني أنها دولة قامت واستمرت بواسطة الحروب.

على ذلك فإن إسرائيل، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية، واحتكارها السلاح النووي في الشرق الأوسط، وضمان الدول الكبرى لأمنها وتفوقها، تبدو في حالة حرب دائمة، لكأنها تعيش بين حرب وأخرى، أو كأن وجودها بات مرهونا بقوتها العسكرية، مع ما ينطوي عليه كل ذلك من مفارقات في وضع هذه الدولة.

مثلا، فإن إسرائيل دولة قوية عسكريا، لكن الهاجس الأمني ساكن في كل خياراتها وتجلياتها، وهي مستقرة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها تشكو من عقدة الخوف من الغياب الوجودي مستقبلا، وهي دولة استطاعت هزيمة جيوش عدة دول عربية إلا أنها لم تنجح في فرض ذاتها عربيا، سيما على الصعيد الشعبي، رغم تطبيع بعض الدول معها، كما لم تستطع وأد مقاومة الفلسطينيين أو فرض قبولهم لاحتلالها وهيمنتها.

الإشكالية هنا تتعين بكون إسرائيل محكومة بمحدودية الانتصار، أو بضعف قدرتها على فرض انتصارات كاملة (بالمعنى النسبي والتاريخي)، في حروبها المتعددة، بسبب التناقضات التي تكتنف طبيعتها، فهي دولة تفتقر لعمق تاريخي وبشري وجغرافي واقتصادي، في المنطقة، وهي محتارة بين كونها دولة لمواطنيها اليهود أو دولة ليهود العالم، وبين كونها دولة دينية تعيش في الأسطورة، أو دولة علمانية/حداثية، وفوق كل ذلك فهي دولة لم تعرّف حدودها الجغرافية بعد، وتفتقر لعلاقات طبيعية مع محيطها.

أيضا، فإن مشكلة إسرائيل أن انتصاراتها تولد نقيضها، بمعنى أنها تفضي بها إلى أزمة أخرى لها، وهذا ما سنأتي إليه، من دون التقليل من حجم ما استطاعته بقيامها واستمرارها ونجاحها في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، وفي مواجهتها لمحيطها العربي المعادي، رغم صغرها من حيث المساحة وعدد السكان وقلة مواردها الطبيعية.

مشكلة إسرائيل أن انتصاراتها تولد نقيضها، بمعنى أنها تفضي بها إلى أزمة أخرى لها

حربان مقررتان

بين حروب إسرائيل المتعددة ثمة حربان احتلتا مكانة مركزية، أو تأسيسية، في تاريخها، وفي تاريخ المشرق العربي. الأولى، وهي حرب 1948، التي نجم عنها قيام إسرائيل كدولة وكمشكلة، ونشوء قضية فلسطين، وتاليا الصراع العربي- الإسرائيلي. أما الثانية، فهي حرب 1967، التي نتج عنها احتلال باقي أرض فلسطين (الضفة وغزة، مع الجولان السورية وسيناء المصرية، بما عناه ذلك من تدشين إسرائيل كقوة إقليمية عظمى. وربما نحن الآن إزاء حرب ثالثة تأسيسية، أيضا، بما لا يقل عن سابقاتها، سيكون لها تأثيراتها على طبيعة إسرائيل ودورها ومكانتها في العالم، كما على الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية.

في الحرب الأولى (1948)، تم التأسيس لإسرائيل، التي قامت على 77 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، بعد احتلالها 5 آلاف كيلومتر مربع من حصة الفلسطينيين في قرار التقسيم (1947)، وهذه توازي مساحة الضفة والقطاع، التي عادت إسرائيل واحتلتها عام 1967، وهي التي تسعى القيادة الفلسطينية منذ عقود لإنهاء احتلالها، وإقامة الدولة المستقلة فيها.

أما الحرب التأسيسية الثانية (1967)، فقد هزمت إسرائيل فيها جيوشا لثلاث دول عربية (مصر وسوريا والأردن)، اثنتان من بينها لهما مكانة مركزية في العالم العربي، وكان في كل منهما قيادة ذات نزعة قومية وراديكالية (مصر وسوريا). وفي تلك الحرب، ازدادت مساحة إسرائيل إلى خمسة أضعاف، مع احتلال باقي الضفة وغزة والجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.

