هل اقتربت فرنسا من جمهوريتها السادسة؟

هل اقتربت فرنسا من جمهوريتها السادسة؟

ليست مجرد أزمة سياسية عابرة نتجت عن الانتخابات التشريعية التي أجريت في فرنسا في 30 يونيو/حزيران و7 يوليو/تموز، بل معضلة هيكلية ربما تهدد نظام الجمهورية الخامسة. لا تشبه الجمعية الوطنية (البرلمان) المُنتخبة في هذه الانتخابات أيا من الجمعيات الست عشرة التي عرفتها فرنسا منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958. برلمان مُعَلق بلا أغلبية للمرة الأولى في تاريخ هذه الجمهورية، وانقسام سياسي– ثقافي– اجتماعي غير مسبوق، وغير مألوف أيضا لأنه ثلاثي وليس ثنائيا.

ثلاث كتل لا يوجد أي قاسم مشترك تقريبا بين إحداها "التجمع الوطني المعبر عن اليمين الراديكالي الذي يُوصف بأنه متطرف"، والاثنتان الأخريان، وهما المعسكر الرئاسي وتحالف اليسار المُسمى "الجبهة الشعبية الجديدة". كما أن القواسم المشتركة بين التحالف الرئاسي وتحالف اليسار قليلة، رغم أنهما اضطرا إلى عمل مشترك تحت شعار "القوس الجمهوري" في جولة الانتخابات الثانية لإبعاد ما يعتبرانه خطر فوز اليمين الراديكالي بالأغلبية. ولكنهما لم يتمكنا من مواصلة هذا العمل بعد إعلان النتائج وحلول تحالف اليسار في المركز الأول دون أن يحقق أغلبية مطلقة.

وهكذا دخلت فرنسا في حالة انسداد قد تؤدي، رعم اختلاف الظروف، إلى طريق مسدود بلغت الجمهورية الرابعة (1945– 1958) مثله فحدث الانتقال إلى الجمهورية الخامسة التي يصعب اليوم إغفال سؤال منطقي عن قدرتها على الاستمرار واحتمال الانتقال إلى جمهورية سادسة في غضون بضع سنوات.

دلالات تعاقب الجمهوريات

خمس جمهوريات لكل منها نظامها السياسي ودستورها وأنماط تفاعلاتها تعاقبت على فرنسا منذ ثورة 1789. وفى تعاقب تلك الجمهوريات صعودا وهبوطا مفارقاتٌ بعضها مدهش. فقد تحولت اثنتان منها إلى إمبراطوريتين انتهت كل منهما بهزيمة عسكرية. وربما يفيد تأمل كيف تعاقبت تلك الجمهوريات، وأثر الأزمات الداخلية والمغامرات الخارجية في سقوط أربع منها حتى الآن، في محاولة تصور ما ستؤول إليه الجمهورية الخامسة التي تواجهها أزمة كبيرة غير مسبوقة.

فقد أُعلنت الجمهورية الأولى في سبتمبر/أيلول 1792 عقب خلع الملك لويس السادس عشر، ولكن استمرار الاضطرابات التي أعقبت ثورة 1789 عجّل بسقوطها وإعلان نابليون بونابرت الإمبراطورية الأولى في مايو/أيار 1804.

أعلنت الجمهورية الأولى في سبتمبر 1792 عقب خلع الملك لويس السادس عشر، ولكن استمرار الاضطرابات التي أعقبت ثورة 1789 عجّل بسقوطها وإعلان نابليون بونابرت الإمبراطورية الأولى في مايو 1804

