ستارمر سيتبع الحذر في مقاربته السياسات البريطانية

اعتماد نهج السلامة بدلا من تعريض التعافي الهش للخطر

أ ف ب
أ ف ب
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر (إلى اليسار) مع رئيسي الوزراء العماليين السابقين توني بلير وغوردون براون أثناء مراسم إعلان الملك تشارلز الثالث ملكا على بريطانيا في 10 سبتمبر في قصر سانت جيمس في لندن

ستارمر سيتبع الحذر في مقاربته السياسات البريطانية

الآن وبعد أن قام رئيس وزراء المملكة المتحدة المنتخب حديثا، السير كير ستارمر، بتشكيل حكومته الجديدة، يبقى السؤال الرئيس الذي يخيم على إدارة حزب "العمال" الجديدة ما إذا كانت تلك الحكومة ستنفذ أجندة يسارية جذرية، أم ستتبع النهج الأكثر وسطية الذي كان يفضله رئيس الوزراء العمالي السابق السير توني بلير.

خلال السنوات العشر التي قضاها بلير رئيسا للوزراء بين عامي 1997 و2007، لطالما اتُهمت إدارته بأنها تتبنى سياسات لا يمكن تمييزها عن سياسات السوق الحرة التي يعتنقها "المحافظون" عادة.

اتبع بلير نهجا اقتصاديا أدى إلى فترة من النمو المستدام وشهد ارتفاعا كبيرا في مستويات المعيشة، وكان أفضل تجسيد لذاك النهج هو اللورد بيتر ماندلسون، أحد مهندسي مشروع بلير لحزب "العمال الجديد"، الذي قال في ملاحظته الشهيرة إنه كان "مرتاحا للغاية لأن الناس يصبحون فاحشي الثراء".

ومع التعيينات الرئيسة الآخذة بالتشكل بعد أن حقق زعيم حزب "العمال" فوزا ساحقا في الانتخابات العامة التي جرت في الرابع من يوليو/تموز، هل ستكون حكومة ستارمر الجديدة قادرة على تكرار سنوات المجد التي شهدها عهد بلير؟ سيكون هذا قرارا صعبا، لا سيما في ظل الصدمات التي أصابت الاقتصاد العالمي بسبب كل من جائحة "كوفيد" والصراع في أوكرانيا. وفي نهاية المطاف، فإن قدرة ستارمر على تجديد النمو الاقتصادي ووضع المملكة المتحدة على أساس اقتصادي أكثر استقرارا سوف تعتمد على السياسات التي تقرر إدارته الجديدة أن تتبعها.

على امتداد مرحلة الحملة الانتخابية، كان أحد أبرز أساليب الهجوم التي استخدمها ريشي سوناك، رئيس الوزراء المحافظ السابق، أن الانتعاش الاقتصادي الذي حظيت به المملكة المتحدة في الشهور الأخيرة سوف يكون عرضة للخطر في حال فوز حزب "العمال"، هذا الانتعاش كان قد جعل منها الدولة ذات الاقتصاد الأسرع نموا في نادي مجموعة الدول الصناعية السبع (G7).

وكشفت أحدث النتائج التي نشرها مكتب المملكة المتحدة للإحصاءات الوطنية خلال الحملة الانتخابية أن اقتصاد المملكة المتحدة حقق نموا قدره 0.7 في المئة خلال الربع الأول من العام، ما يشير إلى أن بريطانيا كانت في طريقها إلى التعافي الكامل من التحدي المزدوج الذي تسبب به كل من "كوفيد" وحرب أوكرانيا.