إسرائيل محتارة بين كونها دولة لمواطنيها اليهود أو دولة ليهود العالم، وبين كونها دولة دينية تعيش في الأسطورة، أو دولة علمانية/حداثية

هكذا، قامت إسرائيل بالقوة العسكرية في حرب 1948، وتوسعت بها في حرب 1967، ولكنها في الثانية انتزعت من الأنظمة العربية الاعتراف بوجودها، الأمر الذي لم تستطعه في الحرب الأولى. يقول الباحث الإسرائيلي أوري بار يوسف عن ذلك التطور، أو التغير: "الهدف الذي أعلنه القادة العرب صباح مساء هو القضاء على دولة إسرائيل... هذه التصريحات، التي كانت كلامية أكثر من كونها هدفا عمليا، بدأت تختفي بعد الهزيمة المهينة في حرب الأيام الستة، ولم يتم بذل الجهود لتغيير الوضع الراهن الجديد بالوسائل العسكرية فحسب، بل أيضا بالوسائل السياسية... قبل المصريون القرار 242 الذي اعترف بحق إسرائيل في الوجود. وبعد وصول السادات إلى السلطة، أعلنوا رسميا أنه مقابل عودة إسرائيل إلى الحدود الدولية، ستكون مصر مستعدة للتوقيع على اتفاق سلام وإنهاء الصراع معها". (معهد بحوث الأمن القومي، بجامعة تل أبيب، أبريل/نيسان 2024).

رويترز
دخان وانفجار في أعقاب قصف إسرائيلي داخل قطاع غزة

مفارقات الحربين

ما ينبغي ملاحظته هنا، أيضا، أن الحربين الرئيستين المذكورتين اشتغلت كل واحدة منهما عكس الأخرى، بالنسبة للأطراف المعنيين، فقد نجم عن الحرب التأسيسية الأولى صعود القومية العربية (الناصرية والبعثية)، إلى حكم مصر وسوريا والعراق، في حين تمّ لجم الوطنية الفلسطينية، بتقويض "حكومة عموم فلسطين" (1948) وحرمان الفلسطينيين من إقامة دولة لهم في الضفة وغزة، إذ ضُمت الضفة إلى الأردن، وأتبعت غزة إلى الإدارة المصرية.

وفي المقابل، فقد نجم عن الحرب التأسيسية الثانية (1967)، تقويض مكانة الأنظمة القومية، ونزع قداسة شعاراتها، بينما نجم عنها، أيضا، إطلاق الوطنية الفلسطينية، على عمود الكفاح المسلح، الذي بدا كحاجة عربية، في تلك الفترة، أيضا، للتغطية على الهزيمة.

اللافت أن الحرب التأسيسية الأولى التي مزقت وحدة العالم العربي، وزلزلت أحوال الفلسطينيين وجزأتهم وحطمت كياناتهم السياسية، وضمنها "حكومة عموم فلسطين"، لم تؤثر على الوضع العربي بالقدر ذاته الذي شكّلته الحرب التأسيسية الثانية، التي أعادت توحيد الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر (48-67)، وأسهمت في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية بين فلسطينيي 48 في مواجهتهم، أو مقاومتهم، لمسارات الأسرلة، بالإضافة إلى إقامة "منظمة التحرير" ككيان سياسي للشعب الفلسطيني.

أما على صعيد إسرائيل، التي تأسست في الحرب الأولى، فقد كان للحرب الثانية تأثيرات متناقضة عليها أيضا، فبينما نجم عنها تحقيق التطابق بين "أرض إسرائيل"، و"شعب إسرائيل" (بحسب التعبيرات الإسرائيلية)، باحتلال الضفة الغربية (مع غزة)، نجم عنها أيضا المطابقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، وهو ما تمثل في صعود التيارات اليمينية والدينية والشرقية في إسرائيل، وانحسار مكانة التيارات العلمانية واليسارية والأشكنازية، الأمر الذي أوصل حزب "الليكود" إلى الحكم، وتاليا قيام نوع من الشراكة بين التيار القومي المتطرف والتيار الديني المتطرف، على حساب حزب "العمل"، وريث حزب "مباي"، المؤسس للدولة.

