انتشر عدد من المقاهي ذات العوالم الإنسانية الفريدة، حول المباني التاريخية الضخمة في منطقة وسط البلد بالقاهرة، وفي جوفها، إذ كان يجلس إليها الناس بمختلف ثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية. وكانت تلك المقاهي شاهدة على الحراك الثقافي والسياسي في مختلف المراحل.
عام 1863 تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر، وقتذاك كانت القاهرة تمتدّ من منطقة القلعة شرقا إلى مدافن الأزبكية وميدان العتبة غربا، يحجزها عن النيل عدد من البرك والمستنقعات والتلال والمقابر، وكان عمرانها متدهورا، فأمر الخديوي بنقل المدافن المحيطة بها، وجعل المستنقعات المترامية على جانبي النيل متنزهات وميادين وأحياء ومباني على الطراز الأوروبي، محولا القاهرة الخديوية إلى ما تشتهر به اليوم باسم "وسط البلد" ومركزها وقلبها ميدان التحرير.
تروي ميسون صقر في كتابها "مقهى ريش.. عين على مصر"، أن منطقة "وسط البلد" تضم قرابة 420 بناية، بمثابة أيقونات رئيسة بملامح جمالية وتاريخية. إذ تضم المنطقة الممتدة بين شارعي شريف باشا وعبد الخالق ثروت وميدان طلعت حرب، قرابة 24 بناية، يعود تاريخ إنشائها إلى النصف الثاني من القرن الـ19.
حول هذه المباني التاريخية الضخمة وفي جوفها، انتشر عدد من المقاهي بعوالم إنسانية فريدة، إذ كان يجلس إليها الناس بمختلف ثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، يتبادلون الأحاديث والأشواق الإنسانية والمصالح المادية والصفقات التجارية، أو يحملقون في الفراغ، وآخر يتكلم مع جاره الذي لا يعرفه وربما تطورت العلاقة وصارا صديقين.
العصر الذهبي
في تلك الفترة، زار المستشرق الإنكليزي إدوارد وليم لين القاهرة، الذي سرد في كتابه "المصريون المحدثون"، أنها تضم أكثر من ألف مقهى، يرتادها أفراد الطبقة السفلى والتجار، يقدم إليهم القهوجي القهوة بـ"خمسةفضة" للفنجان، ويحتفظ القهوجي بالنرجيلة والشيشة والجوزة، لتدخين التنباك، كما يتردد عليها الموسيقيون والمحدثون في الأعياد الدينية الخاصة.