وفرضت هزيمة بونابرت في يونيو/حزيران 1815 في معركة واترلو عودة الملكية التي حققت استقرارا نسبيا لنحو 23 عاما، ولكنه لم يستمر، ما أدى إلى إعلان الجمهورية الثانية في فبراير/شباط 1848. وهذه هي الجمهورية الأقصر في تاريخ فرنسا، إذ لم يصل عمرها إلى أربع سنوات.  فقد تكرر سيناريو 1804 سواء في تحول الجمهورية الثانية إلى إمبراطورية بونابرتية ثانية بقيادة لويس ابن أخ نابليون بونابرت تلك المرة، أو في هزيمة هذه الإمبراطورية أمام بروسيا ومن ثم تأسيس الجمهورية الثالثة في سبتمبر/أيلول 1870. وهى تعد أطول الجمهوريات الفرنسية حتى الآن، وقد تظل  كذلك إذا لم تستمر الجمهورية الخامسة حتى أكتوبر/تشرين الأول 2028. فقد بقيت الجمهورية الثالثة حتى هزيمة فرنسا ودخول القوات الألمانية باريس عام 1940، وتشكيل حكومة فيشي الموالية للنازيين. وعقب تحرير فرنسا أُعلنت الجمهورية الرابعة في أكتوبر 1946 لتكون ثاني أقصر الجمهوريات عمرا، إذ استمرت حتى أكتوبر 1958 عندما أعلن شارل ديغول تأسيس الجمهورية الخامسة الحالية.
ولكن بخلاف الجمهوريتين الأولى والثانية التي كانت نهاية كل منهما على يدي واحد من قادتها دفعه طموحه الشديد إلى التحرك لتنصيب نفسه إمبراطورا، وكذلك الجمهورية الثالثة التي أنهاها الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1940، فقد وصلت الجمهورية  الرابعة إلى طريق مسدود بسبب صعوبة تشكيل الحكومات، وسرعة سقوطها، حيث شُكلت 21 حكومة خلال أقل من 12 عاما. لم تستطع الأحزاب السياسية التي دخلت في ائتلافات حكومية التعايش في أجواء سادها صراع شديد وتباعد متزايد أنتج "أزمة قدرة على الحكم" (Governability Crisis). وهذه أزمة خطيرة لأنها تؤدي إلى عدم انتظام دولاب العمل في مؤسسات الدولة، وتعطيل مصالح المواطنين، فضلا عن أثرها المباشر في الوضع الاقتصادي. ويزداد خطرها حين تكون مصحوبةً باضطرابات أيا يكن نوعها.
وهذا هو تحديدا الخطر الذي يواجه الجمهورية الخامسة اليوم.


هل تتجه فرنسا إلى جمهورية سادسة؟

عندما طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من رئيس الوزراء المنتهية ولايته غابرييل أتال الاستمرار في موقعه لتصريف الأعمال، بدا هاجس عدم الاستقرار واضحا في منطوق الطلب وخاصة في ضوء اقتراب موعد افتتاح الألعاب الأولمبية الصيفية التي تستضيفها فرنسا في 26 يوليو الجاري، فيما يُتوقع أن تطول مفاوضات تشكيل حكومة جديدة تنال ثقة البرلمان المُنقسم.  فالأكثرية التي حصل عليها التحالف اليساري لا تُمكنه من تشكيل حكومة بمفرده، إذ يظل في حاجة إلى 109 مقاعد في البرلمان لتكون لديه أغلبية مطلقة (50 في المئة+1)، كما أن التحالف الرئاسي الذي حل ثانيا يحتاج إلى عدد أكبر من المقاعد (130 مقعدا) للوصول إلى هذه الأغلبية.
والأرجح أن يؤدي إصرار الحزب الأكثر راديكالية في التحالف اليساري "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون على برنامجٍ حكومي مستمد من برنامج هذا التحالف، وعدم استعداده لتقديم التنازلات الكبيرة اللازمة للوصول إلى اتفاق مع المعسكر الرئاسي إلى فشل أية محاولة لتشكيل ائتلاف يجمعهما.
وفي هذه الحالة ربما يحاول مفاوضو التحالف الرئاسي شق التحالف الاشتراكي بحيث يتيسر إجراء مفاوضات ائتلافية مع "الحزب الاشتراكي" وحزب "الخضر" بعيدا عن حزب "فرنسا الأبية" (لا تهم في هذه الحالة مشاركة "الحزب الشيوعي" من عدمه لأن لديه 9 مقاعد فقط).