وبينما حصدت إسرائيل عوائد جمة، سياسية وأمنية واقتصادية ومعنوية في حرب 1967، باحتلالها الضفة والقطاع، فإن هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وضعتها إزاء ما تعتبره خطر القنبلة الديموغرافية الفلسطينية، الذي يهدد طابعها كدولة قومية لليهود، وتاليا فإن ذلك كشفها كدولة استعمارية وعنصرية، وأدى إلى كسر احتكارها لمكانة الضحية، وأثار التساؤل بين كونها دولة ليبرالية وديمقراطية (لمواطنيها اليهود) وكونها دولة يهودية ودينية، سيما مع الانتفاضة الأولى التي حدثت بعد عقدين من الاحتلال (1987).

أيضا، بعد تلك الحرب وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة دائمة مع الوطنية الفلسطينية التي تسعى إلى تجسيد ذاتها في دولة بالضفة والقطاع، واستعادة حقوق الفلسطينيين التي أقرها المجتمع الدولي، وضمنها حق العودة للاجئين. وفي تلك الغضون، وجدت إسرائيل نفسها في تناقض فريد من نوعه، فهي لا تستطيع ضمَّ الأرض المحتلة، التي تعتبرها "أرض الميعاد" خاصتها، ولا هي راغبة في التخلي عنها، فيما بات يشكّل واحدا من أهم التشققات في المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والثقافية، منذ 1967 وحتى الآن، وفوق ذلك فهي وجدت نفسها في مشكلة مع مواطنيها من فلسطينيي 48، الأمر الذي حلته حكومة نتنياهو بإقرار "قانون أساس"، باعتبار إسرائيل دولة قومية لليهود (2018)، أي بوضع فلسطينيي 48 في مكانة أدنى.

في المحصلة، فإن من أهم نتائج الحرب التأسيسية الثانية أنها نقلت العرب من الصراع على وجود إسرائيل، وهو ما حدث في الحرب التأسيسية الأولى، إلى الصراع على شكل هذا الوجود، أي بالانزياح من ملف 48 إلى ملف 67، وهو ما فتح المجال أمام التسليم بواقع وجود إسرائيل، على الصعيد الرسمي العربي، كما قدمنا، وإقامة بعض الدول علاقات طبيعية أو تطبيعية معها، وهذا أهم مكسب حققته إسرائيل في تاريخها، بواسطة تلك الحرب.

من أهم نتائج الحرب التأسيسية الثانية أنها نقلت العرب من الصراع على وجود إسرائيل، وهو ما حدث في الحرب التأسيسية الأولى، إلى الصراع على شكل هذا الوجود

سياسة الحرب وحرب السياسة

بعد حرب 1973، ظنت إسرائيل أن تلك هي آخر حروبها، ضمن مفهومها الأثير عن "الردع"، وفرض القبول بها، وقد صدقت في ذلك جزئيا، لكن في ما يخص الجيوش العربية فقط، إذ دخلت بعدها في سلسلة حروب غير نظامية، مع حركات مقاومة، مع حربين كبيرتين في لبنان، وانتفاضتين شعبيتين في الأرض المحتلة (1967)، و5 حروب شنّتها إسرائيل ضد غزة منذ عام 2007، أي منذ سيطرة "حماس" على القطاع، كما قدمنا، لإخضاعها.

وفيما كان الفارق الزمني لحروب إسرائيل مع الجيوش العربية، عشرة أعوام تقريبا، بات في عهد الحروب غير النظامية، أو الحروب ضد المقاومة، ثلاثة إلى أربعة أعوام، رغم الفارق الهائل في موازين القوى العسكرية، لصالح إسرائيل طبعا.