اقتصاد المملكة المتحدة حقق نموا قدره 0.7 في المئة خلال الربع الأول من العام، ما يشير إلى أن بريطانيا كانت في طريقها إلى التعافي الكامل

وفي حين أن الأداء الاقتصادي المتعافي لم يفعل الكثير لمنع حزب "المحافظين" بزعامة سوناك من التعرض لأسوأ هزيمة انتخابية منذ مئتي عام، فهو مع ذلك يضيف مزيدا من الضغوط على حكومة ستارمر الجديدة كي لا تخرج عن المسار الاقتصادي الإيجابي الذي ورثته عن "المحافظين".
إن قدرة ستارمر على البناء فوق إنجازات "المحافظين" التي حولت اقتصاد المملكة المتحدة مرهونة إلى حد كبير بما إذا كانت حكومة حزب "العمال" الجديدة سوف تعود إلى سياستها التقليدية من حيث الضرائب المرتفعة والإنفاق العام المرتفع، والتي يتوقع الكثير من الاقتصاديين أن تؤدي إلى تقويض التعافي الاقتصادي، أم إنها سوف تلتزم بنهج "المحافظين" في صون النمو الاقتصادي.

 أ ب
رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك بعد فوزه بمقعده في الانتخابات النيابية الأخيرة في 5 يوليو في نورثهالرتون

وبالنظر إلى التعيينات التي قام بها ستارمر في فريقه الرئيس منذ فوزه في الانتخابات، تدل كل المؤشرات على أن رئيس الوزراء الجديد ينوي اعتماد نهج السلامة أولا بدلا من تعريض التعافي الاقتصادي الهش في المملكة المتحدة للخطر.
لم تكن معظم التعيينات الرئيسة في حكومة ستارمر الجديدة مفاجئة. فوزيرة المالية راشيل ريفز، ووزير الخارجية ديفيد لامي ووزيرة الداخلية إيفيت كوبر ووزير الدفاع جون هيلي، معروف عنهم جميعا موالاتهم لستارمر وقد عملوا معه بشكل وثيق لتحقيق النصر الساحق. وبدعمهم، من المتوقع أن يتمكن ستارمر من جعل الحكومة الجديدة تصب جل اهتمامها على تقديم تحسينات كبيرة في مجالات القطاع العام الرئيسة، مثل التعليم والصحة، بينما يعالج في الوقت نفسه قضايا مهمة أخرى، مثل كبح الهجرة غير الشرعية، وتحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والشروع في برنامج ضخم لتشييد المنازل.
مع ذلك، قام ستارمر في الوقت نفسه أيضا بتعيين عدد من المساعدين ممن عملوا مع بلير في مناصب رئيسة في إدارته، الأمر الذي يدل على أنه ينوي أيضا تبني نهج أكثر حذرا في حكم المملكة المتحدة وإدارة اقتصادها التي ميزت السنوات الأولى من فترة بلير في السلطة. نذكر أن "البليريين" هم الذين يدعمون الأيديولوجيا السياسية الديمقراطية الاجتماعية لتوني بلير وقد دخل هذا المصطلح قاموس "نيو بينغوين" الانكليزي عام 2000.
وفي الوقت الذي نجح فيه حزب "العمال" بزعامة ستارمر في تحقيق فوز ساحق في الانتخابات، والحصول على أغلبية قدرها 170 مقعدا في البرلمان الجديد، لم يتمكن الحزب من الفوز إلا بثلث الأصوات الشعبية بسبب التحدي المتأخر الذي قدمه حزب "الإصلاح" بزعامة نايجل فاراج.
يدرك ستارمر جيدا أنه يحتاج إلى توسيع جاذبيته وطمأنة الناخبين البريطانيين الساخطين بعد نتيجة الانتخابات العامة التي وصفت بأنها الأكثر تضليلا في التاريخ السياسي البريطاني الحديث. وهو ما يفسر سبب لجوئه إلى عدد من "البليريين" البارزين لتولي عدد من الأدوار المهمة في الإدارة الجديدة، على أمل أن يتمكنوا من منح حكومة المملكة المتحدة الجديدة آفاقا مستقبلية أكثر استقرارا.

