عندما قرأت للمرّة الأولى أعمال الشاعرة البولنديّة فيتسلافا شيمبورسكا (جائزة نوبل 1996)، أُصبت بالحيرة. فهي بَدَت في قصائدها، مسطحة، لا تهتم باللغة كأساس، ولا بتفجير الجملة، ولا نحت العبارة. بل بدا لي أنها جاءت من عالم ما اعتدته، أو آثرته، خصوصا أنني غير مطّلع تماما على الشعر البولندي في القرن العشرين. ثمَّ قرأت مختاراتها التي صدرت بالفرنسيّة، قرأتها، بتأنٍّ مرّة ومرّتين، واكتشفت أنها آتية من خارج المفاهيم الشعريّة العاطفيّة أو "اللغويّة" أو السورياليّة، من أمكنة غير شعريّة (معتادة أو مألوفة).
في إحدى مقابلاتها الصحافيّة تجيب "لا أعرف ما هو الشعر"، لنتبيّن أنها تنطلق من "جهلها"، أيّ من تحرّرها من التحديدات الجاهزة والقوانين والمدارس، أي أن ليس لديها حقائق ثابتة، سوى أنها لا تعرف، وهذا يجعلنا نتفهّم "تمرّدها" على كل ما سبقها، كالمستقبليّة والدادائيّة والسورياليّة وصولا إلى الرمزيّة، التي كانت رائجة منذ بدايات القرن العشرين. ويطاول هذا التحرّر كل التزام ميتافيزيقي: شاعرة بلا حقائق، تبدأ من حرّيتها الخاصة في مجتمعات كانت كالحريات فيها، مصممة أو مؤممة. وهكذا خاطرت بالشعر لأنها جعلته طريقها الخاص بإعادة النظر في الأفكار والفلسفات المجرّدة والعواطف والانتماءات الكبرى (الوطن والقوميّة والإيمان)، لتضع مسافة واضحة بينها وبين الأخلاقيات الرومنطيقيّة وبين الدور التقليدي للشعر.
هكذا خاطرت بالشعر لأنها جعلته طريقها الخاص بإعادة النظر في الأفكار والفلسفات المجرّدة
أو الأحرى على نقيضه، إلى نوع من التحليل الموضوعي إذا صحّ التعبير، بل كأنها تمحو "الأنا" أو تكون هذه الأنا، في قوّة مراقبتها، مفكرة ومصغية وواعية أنها "الأنا" "المتحرّرة من عبوديّة العواطف المتطرّفة، عواطف الحب والجماهير والدين والأرض. كأن هذا الوعي الحرّ هو الحقيقة الثابتة لأنه غير مضلّل كما حال العواطف الكبرى التي تؤدّي إلى العبوديّة والعمى، أو إلى نوع من الوهم، وهْمٌ احتفالي بالوجود. من هنا اعتمادها الوضوح الكلّي، يكوّن النقاء والبداية. وهو وضوح لا يرحم، قاسٍ، سلّط ضوءه على الإنسان، بكلّ فجائعه وعزلته وقدريّته، يكشف الإنسان أمام نفسه بلا زينة ولا تبرّج ولا بلاغة ولا احتفالية تشير بصراحة حادة إلى الواقع الدرامي وموروثاته. أتراها واقعة في لامعقول ألفرد جاري، في "الملك أوبو"، أو متاخمة لتفلّتات يونسكو العبثيّة، ودونكيشوتيّة بيكيت الفاغرة أمام فراغ العالم؟ أو أداموف في انفتاحه على الهاوية الكونيّة، أو حتى غربة ألبر كامو العبثيّة الباردة، في"غريبه" والحادة في"سيزيفيّته". ربّما ليس من هذا كلّه، فهي من دون ميلودراميّة بيكيت وعدميّة يونسكو، كأنّها شاعرة من دون سلالة أو شجرة عائليّة بينها وبين التاريخ والعالم والزمن.
