خريف الرئيس

أعلن بايدن انسحابه من السباق، معلنا دعم نائبته لمنافسة ترمب في الانتخابات

Luca D'Urbino
Luca D'Urbino

خريف الرئيس

أصيب الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين ديلانو روزفلت بمرض شلل الأطفال، وهو في عمر التاسعة والثلاثين (1921). فكان مضطرا إلى الاعتماد على كرسيّ متحرّك، إلا أنه لم يظهر للعامة بهذه الصورة، بل كان حريصا على الظهور واقفا، أو على الأقلّ مستندا إلى ابنه، ومُنعت الصحافة من تصويره على الكرسيّ المتحرك، أو خلال خروجه من السيارة، كما دأبت المرافقة الأمنية له على منع أيّ شخص من اختلاس صور له على تلك الشاكلة، وللمفارقة، استطاع إكمال فترته الرئاسية، الأطول في تاريخ أميركا (1933-1945) دون أن يعرف الجمهور الأميركي بمدى سوء حالته الصحية، فالرئيس لا يجب أن يظهر بمظهر الضعيف، لا سيما جسديا، بل يجب أن يوحي دائما بالقوة والسيطرة والثقة.

الأمر نفسه ينطبق على الرئيس وودرو ويلسون الذي أصيب بسكتة دماغية تسبّبت بشلله خلال فترته الرئاسية، إلا أن الجمهور لم يعرف بذلك إلا بعد انتهاء رئاسته في 1921، ويقال إن زوجته ساهمت في إبقاء الأمر سرّا، بل وتولّت إدارة بعض شؤون الدولة. وفي حين لم يكن مرض دوايت أيزنهاور (تولى الرئاسة لفترتين 1953-1961) واضحا جسديا، فقد كان يعاني من مرض القلب و"داء كرون" المعوي وأصيب بسكتة قلبية في بداية فترته الرئاسية الثانية، وذلك كله ظلّ بصورة أو بأخرى محجوبا عن الجمهور.

الرئيس الخارق

وعلى الرغم من أن دونالد ريغان، الرئيس "الكاوبوي" المعروف بصلابته، أصيب بالزهايمر بعد انتهاء فترته الرئاسية، إلا أن ابنه اعترف لاحقا بأن عوارض المرض بدأت بالظهور على والده خلال توليه الرئاسة. لعلّ ذلك ما دفع بالكاتب البريطاني ج. ج. بالارد إلى كتابة قصة قصيرة، في زمن رئاسة ريغان، تتمحور حول الحالة الصحية للرئيس، متخيّلا اندلاع الحرب العالمية الثالثة وانتهاءها، دون أن يعرف أحد بذلك، لأن الجميع منشغل لحظة بلحظة، عبر جميع وسائل الإعلام، بمتابعة حال الرئيس الصحية.

يتوقّع من الرئيس الأميركي أن يكون رجلا خارقا، على المستوى الشخصي، الجسدي والنفسي معا

بالنسبة إلى الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، المشكوك في أن يستمر سباقه للفوز بفترة رئاسية ثانية، وإن استمرّ فثمة شكّ  في أن يصيب النجاح، فإنه وعائلته وفريقه، لا بدّ يتمنون جميعا لو كان رئيسا في وقت ما من القرن الماضي، وليس في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. إنه ليس زمن الراديو والتلفزيون والسينما والصحيفة، بل زمن التكنولوجيا الفائقة والذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعي، وجميعها للمفارقة من نتاج العصر الأميركي بامتياز، وبوصفه يتربّع على قمة هرم القوى العظمى الأكبر في العالم، يتوقّع منه أن يكون على مستوى هذه التطوّرات جميعا، أن يكون رئيسا خارقا، على المستوى الشخصي، الجسدي والنفسي معا، وليس فقط أن يكون على رأس آلة القوة والهيبة والتطور. الرئيس الأميركي هو مثال للصورة والقيم الأميركية معا. 

وإذا كان نجح بايدن على مستوى صورة الرجل العائلي، أبا وجدا، فإنه أخفق لا ريب في كلّ  ما عدا ذلك.

الرئيس الاميركي جو بايدن بعد إلقائه كلمة في مدرىسة ثانوية في مدينة ديترويت في 12 يوليو

مقاطع الفيديو المحرجة لبايدن في زلاته وهفواته الكثيرة، التي تنتشر في أميركا والعالم كالنار في الهشيم، لا تخدم إطلاقا تلك الصورة، بل تمعن في تجريحها وتمزيقها. الرجل الأول الذي يفترض به الوقوف في وجه قادة كبار مثل الرئيسين الصيني والروسي، والذي يواجه داخليا خصما عنيدا وشرسا، يبدو اليوم أشبه بصورة باهتة أو ظلّ عن نفسه، أو عما يفترض أن يكون عليه. وفي حين يسعى فريقه جاهدا، مثلما سرّبت تقارير صحافية، إلى إظهاره في أفضل صورة، إلى درجة أن كلّ  ظهور له باتت تدار أدق تفاصيله "وكأنه في قمة الناتو"، فإن هذه المحاولات لم تعد تجدي نفعا. آخر المخاوف/ الاتهامات هو احتمال أن يكون بايدن مصابا بمرض "باركنسون"، وهو ما نفاه البيت الأبيض بعد تقارير عن زيارات متكررة لطبيب متخصص بهذا المرض إلى البيت الأبيض، ناهيك عن زيارة طبيب أعصاب متواترة له. لم تنجح محاولات النفي، مثلما لم تنفع محاولة استقطاب الشباب عبر "تيك توك" التي حاولت إدارته نفسها حظره أو السيطرة عليه في الولايات المتحدة، والتي يبدو أنها هي الأخرى لم تؤت أكلها شأن مقابلة "سي إن إن".