ورغم أن المبادرة لحرب 1973 كانت بيد الأنظمة العربية، وهي شكلت ضربة مفاجئة لإسرائيل، مع تحقيق نجاحات ملموسة، سيما بعبور قناة السويس، فإنها أفضت إلى عكس المطلوب منها، وهو ما تجلى بتكريس فوز إسرائيل في الحرب التي سبقتها (1967)، من خلال الاعتراف بوجودها، وبالتحول نحو التسوية والتطبيع معها، كما حصل في اتفاقات كامب ديفيد المصرية- الإسرائيلية برعاية أميركية (1978).

وفي ذلك فقد تبين أن احتلال إسرائيل لباقي فلسطين، ولأراض عربية في حرب 1967، عزز موقفها التفاوضي مع العرب، وحتى مع الفلسطينيين، إذ سارت القيادة الفلسطينية في ذلك الاتجاه، أيضا، عبر التحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، بدءا من الدورة الـ12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974)، وهو التحول الذي مهد، فيما بعد، لذهاب القيادة الفلسطينية نحو عقد اتفاق أوسلو (1993) الجزئي والمجحف.

أ.ف.ب
قذائف منفجرة تبدو كأنها فسفور أبيض عقب قصف من المدفعية الإسرائيلية، فوق قرية الظاهرة اللبنانية جنوب لبنان بالقرب من الحدود مع إسرائيل، 16 أكتوبر 2023.

مع ذلك، ورغم نجاحات إسرائيل، فهي أخفقت في مسائل ثلاث أساسية، أولا، في ادعائها أنها بمثابة ملاذ آمن لليهود، وهو مبرر إقامتها، فإذا بها أكثر مكان تواجه فيه حياة اليهود مخاطر وتهديدات، بسبب السياسات العدوانية والاحتلالية والعنصرية التي تنتهجها حكوماتهم، وإذا بها، أيضا، بمثابة دولة عسكرية، تعيش مخاطر جمة، وتطلب دعم العالم لضمان أمنها واستقرارها وتفوقها، وهو ما بدا واضحا، مجددا، منذ أكتوبر 2023.

ثانيا، أثبتت التجربة مرارا إخفاق نظرية الردع، التي تشكل عصب نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، فهذا المفهوم لم يشتغل في حرب الاستنزاف (1969) ولا في حرب (1973)، ولم يشتغل في حرب 2006 في لبنان، ولا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، مع حركة "حماس" (2023)، بل تبين أن إسرائيل تلقت ضربات أمنية قوية، تمكنت من التخفف منها بفضل الدعم الغربي لها. والأهم من كل ذلك أن إسرائيل ما زالت معنية بخوض الحروب والمعارك على أكثر من جبهة. صحيح أن المقاومة لم تستطع تحرير فلسطين، أو تحقيق هزيمة لإسرائيل، بالمعنى التاريخي والوجودي، إلا أنها استطاعت إرباك إسرائيل، وزعزعة استقرارها، وإبقاءها في حروب متوالية.

ثالثا، مشكلة إسرائيل هنا أنها تريد فرض ذاتها، والقبول بها، بواسطة القوة، وبمزيد من القوة، أي إنها أخفقت حتى الآن في صوغ استراتيجية بقاء، أو استراتيجية وجود، في المنطقة العربية، تنطوي على تحولها إلى دولة عادية، مع حدود جغرافية وبشرية نهائية، بحكم التناقضات المعشعشة فيها، وبحكم رؤيتها لذاتها ككيان غريب في المنطقة.

صعود فكرة الدولة الفلسطينية من النكبة

مثل أي حرب أخرى، لا يمكن الحديث عن نتائج خالصة لصالح طرف معين في حرب غزة، وهي نكبة للفلسطينيين، بحكم تعقيدات ومداخلات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ففي حين ظهر أن إسرائيل نجحت في وأد مقاومة الفلسطينيين، وتحويل القطاع إلى منطقة منكوبة وغير صالحة لعيش أكثر من مليونين من الفلسطينيين، بدا في الأفق نتائج مغايرة، أو معاكسة.