يُتوقع أن تطول مفاوضات تشكيل حكومة جديدة تنال ثقة البرلمان المُنقسم. فالأكثرية التي حصل عليها التحالف اليساري لا تُمكنه من تشكيل حكومة بمفرده

ورغم أن الوضع اليوم مختلف عما كان في فترتي رئاسة كل من فرنسوا ميتران وجاك شيراك حين أمكن التعايش بين رئيس اشتراكي ورئيس وزراء محافظ أو العكس، فليس مستبعدا التوصل إلى اتفاق بين التحالف الرئاسي و"الحزب الاشتراكي" وحزب "الخضر". ولكن هذا الاتفاق المحتمل لن يكفي لتشكيل حكومة تحظى بثقة أغلبية برلمانية دون أن ينضم إليه حزب "الجمهوريين" الذي حصل على 39 مقعدا.
ومن الطبيعي أن تكون المفاوضات صعبة ومعقدة، وطويلة أيضا. ولكنها يمكن أن تنتهي إلى تشكيل ائتلاف حكومي يضم التحالف الرئاسي و"الحزب الاشتراكي" وحزب "الخضر" وحزب "الجمهوريين". غير أن العبرة ليست بتشكيل حكومة ائتلافية، بل بقدرتها على الاستمرار في حالة ازدياد الخلافات داخلها وبلوغها مستوى يؤدي إلى انفراط عقدها.
كما أن الحكومة المحتمل تشكيلها بعد مفاوضات طويلة وشاقة ستعاني مشكلتين. الأولى هي بطء اتخاذ القرارات، وطول أمد عملية تمرير التشريعات بسبب الحاجة إلى تحقيق توافق على كل منها. أما الثانية فترتبط بطبيعة شخصية رئيس الوزراء التوافقي الذي سيُتفق عليه، ومدى اعتداده بدوره، وهل يزاحم الرئيس ماكرون في صلاحيات أساسية مما يجعل التعايش صعبا، أم ستكون لديه المرونة اللازمة لعمل مشترك من غير تنازع اختصاصات قد ينتج عند نقل بعض وظائف الرئيس إلى رئيس الوزراء طول فترة عمل هذه الحكومة. كما أن اختصاص الرئيس بالسياسة الخارجية والدفاع والأمن القومي عُرفي وليس منصوصا عليه في الدستور. وكان احترام رؤساء الوزراء ما يسمى المجال المحجوز لرئيس الجمهورية في هذا المجال أحد عوامل تحقيق التعايش ثلاث مرات في عهد كل من ميتران وشيراك. وليس متصورا أن يقبل ماكرون منازعة رئيس وزراء الحكومة الائتلافية له في هذا الاختصاص.
وهكذا يرتبط نجاح أية حكومة ائتلافية يقودها رئيس وزراء يختلف مع رئيس الجمهورية في خلفيته واتجاهاته بقدرتهما على العمل معا وتقاسم السلطة بطريقة مرضية لكل منهما. وليس هذا سهلا، خاصةً في ضوء تعقيدات الوضع السياسي الفرنسي الراهن.
وتأسيسا على هذه المعطيات والتوقعات يمكن القول إن الجمهورية الخامسة ما زالت لديها فرصة للاستمرار لتكون الأطول إذا نجح الرهان على التعايش بين الرئيس وحكومة تضم حزبين كانا يعارضانه وثالث يختلف معه، وقد يرأسها سياسي من أحد هذه الأحزاب.
لكن إذا تعسر هذا التعايش، وتعطل دولاب العمل في الدولة، يصبح سيناريو الانتقال إلى الجمهورية السادسة محتملا وممكنا عاجلا أو آجلا بعد انتخابات 2027 الرئاسية.

font change