هناك اتجاهان يمكننا من خلالهما معرفة كيف تناولت الرواية المستقبل الكوني والإنساني، الأوّل يتخيّل حال الكون في المستقبل مع الاختراعات العلمية، فيما يشمل الثاني معظم جوانب الحياة الاجتماعية، السياسية والصحية والنفسية... إلخ وهناك من يجمع بين هذين الاتجاهين كما في روايتي هربرت جورج ويلز، "آلة الزمن" و"بلاد العميان".
في رواية "آلة الزمن" التي صدرت عام 1895 يتخيل ويلز إمكان اللعب بالزمن والسفر من خلاله إلى أزمنة أخرى، فنرى مستقبلا تسود فيه فئة من المستغلين والمتسلطين على حساب فئة أخرى فقيرة ومضطهدة، فيما نجد في "بلاد العميان" أن سكان أحد الأودية قد أصيبوا بمرض أفقدهم بصرهم تدريجيا حتى صارت الأجيال التالية لا تعرف ماذا يعني البصر كما لا تعرف أن هناك من يسكن العالم غيرهم إلى أن يأتي إليهم شخص مبصر.
هناك روايات أخرى لويلز تنحو أكثر إلى الخيال العلمي مثل "حرب العوالم" التي أشتغل عليها الكثير من السينمائيين، ومنهم السينمائي أورسون ويلز الذي استهل تعامله مع الرواية بخبر إذاعي بث في نشرة الأخبار يقول إن سكان المريخ قاموا بغزو الأرض، مما أرعب الكثير من الأمبركيين الذين تبينوا في ما بعد أنها عبارة عن خدعة أدبية. تتحدث الرواية عن عالم فلك يشاهد غزوا من المريخ عبر صحون طائرة فيقرر علماء مواجهة هذا الغزو بأسلحة نووية لكنها لا تؤثر بهم، ووحدها ميكروبات الأرض تصيب سكان المريخ في الأخير مما يؤدي إلى انهيارهم وتراجعهم.
في المستوى نفسه نجد الفرنسي جول فيرن وقد عمل في رواياته على ما يمكن تسميته باستشراف المستقبل، ومن أبرزها رواية "من الأرض إلى القمر" التي نشرت عام 1865 وتتحدث عن رحلة أناس إلى القمر عبر طلقة مدفع.
في القرن العشرين صار هناك الآلاف من روايات وقصص الخيال العلمي، التي تتحدث عن المستقبل، إضافة إلى الإنتاج السينمائي والتلفزيوني
أما في روايته "في العام 2889" فيتحدث عن حياة سكان في زمن مستقبلي فيه الكثير من الابتكارات والتجارب التي يصير معها وجود إمكان لإحياء الموتى.
في القرن العشرين صار هناك الآلاف من روايات وقصص الخيال العلمي، التي تتحدث عن المستقبل، إضافة إلى الإنتاج السينمائي والتلفزيوني.
وأصبح هذا المنحى من الكتابة تخصصا لبعض الكتاب فلا ينتجون في مجال غيره، كالكاتب آرثر سي كلارك الذي برز في أعماله، "أوديسة الفضاء 2001" و"رمال على المريخ" و"موعد مع راما" وغيرها.
ويمكن أن نشير إلى روايات في المستوى نفسه في هذا الجانب، كرواية الدوس هاكسلي، "عالم جديد شجاع"، الذي يتحدث فيها عن عالم حر تطغى فيه العلوم الحديثة بشكل كبير إذ يمكن فيه السيطرة على المشاعر، ويستغني فيه الناس عن الزواج ليصبح التكاثر عبر أنابيب خاصة.