هكذا، فعدا عن التعاطف الدولي، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، مع الفلسطينيين، وإدانة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وانكشافها كدولة استعمارية وعدوانية وعنصرية، وقد شمل ذلك أوساطا يهودية في الدول الغربية (للمزيد في مادتي: "خسارات إسرائيل في حربها ضد فلسطينيي غزة"- 13/4)، فإن نتائج تلك الحرب الوحشية أتت بعكس ما تتوخى حكومة اليمين الديني والقومي المتطرف في إسرائيل (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير)، أي إن القوة العسكرية الإسرائيلية، وقوة الردع، لم تتحولا إلى مكسب سياسي، إذ إن ذلك أدى إلى تحول طلب الفلسطينيين بإقامة دولة لهم إلى طلب دولي، وهو الأمر الذي قضى نتنياهو عمره السياسي مكافحا ضده.

رغم نجاحات إسرائيل، فقد أخفقت في مسائل ثلاث أساسية، أولا، في ادعائها أنها بمثابة ملاذ آمن لليهود، وهو مبرر إقامتها، فإذا بها أكثر مكان تواجه فيه حياة اليهود مخاطر وتهديدات

ما تقدم يفسر قيام إدارة بايدن، وحكومات الدول الغربية، بإشهار قابليتها، ضمن محددات معينة، لإقامة دولة فلسطينية، كحل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتجنيب الشرق الأوسط مخاطر عدم الاستقرار، ليس فقط من أجل إنصاف الفلسطينيين، وإنما أساسا لضمان أمن واستقرار إسرائيل، والمصالح الغربية في المنطقة، بغض النظر عن صدقيتها في ذلك من عدمه. وبحسب أوري بار يوسف فإن "هجوم (حماس)... وجّه ضربة قاضية لفكرة أن التفوق العسكري يكفي لضمان أمن إسرائيل".

في الإطار ذاته، أكد إيلان بابيه عقم القوة العسكرية وحدها لفرض واقع سياسي، في ندوة له (حيفا- يناير/كانون الثاني الماضي) تحدث عن خمسة مؤشرات تفيد بانهيار إسرائيل، ضمنها: "الدعم غير المسبوق للقضية الفلسطينية في العالم واستعداد معظم المنخرطين في حركة التضامن لتبني النموذج المناهض للفصل العنصري الذي ساعد في إسقاط هذا النظام في جنوب أفريقيا"، لافتا إلى "تحول الضغط من المجتمعات إلى الحكومات"، وأيضا "عدم قدرة الجيش على حماية المجتمع اليهودي في الجنوب والشمال"، بالإضافة إلى "موقف الجيل الجديد من اليهود، بما في ذلك في الولايات المتحدة، والذي يأتي على عكس الأجيال السابقة".

بيد أن توماس فريدمان كان أكثر من عبر عن تلك الحقيقة، بجلاء كبير، سيما من موقعه القريب من الإدارة الأميركية، ففي رأيه "تقف إسرائيل اليوم عند نقطة استراتيجية في حربها على غزة... وترتكب خطأً فادحاً بالاندفاع المتهور إلى غزو غزة، كما فعلت أميركا في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر... ستحتاج إسرائيل إلى خوض هذه الحرب... وأن يصاحبها أفق سياسي لعلاقة جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مبنية على دولتين قوميتين لشعبين أصليين... لقد دخلت إسرائيل في حرب لا يمكن كسبها سياسيا، وانتهى بها الأمر إلى عزل أميركا، وتعريض مصالحنا الإقليمية والعالمية للخطر، وتقويض دعم إسرائيل في الولايات المتحدة، وتكسير قاعدة الحزب الديمقراطي للرئيس بايدن... لقد أصبحت إسرائيل الآن منهكة عسكريا واقتصاديا ومعنويا". ("نيويورك تايمز" الأميركية- 10/4/2024).

باختصار، فإن تداعيات الحرب، أتت عكس إرادة الأطراف المنخرطة فيها، إذ تمخضت عن تعويم القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح"، التي تنازعها "حماس" على المكانة والقيادة والسلطة، كما أنها أعادت قضية الفلسطينيين، على رأس الأجندة العربية والدولية، وفق حقهم في تقرير المصير، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما اشتغل نتنياهو عمره لشطبه، منذ تصدره السياسة الإسرائيلية عام 1996... إنه مكر التاريخ، ربما.

font change

مقالات ذات صلة