لكن إذا كانت الشاعرة ناقضت ورفضت، ما رفضت، فهي من خلال ما وراء نصوصها، تكشف، بنوع من التغامض السرّي، وتنحو إلى الطابع التراجيدي- الكوميدي للوجود. إنّها من تلك العبثيّات التي لا تستحضر اليأس، ولا حتى الصدام مع الحياة. أتراها مصالحة مع اليأس؟ ربّما. لكننا نكتشف أنّ في هذه المأسويّة العالية والشاهقة إيماء إلى معنى عميق في هذه الحياة، يكمن في الأشياء البسيطة، أي قبول الحياة، والموافقة عليها، بل وأحيانا كثيرة في تضاعيف قصائدها الوجه الآخر للحياة، أي الاحتجاج عليها. فالقبول أحيانا، وهو قدريّة من نوع آخر، أو سيزيفيّة، ونتذكر هنا ألبر كامو، أي قد يكون شكلا من أشكال الاحتجاج والرفض. لكن كل ذلك يأتي في شعر شيمبورسكا كنوع من التأمليّة، أو فلنقل في نوع من الشعر الحكمي. إنّها شاعرة الحكمة الحذرة، أي من دون حقائق ثابتة ولا أفكار مستقرة، فالحكمة مستخلصة من طبيعة الحياة، والواقع والمقاربة، وتتّجه في مجملها نحو حكمة بلا نصائح، وبلا معانٍ مكرّرة، سوى أن العالم يعيش قدريّة دائريّة. كلّ شيء يتكرّر في كلّ شيء. وما حدث أمس يحدث اليوم وغدا وبعد غد، وربّما بالطريقة ذاتها، وبالنفسيّة ذاتها، والممارسة ذاتها: الحروب، الحب، الموت، الفصول، والأنهار والغيوم، والأحياء والموتى، والكلام: كلّ شيء ينقضي ولا ينقضي. بل كلّ شيء ينقضي لكي يتكرّر في حركة أخرى مماثلة، والإنسان في هذا التكرار الذاتي والكوني لا يتعلم. يكرّر أخطاءَه وآثامه، وذنوبه، وجرائمه وعواطفه: تكرار مُغلق لا يفضي إلى شيء. إنّه تكرار ينساب وحيدا في مونولوغ وحيد بلا اعتبار. كأنَّ في ذلك التكرار الدائري انتصارا للذاكرة العائدة والمستعادة، لكن بلا جدوى ولا معنى.
ترى شيمبورسكا أنه يمكن أن نجد ملاذا في السعادة، أو السعادات الصغيرة في يومياتنا
لكن على الرغم من هذه القتامة الشاملة، ترى شيمبورسكا أنه يمكن أن نجد ملاذا في السعادة، أو السعادات الصغيرة في يومياتنا وآفاقنا وكتاباتنا، كأنّما لا نجد في ما يُسمى الفرح العائم، والسعادة الغامرة، سوى ما يكون في غفلة من التاريخ المتكرر.
وعلى هامش هذه العجلة الكونيّة الساحقة في تفاصيل الحياة، وفي أبسط مظاهرها، كأننا عبر هذه الامور نؤجل أو ننسى استسلامنا، أو انسياقنا للحركة الكونيّة أو لهذه القدريّة المستديرة.
وهنا بالذات نرى أنها تلتقي سيزيفيّة كامو، في حركة سيزيف المتكررة، لكن تكراره الدائم عند كامو انتصار، أو إحساس بالغبطة في كونه يلغي في هذا التكرار العبثيّة المؤجلة. وتختلف كليّا مع فكرة التقدم (والتقدميّة) عند الشيوعيين ويسمّونها "حركة التاريخ"، وفيها لا يغتسل المرء من ماء النهر ذاته مرّتين، لأنّ النهر يجري ويتقدم. لكن تناسى هؤلاء أنّ النهر يذوب في البحر، ليتكرّر النهر في حركته الدائريّة، أو في مصيره الحتميّ.