ما يلاحظ من متابعةكتابات الخيال العلمي، أن أهم اهتماماتها يتلخص في غزو الفضاء، أو لنقل ارتياده بدلاً من فكرة الغزو، ومن ثم علاقة الإنسان بسكان هذه الكواكب المكتشفة كالمريخ وزحل وغيرها، وهي ليست آمنة في كل الأحوال أو تبشر بمستقبل جيد وبالذات حين تنشب المعارك بين سكان هذه الكواكب من جهة وسكان الأرض من جهة أخرى حسب التخيل العلمي. وتشمل عملية ارتياد الفضاء وصفا لأنواع المراكب والأدوات المرافقة لها بل وأنواع الأغذية. كما هناك من يتحدث عن مصاعد فضائية.
هناك أيضاً تخيّل لطرق السفر وعمليات الاتصال التي تحقق منها الكثير، بما في ذلك إدمان وسائط الاتصال الحديثة. مع تخيل عن مصير الإنسان وزراعة الأعضاء والاستنساخ وإمكان التلاعب بالجينات البشرية، وقهر بعض الأمراض والأوبئة وظهور أخرى. إضافة إلى تطور الإنسان الآلي، الروبوت.
في الاتجاه الثاني، وهو الاتجاه الذي يركز على الجانب الاجتماعي والسياسي تبرز رواية "1948" لجورج أورويل التي كتبها في عام 1949، وصوّر فيها واقعا مستقبليا تخيّل فيه لندن وقد صارت تحت سطوة الحزب الواحد وزعيمه "الأخ الأكبر"، ورأى نقاد أن المدينة المعنية حينها كانت موسكو وليست لندن وأن ستالين هو "الأخ الأكبر"، إلاّ أن رواية أورويل لا تقاس أهميتها، كما يبدو لي، في مدى تطابق أحداثها مع الزمن الذي كُتبت فيه، أو أعقبته، حيث هتلر وستالين والفاشية وديكتاتورية الحزب الواحد، أو في مدى تحقق توقعاتها لحال لندن والأماكن التي تسميها لعام 1984، وإنما يمكن اكتشاف هذه الأهمية في قراءة أوسع انفتاحاً للرواية، ومن ذلك أن في هذا العام المعنونة به الرواية كانت الديكتاتورية الفردية والتسلط الشمولي للحزب الواحد، لا يزالان قائمين في كثير من البلدان، ومنها البلدان العربية، التي منعت نشر هذه الرواية، على الأرجح، إذ لم تصدر ترجمة متكاملة لها بالعربية سوى بعد ستين عاما من نشرها وإثر رحيل أبرز الديكتاتوريين العرب.
مع وجود الكثير من الروايات المقلقة والمثيرة عن مستقبل الأرض والعالم، إلا أن هناك أيضا روايات تتحدث عن بلوغ الإنسان الكمال العقلي، أو الرشد، في زمن ما مستقبلي يسود فيه السلام
ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الروايات المستقبلية السياسية كرواية "استسلام" لميشال ويلبيك التي نشرت عام 2015 ويتخيل فيها الكاتب فرنسا وقد صارت تحت الحكم الإسلامي، وهي التخوفات التي يعمل عليها أيضا الروائي الجزائري بوعلام صنصال، فيما يقترب واسيني الأعرج في روايته "2084 حكاية العربي الأخير" من الهواجس العربية أكثر.
ومع وجود الكثير من الروايات المقلقة والمثيرة عن مستقبل الأرض والعالم، إلاّ أن هناك أيضا روايات تتحدث عن بلوغ الإنسان الكمال العقلي، أو الرشد، في زمن ما مستقبلي يسود فيه السلام.
في الكتابة العربية برز هذا التوجه بعد منتصف القرن الماضي من خلال كتابة بعض المؤلفين لرواية أو روايتين دون الاستمرار، إلى جانب سلسلات كتب الجيب المخصصة للناشئة، مثل كتابات رؤوف وصفي ونبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، قبل أن تشمل عالم الرواية، فتصبح من اهتمامات بعض الكتاب، سواء بصفتهم روائيين أو باعتبارهم يجمعون بين كتابة الرواية والتخصص العلمي مثل الروائي والعالم اليمني حبيب عبد الرب سروري الذي تنحو رواياته الأخيرة في هذا الاتجاه وأهمها "وحي" و"جزيرة المطففين" و"نزوح".