مذكرات فانس... كيف روى فيلم هوليوودي قصة "الأحلام الجمهورية"

دعاية ذكية بعناصر سينمائية مدروسة

Netflix
Netflix
جي دي فانس، مرشح ترمب لمنصب نائب الرئيس

مذكرات فانس... كيف روى فيلم هوليوودي قصة "الأحلام الجمهورية"

عاد فيلم "هيلبيلي إليجي" (مرثية الريف) من إنتاج منصة "نتفليكس" (2020)، بطولة إيمي آدامز وغلين كلوز، وإخراج رون هاورد، المقتبس من مذكرات السيناتور جيمس ديفيد فانس إلى الواجهة، بعدما رشحه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لتولي منصب نائب الرئيس إثر إعلان الحزب الجمهوري رسميا تبني ترشيحه لخوض معركة الرئاسة.

الدعاية الجمهورية التي حصلت على صورة أيقونية لترمب بعد محاولة اغتياله، وهو نازف ويرفع قبضته متحديا في فضاء يظلله علم أميركي كبير، تسعى إلى خلق دائرة مكتملة مع تبني ترشيح فانس الذي ينتمي إلى البيئة البيضاء الفقيرة.

يروي الفيلم قصة صعود فانس بوصفه نموذجا لسيرة القيم الأميركية الراسخة والثابتة التي يؤمن بها الجمهوريون، والتي تمثل عنوانا عريضا للمعركة الانتخابية بين عالم جمهوري ثابت ومتأصل يمكن للإنسان فيه الترقي بالكفاح والصمود، وعالم انحلّت فيه القيم وأصبح كل شيء فيه فاقدا للتماسك ومائعا، وفقا لتوصيف الخطاب الجمهوري لآليات تفكير خصومهم الديمقراطيين، وتبعا لذلك اليساريين.

درع العائلة

يؤدّي الفيلم في ظل احتدام المعركة الرئاسية، دور شبكة دعاية غير معلنة للأفكار الجمهورية بلغة سينمائية ذكية، تعمل على توظيف العناصر الثابتة التأثير من طبيعة المناظر، وطريقة تصوير، وأداء ممثلين، ومنطق عرض الأحداث والسيناريو الذي يحفل بعبارات تكرر فحوى شعارات الجمهوريين بشكل شبه مباشر.

يروي الفيلم قصة صعود فانس بوصفه نموذجا لسيرة القيم الأميركية الراسخة والثابتة التي يؤمن بها الجمهوريون

يبدأ الفيلم بعنوان عريض يخبر المشاهد عن أرض الأحلام والفرص، ثم ينتقل إلى العيش في ولاية ريفية تطغى عليها المشاهد الطبيعية وظروف العيش القاسية. في مثل هذا العالم عاش المرشح لنائب الرئيس طفولته، حيث كان يصطدم في كل لحظة بشتى أنواع القسوة ودرجاتها. كان معرّضا لأن يعثر على سلحفاة جريحة ويقترح عليه أصدقاؤه مداواتها بانتزاع درعها، لكنه كان يعرف أن ذلك يعني موتها، فيتركها للطبيعة مؤمنا أنها ستكون قادرة على الشفاء، وأن تلك القدرة هي سمة أصلية تكمن في المكان وتشكل جزءا من قوته وطبيعته.

درع السلحفاة الجريحة الواقي، يطلق كناية عن العائلة الجريحة والحامية، وعن أميركا بوصفها تجمعا عائليا كبيرا قد تصاب بالجروح، لكنها تمتلك في الوقت نفسه القدرة على علاج نفسها. إنها مكان قاس، لكنه يوفر أيضا الحماية والشفاء. أينما كنت، ومهما فعلت، ستكون في حماية العائلة. يخوض شجارا غير متكافئ ويتعرض للضرب، لكن سرعان ما يجد أفراد العائلة حوله يحمونه ويدافعون عنه.

Netflix

تمثل العائلة قيمة أساسية في الخطاب الجمهوري، لأنها تحمل معنى التماسك الأميركي الصلب، وتستند إلى أصول راسخة، لذا فإن ما يمكن أن يصيب تلك البنية من صدوع وشروخ لن يكون بسبب خلل ما فيها، بل بسبب الخروج عن نظامها، كما ورد في الكتب المقدسة وفي التعاليم المسيحية، وكما تجسّد في دورة الطبيعة والحياة.