تدل كل المؤشرات على أن رئيس الوزراء الجديد ينوي اعتماد نهج السلامة أولا بدلا من تعريض التعافي الاقتصادي الهش في المملكة المتحدة للخطر

وفي هذا السياق، ينظر المراقبون إلى تعيين آلان ميلبورن، الذي شغل منصب وزير الصحة في حكومة بلير، للمساعدة في مواجهة التحدي المعقد في إصلاح هيئة الخدمات الصحية الوطنية التي تديرها الدولة في المملكة المتحدة (NHS) على أنه أحد أهم الخطوات التي اتخذها ستارمر.
وباعتباره شخصية رئيسة في حزب "العمال" الجديد، دفع ميلبورن بسلسلة من إصلاحات هيئة الخدمات الصحية الوطنية، مثل اختيار المريض وتحسين دور القطاع الخاص، التي لم تحظ بشعبية لدى نشطاء الحزب اليساريين.
ومن بين المخضرمين الآخرين من عهد بلير الذين عينهم ستارمر جاكي سميث، التي شغلت منصب المنسقة العامة للكتلة النيابية ووزيرة الداخلية، ومن المقرر أن تعود كوزيرة دولة للتعليم، وكذلك دوغلاس ألكسندر، وزير التنمية الدولية السابق، الذي عُين وزيرا للأعمال، بعد أن عاد إلى مجلس العموم بعد غياب دام تسع سنوات.
إن تعيين هذه الشخصيات العمالية البارزة من عهد بلير سيساعد بكل تأكيد على بث الطمأنينة عند الناخبين البريطانيين بأن ستارمر لن يصب كامل تركيزه على متابعة أجندة يسارية، رغم حقيقة أنه عمل سابقا بشكل مقرب مع زعيم حزب "العمال" السابق جيريمي كوربين، الذي يمكن القول إنه كان أحد أكثر القادة اليساريين في تاريخ حزب "العمال".
وكان كوربين قد استبعد في النهاية من حزب "العمال" من قبل ستارمر بعد اتهامات بمعاداة السامية. ومع ذلك، وفي تحدٍّ لنفوذ ستارمر، تمكن كوربين من الاحتفاظ بدائرته الانتخابية في إسلينغتون نورث في لندن بعد أن ترشح كنائب مستقل. وهذا يعني أنه سيظل قادرا على مواصلة حملته الانتخابية من أجل عدد من القضايا البارزة من منصبه في المقاعد الخلفية، مثل الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة وإدانة الهجوم العسكري الإسرائيلي.
الأكثر من ذلك، وفي علامة تحذير على الصعوبات المستقبلية التي يمكن أن يتوقع ستارمر مواجهتها من الناشطين في المقاعد الخلفية بشأن القضايا العالمية الرئيسة مثل الصراع في غزة، سينضم إلى كوربين في تلك المقاعد الخلفية خمسة نواب مستقلين فازوا بمقاعدهم على حساب حزب "العمال" من خلال إطلاق حملات بين المنصات المؤيدة لفلسطين.

رويترز
فيكتوريا ستارمر زوجة رئيس الوزراء كير ستارمر تتوسط المحتفلين بفوز "حزب العمال" في الانتخابات في 5 يوليو في لندن

حاول ستارمر قبل أن يصبح رئيسا للوزراء تجنب تقديم أية التزامات واضحة بشأن قضية غزة، باستثناء دعوة إسرائيل بين الحين والآخر إلى ضبط النفس ودعم الجهود الرامية إلى تنفيذ وقف إطلاق النار في غزة. 
أما الآن وبعد أن أصبح مؤكدا أن البرلمان الجديد سيضم عددا من المؤيدين للقضية الفلسطينية ذوي الأصوات الغاضبة على مقاعده الخلفية، فقد يجد ستارمر نفسه وبشكل سريع يرزح تحت ضغط ضرورة القيام بدور حاسم بشكل أكبر من أجل السعي لإنهاء الصراع في غزة.

font change

مقالات ذات صلة