بحسب ما نعرف، ستكون ولاية دونالد ترمب الرئاسية المقبلة– إذا فار في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل– تاريخية. وستدخل الولايات المتحدة فيها عصرا جديدا، عدد من يحذر من عواقبه وكوارثه لا يقل عن عدد المبشرين بمكاسبه والآفاق التي سيفتحها.
مزيج "اليوتوبيا" و"الديستوبيا" الذي تبشر به الولاية المقبلة، لم تتبين بعد أي من مكوناته الكبرى باستثناء استئناف "الحرب الثقافية" في الداخل الأميركي. مشاعر الانتقام وملاحقة الخصوم التي عبّر ترمب عنها صراحة في كثير من المقابلات والأحاديث، ستنتقل إلى كامل الحزب الجمهوري، وليس مستبعدا أن تتحول إلى سياسة عامة تستهدف أعداء ترمب وخصومه من مختلف المشارب، خصوصا أنه بات مسلحا بـ"مظلومية" محاولة الاغتيال الفاشلة التي أضيفت إلى رواية "سرقة فوزه الانتخابي" في 2020.
بيد أن الثأر ممن حرم ترمب فوزه السليب (الوهمي) ليس سوى جانب واحد مما قد تشهده الولايات المتحدة. "مشروع 2025" الذي نفى الرئيس السابق صلته به، يعود إلى البروز مجددا في وسائل الإعلام الأميركية باعتباره جدول أعمال إدارة ترمب المقبلة التي ستجد في المشروع الخطوات نحو تكريس نوع من نظام حكم يختلف في كثير من الوجوه عن تلك التي عرفتها الولايات المتحدة في الأعوام الخمسين الأخيرة على الأقل. وبحسب ما هو معروف، فإن المشروع يدعو إلى تعزيز قيم المجتمع المسيحي المتشدد في محافظته وإلى مواقف قاسية من الهجرة، ومن الإنفاق الاجتماعي الحكومي. ما جعل بعض المراقبين يبدي خشية على تنوع المجتمع وعلى مؤسسات القطاع العام التي تساند ملايين الأميركيين في تدبر أمور تعليم أبنائهم وتوفير الرعاية الصحية.
تنفيذ المشروع وانقلابه من سمات المستقبل الأميركي، وهو ليس بالأمر الحتمي، وكذلك فوز ترمب، رغم تقدمه الواضح في استطلاعات الرأي. بيد أن التغيرات التي تشهدها الولايات المتحدة لا يبدو أن تسارعها سيخف ولا تداعياتها الاقتصادية، واستطرادا، السياسية.
مشاعر الانتقام وملاحقة الخصوم التي عبّر ترمب عنها صراحة في كثير من المقابلات والأحاديث، ستنتقل إلى كامل الحزب الجمهوري وليس مستبعدا أن تتحول إلى سياسة عامة تستهدف أعداء ترمب
ذلك أن اختيار ترمب لجيمس دي فانس كمرشح لمنصب نائب الرئيس غني بالدلالات. فانس الآتي من خلفية تبدو على طرف نقيض من خلفية ترمب، والمتحدر من واحدة من الشرائح الأفقر بين البيض في الولايات المتحدة، والذي انخرط في القوات المسلحة الأميركية ليستطيع توفير أقساطه الجامعية، قد يبدو للناظر أن ما من شيء يجمعه مع ترمب المطور العقاري ورجل الأعمال والنجم التلفزيوني الذي استفاد من ثروة والده للبدء في عمله الخاص وتهرب من الخدمة العسكرية في فيتنام على نحو ما كان يفعل أترابه من أبناء الأثرياء في تلك السنوات.
نظرة ثانية توضح أن الاختيار يتساوق تماما مع ما يريده ترمب من وريثه السياسي: الاستمرار في نهج التشدد الاجتماعي والسياسي والاستفادة من الأجواء التي ترافق فشل المشاريع البيئية واتضاح كلفتها الباهظة على الأميركيين والضغط على الحلفاء في الخارج للبقاء في إطار السياسات الأميركية الكبرى على ما يمكن الفهم من تصريح فانس بشأن بريطانيا التي اعتبرها "الدولة النووية الإسلامية الأولى".
والواضح أن فوز الديمقراطيين في 2020 لم يُستثمر على الوجه الأكمل، رغم تعبيره عن اعتراض واسع على سياسات ترمب في ولايته الأولى. أسباب ذلك تتوزع على رسوخ سياسات الهوية في المعسكر الديمقراطي، وتعمق الانقسام بين المراكز المدنية على الساحلين الأطلسي والهادئ وبين الداخل الريفي الصناعي ذي التوجه المسيحي- اليميني الذي لم يجد حلولا للآفات التي أصابته منذ نزع المراكز الصناعية منه في تسعينات القرن الماضي وتجلت في عدد من الظواهر المدمرة مثل تفشي المخدرات وخصوصا الأدوية المرتكزة على الأفيون في الإدارات الديمقراطية.
ومنها أيضا الوهم الذي يسيطر على الرئيس جو بايدن بأنه المخلص الوحيد للديمقراطية الغربية في وجه صعود الأنظمة التسلطية في روسيا والصين واليمين المتطرف الأوروبي المتحالف معها. وأضف إليها الأداء المنحاز إلى إسرائيل في الحرب على غزة ما جعل أصواتا عربية ومسلمة كثيرة تنفر من الديمقراطيين وإفراطهم في دعم إسرائيل...
ما يجري تحت السطح في الولايات المتحدة، وفي المجالات البعيدة عن أضواء الشبكات الإخبارية والأنباء العاجلة، هو ما يرسم مستقبل تلك البلاد ومعها أجزاء كبيرة من العالم.