الجدة التي تحمل وهي طفلة مصابة بلعنة الخروج عن القيم، وتنقلها إلى ابنتها والدة البطل، كأنها نسق شؤم أو ثمن لا بد من دفعه. تصبح الأم مدمنة مخدرات، وتخوض سلاسل علاقات مرضية وغير ثابتة، وتقوم بتصرفات طائشة ومجنونة تعرض الابن للخطر، ولكن ذلك كله لا يحرمها من تلك الصفة الأصلية الثابتة التي تستحق الدفاع عنها وصونها مهما كلف الأمر، وهي صفة الأم.

التماهي مع السلطة

تصرفات الأم الخطرة والمؤذية تبدو مستقلة عن تلك الصفة أو بمثابة خلل عابر لا يمكنه تفكيك عناصر الصلابة. الخطاب الجمهوري في هذا المقام يبث رسالة تدعو إلى التماهي مع عنف السلطة الأميركية الأم، وقبوله، لأنه لا يمكن تصنيفه على أنه أصلي ومنهجي، بل لا ينشأ إلا بسبب مرض أو خطأ. فالمؤسسات الشرطية، بما تمارسه من عنف واسع، لا تفعل ذلك كنسق منظم ومقصود، بل نتيجة مرض ما قد يطرأ على البنية الأمومية التي تتصف بها. من هنا، فإنه لا بد من الحكم على سلوكياتها، حتى إذا كانت خطرة وقاتلة، انطلاقا من هذا المعنى المتأصل.

عندما تجنّ الأم المدمنة وتعرض حياة الولد للخطر، سيكون، بعدما فرّ ولجأ إلى منزل سيدة، محتميا، واتصل بالعائلة وطلب الشرطة، مطالَبا بتأكيد أنه لم يتعرض لأي أذى، وأن يمتنع عن توجيه أي اتهام. أكثر من ذلك، نجده يركض صارخا معترضا على اعتقال الشرطة للأم التي كانت في حالة من فقدان كامل للسيطرة على أفعالها وسلوكها، ولا شك في أنها تمثل مصدر خطر على نفسها وعلى الآخرين.

لا بد من أن تسامح الأم لأنها عظيمة وطيبة، إنها الكناية الجمهورية عن صورة أميركا التي، وإن كانت تستند الى الجانب الأمومي، تفخخه بخطاب ذكوري حاد وعنيف. الأم تمتلك عمليا صفات، ولكنها لا تصنع أفعالا، فالفعل كله للذكور على مستوى القيم والشخصيات. العائلة تصفح عنها وتحميها، والولد الذكر حامل الإيجابية، يقود الفعل إلى المسامحة والغفران، الذي يترجم بوصفه خلاصة للحب، لكنه أيضا يضيء على القيم الأميركية التي تحض على الانطلاق والجهد والمسؤولية عن صناعة النجاح.

  في مثل هذا العالم عاش المرشح لنائب الرئيس طفولته، حيث كان يصطدم في كل لحظة بشتى أنواع القسوة ودرجاتها

في مشهد يستعير البنية السينمائية الأميركية الكلاسيكية، تمسك الأم المريضة يد ابنها الشاب، الذي تفصله بضع ساعات عن مقابلة عمل مهمة، وتطالبه بالمكوث معها، لكنه يرفض ذلك ويعلن أنه لن يكون مفيدا إذا بقي، وأنه سيفعل ما في وسعه، ولكنه لا يستطيع البقاء.

اليد التي تشدّه وتفرض عليه المكوث، بما يعنيه من فشل، ليست يد الأم، بل يد المدمنة المريضة والعاجزة. ولكنها حين تفلته، تستعيد يدها الأمومية الواثقة والمسؤولة، التي تكرر فحوى شعار "فلنجعل أميركا الأم المريضة عظيمة مجددا".

الجدة والواجب

شخصية الجدة تبدو كتلة متجانسة من العاطفة والمسؤولية، فهي تظهر كنظام رعائي مفتوح، يفعل ما يجب عليه في كل الأوقات، بانتظام، خالٍ من الذاتية والأنانية. تبتلع إهانات الابنة وتذكيرها المتواصل بالخطيئة التي ارتكبتها، على الرغم من إحساسها العميق بالألم والمرارة. يلعب الفيلم على هذه الصفة ليحولها إلى عنوان عريض لشخصية الجدة، فهي كائن يبتلع عواطفه ومشاعره ليكون قادرا على أداء مهمته. تبتلع عواطفها الأمومية لتوافق وتدعم قرار إدخال الابنة إلى مصحة، تبتلع شعورها بالإذلال حين تطلب زيادة المساعدة الغذائية التي تتلقاها من أجل حفيدها الذي انتزعته من الأم المريضة وجلبته ليعيش معها، على الرغم من افتقارها كل موجبات العيش. ونراها تخصصه بالقسم الأكبر مما تحصل عليه من طعام، وتكتفي بالنزر اليسير، في مشهدية عتيقة ومتكررة وكلاسيكية، وذات تأثير محفوظ ومضمون، يعزّز فكرة التضحية ويحيل على تفخيم صورة الجندي الأميركي ومؤسسة الجيش، حيث لا بد من تأدية الواجب مهما كانت الظروف، لا بل على الرغم منها. ولا ينسى الفيلم الإشارة إلى أن تلك المؤسسة تؤمّن نمو الأميركيين وتعزز أحلامهم. فالفتى الذي صار سيناتورا، كان قد تطوع للمشاركة في حرب العراق واستخدم المال الذي حصل عليه في دفع أقساط كلية الحقوق، التي تشكل مدخله إلى عالم الحلم الأميركي.

النساء في الخلفية

ضمن الرسائل التي يحملها الفيلم، رسالة خاصة تتصل بالمهاجرين وتحضر من خلال علاقة الحب التي تجمع فانس بشابة هندية (صارت زوجته لاحقا)، ففي حين يتبنى الجمهوريون سياسة مناهضة للمهاجرين، يعرض الفيلم صورة إيجابية ومرحبة.

Netflix
غبريال باسو وإيمي آدامز وهيلي بينيت في فيلم "Hillbilly Elegy".

 حبيبة فانس الهندية، مندمجة في نظام التعليم الأميركي، كما أنها خبيرة بتقاليد الطبقة الراقية التي لا بد للمرء من أن يتقرب منها ويعرف طقوسها كي يعبر إلى النجاح. العلاقة معها شرعية وتقود إلى الزواج وإنشاء عائلة، أي إلى تعزيز النظام التقليدي وإعادة إنتاجه.

 الفتى الذي صار سيناتورا كان تطوع للمشاركة في حرب العراق واستخدم المال الذي حصل عليه في دفع أقساط كلية الحقوق

 لا نشاهد عاطفة جانحة وقبلات وعلاقة حميمية، بل علاقة منضبطة تعكس صورة امرأة اندمجت في النظام الأميركي وتقف وراء البطل الذكر الأميركي وترعاه كي يستطيع تحقيق ما يتيحه له ذلك النظام من فرص استثنائية لا تتوفر في أي مكان في العالم.

ومع أن القصة تدور حول فانس، فإن قصص النساء تستأثر بالقسم الأكبر من الفيلم، لكن أدوارهن تبقى على الرغم من ذلك ثانوية وذات طابع تعزيزي يساهم في خدمة صورته. المشاهد التي يظهر فيها قليلة، لكنها تتخذ طابع المتن، في حين يُحال الحضور الطاغي للنساء على الخلفية.

لا شك في أن ذلك البناء المدروس يتطابق مع موقف الجمهوريين من المرأة ودورها، فهي عظيمة ومقبولة في إطار دورها المحدّد كبنية دعم للطموح الرجالي، كما أن قابليتها للخطأ عالية بحكم طبيعتها، ولكن باب التوبة والغفران يبقى مفتوحا طالما ركنت إلى الموقع المعدّ لها، والذي يجعلها غير قادرة على إدارة الشأن العام وتسلم موقع المسؤولية والمناصب الرئاسية.

AFP
السيناتور الأميركي جي دي فانس يصافح ترمب في أوهايو، 22 فبراير 2023.

هل يكون هذا الفيلم تلخيصا للمواقف الجمهورية من ترشيح هيلاري كلينتون وتأسيسا مسبقا لحملة ضد صعود نجم نائب الرئيس كاميلا هاريس، التي يمكن أن تكون المرشحة الديمقراطية لخوض المعركة الرئاسية في حال اقتناع بايدن بالانسحاب من المعركة لصالحها، وهو عنوان يراه الكثيرون من الديمقراطيين ضروريا، بينما ينظر إليه الجمهوريون وفق فحوى خطابهم على أنه ليس مجرد خطأ سياسي، بل خطيئة ضد القيم.

المسرحة والشعبوية

حظي الفيلم عند ظهوره بمراجعات نقدية شديدة السلبية، بالضد من الترحيب الجماهيري. الناقد تشارلز براميسكو يتساءل لماذا قرّرت إيمي آدامز وغلين كلوز تقديم مثل هذا الفيلم السيئ، وينتقد ظاهرة التقمّص الجسدي المبالغ فيه للشخصيات، والاعتقاد بأن ذلك من شأنه أن يخلق مباشرة أثرا عاطفيا، كما يصف طريقة أداء الممثل الشاب غبريال باسو لشخصية فانس، معتبرا أنه يتكلم وكأن فمه مليء بالصلصة.

AP
المرشح الرئاسي الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب مع نائبه المرشح جي دي فانس، جمهوري من ولاية أوهايو، خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الاثنين 15 يوليو 2024 في ميلووكي.

تلك القراءة النقدية التي تشاركها قراءات كثيرة في وجهة نظرها السلبية حول الفيلم، تبدو غير مؤثرة جماهيريا، فهي تحلله بعقلانية وتفكك عناصره السينمائية والعناصر المكونة لخطابه بطريقة تستند إلى معايير صارمة، في حين أن الجماهير تستجيب للعناصر الشعبوية التي يحفل بها. مفارقة كبيرة أن ينال الفيلم على موقع "روتن توماتو" تقييما لا يتجاوز الـ 25% نقديا، في حين تصل شعبيته الجماهيرية إلى حدود الـ 82%."

نجحت هذه الدراما في تحقيق مبتغاها بأدوات مجرّبة تعكس طبيعة الخطاب الجمهوري وتتجنب مناقشة أفكاره

ذلك التفاوت يميز روح المنطق الجمهوري الذي يحتقر النخبة والمنطق العلمي والجاد، ويركن إلى الشعبوية ويعتمد على الإثارة العاطفية. طريقة الأداء في الفيلم تستجيب للنزعات الشعبية العميقة وتخاطبها بأداء ممسرح يغلب عليه التشنّج الحركي والمبالغة الانفعالية، كأنه خطاب يتجه إلى الخارج ويخاطب الحواس بغية صناعة تأثير مادي لا يدفع إلى النقاش والتفكير.

لقد ناقشت أفلام كثيرة موضوع الإدمان وآلامه بشكل أعمق يركز على الألم المنفجر الذي يخترق الروح ويجعل الكائن غريبا عن نفسه وعن العالم. لكن خيارات الأداء في الفيلم، بإصرارها على الصراخ والحركة المتشنّجة، جعلته يبدو ملحقا بالشخص من الخارج كديكور وليس صفة تخترق كيانه.

Netflix
إيمي آدامز في دور بيف، والدة جي دي فانس، في فيلم "Hillbilly Elegy".

شخصية الأم تبدو في وضع المدمنة وليست المدمنة باكتمال التعريف، وكذلك الجدة في تعبيراتها بدت تؤدي دور الغضب والحزن والصرامة والانكسار، وليست حزينة أو منكسرة أو غاضبة بالفعل، وبذلك ظهرت في عمقها شخصية تفتقد الصفات. موتها في الفيلم لم يستطع أن يكون دراميا كما ينبغي، بل ظهر عرضيا وعابرا، على الرغم من محاولة الفيلم توظيفه عاطفيا، إلا أنه لم ينجح في خلق دائرة انفعالية، بل بقي الأداء يراوح منطقة التشنج نفسها التي تسعى إلى مخاطبة الجماهير جسديا ونقل نوع من الإحساس المباشر غير المتطلب للتحليل الفكري.

يتكامل هذا النوع من الأداء مع النص الشعاراتي، سواء ذلك الذي يقال عبر الراوي أو الشخصيات. على امتداد الفيلم تظهر عبارات ذات طابع شعاراتي: "العائلة هي كل ما يهم"، "جذورنا تحدد هويتنا ولكننا نختار مستقبلنا كل يوم"، "أيا كان مستقبلنا سيكون إرثنا المشترك".

في النهاية، فإن هذه الدراما الجبلية عن العيش والترقي للبيض القادمين من أصول ريفية متواضعة، نجحت في تحقيق مبتغاها والاستجابة الجماهيرية بأدوات مجربة ومدروسة، تعكس طبيعة الخطاب الجمهوري وتتجنب مناقشة أفكاره. تضع كل ذلك العالم الذي يظهر أمام العين مألوفا وحميما ومجربا وآمنا وحافلا بالثقة، في مواجهة ما ينادي به الحزب الديمقراطي من عالم تقني ممنهج وآلي ومخرب للقيم الثابتة والمعروفة، ولا يقود إلى الحلم الأميركي، بل يفتح أبواب الجحيم والمجهول. جي دي فانس لم يخرج عن تلك التوليفة، بل عمل على توظيف تلك المسرحية الشعبية بصيغتها الجمهورية الترمبية، في أول تصريحاته حين قال إن بريطانيا "دولة مسلمة نووية"، فصنع دوامة من الغضب والإثارة والانفعالات والجدال.

font change

مقالات ذات صلة