ترمب... الصورة النقيضة

في المقابل، وأمام مشهد نضوب الشباب والإمعان في الشيخوخة عند بايدن، فإن ترمب، وهو ابن عصر الصورة بامتياز، وجد ضالته الحقيقية في المواجهة مع بايدن. السجال لن يكون حول السياسات الدولية ولا مسائل داخلية مثل الضرائب والإجهاض والنظام الصحي وغيرها، بل سيكون حول الشخصية. وهذا للمفارقة ما قاله بايدن نفسه في مقابلته التلفزيونية الأخيرة على "آيه بي سي نيوز": "المسألة كلها تتمحور حول شخصية الرئيس... شخصية الرئيس هي التي ستقرّر ما إذا كان الدستور يطبّق بطريقة صحيحة".

وهذا بالضبط ما يراهن عليه ترمب، وإن كان له تعريفه المختلف ربما لـ "الشخصية". فهو يمثّل عمليا، على الرغم من أنه يقترب من الثمانين هو الآخر (وهو ثاني أكبر رئيس سنا يتولى المنصب في تاريخ البيت الأبيض بعد خصمه بايدن)، النموذج المضاد لبايدن. فهو نشيط يمارس الرياضة (الغولف) باستمرار، ويُعرف بمغامراته الجنسية، السرية والعلانية، مع نساء يصغرنه سنا بكثير، ويتناول بإفراط المشروبات الغازية والطعام السريع، ويرتدي الملابس الكاجوال في كثير من الأحيان، ويتهكم ويسخر ويعلّق بصورة شبه يومية على التواصل الاجتماعي، وهذا كله لخّصه في الفيديو الذي سرّب عمدا له، بعيد خروجه ظافرا من المناظرة الرئاسية على "سي إن إن"، وهو جالس بجوار ابنه اليافع على عربة غولف، معلقا على مصير بايدن في السباق الرئاسي، الذي بات محسوما بالنسبة إليه.

وجد ترمب، وهو ابن عصر الصورة بامتياز، ضالته الحقيقية في المواجهة مع بايدن والتي ستكون حول الشخصية

يضاف إلى عناصر هذا المشهد الترمبي، تعرّضه أخيرا لمحاولة اغتيال، أظهرت الصور ومقاطع الفيديو المتداولة مواجهته لها بتحدّ وعزيمة، بل إن إحدى الصور الأكثر أيقونية اليوم هي صورته وهو يرفع قبضته تعبيرا عن هذين القوة والتحدي، بعد لحظات من محاولة الاغتيال، وهي الصورة التي ستطارد بايدن، أو أيّ مرشّح قد يحلّ محله، في السباق إلى البيت الأبيض.

REUTERS
المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترمب يرفع قبضته بوجه ملطخ بالدماء بعد إصابته برصاصة في أذنه اليمنى خلال تجمع انتخابي في بتلر، بنسلفانيا، 13 يوليو

إذا ما أخذنا في الحسبان الطعنات التي بدأ يتلقاها بايدن من المعسكر الديمقراطي والليبرالي، والدعوات المتزايدة له بالتخلي عن الترشّح لفترة رئاسية ثانية، لبدا واقعه المأساوي أشدّ فداحة. إنه واقع يذكر ببعض الأباطرة والملوك والحكام الذين لا يعرفون، عند السقوط، من أين تأتيهم الطعنات، لعلّ أشهرهم يوليوس قيصر الذي يبدو اغتياله على أيدي أصدقائه وحلفائه المقرّبين، في مجلس الشيوخ، حتميا، إذ أن المسألة في نهاية المطاف ليست مسألة من يمسك بالسلطة، بل مسألة السلطة نفسها.

عالم النرجسيات

في "يوليوس قيصر" شكسبير، نرى صدى ذلك بوضوح. قيصر الذي لا يعرف بمؤامرة اغتياله، الغارق في صورته النرجسية المجيدة عن نفسه، يقول: "إن السماء مرصّعة بمصابيح لا حصر لها، كلها من نار، وكلها مضيء، غير أن واحدا من بينها فحسب هو الثابت في موضعه. وكذا في عالمنا هذا. هو مليء بالرجال... غير أني لا أعرف سوى واحد من بينهم فحسب لا تزحزحه عن مكانته الرفيعة دفعة أو هجوم، وأنا ذلك الرجل". يذكر ذلك بكلمات بايدن مرات عدة حول أنه الوحيد القادر على مواجهة ترمب وإلحاق الهزيمة به، وهو ما ذكره أخيرا في مقابلته مع "آيه بي سي نيوز" الآنفة الذكر، والتي كان يفترض أن تحسّن صورته المتضعضة، بعد المناظرة الكارثية: "إنني أترشّح ثانية لأنني أعتقد أنني أفضل من يفهم ما يجب فعله لنقل الأمة إلى مستوى جديد تماما".

في المقابلة نفسها عدّد بايدن إنجازاته خلال فترته الرئاسية الأولى، معبّرا عن ذلك بلغة تشي بالقوة وتمتلئ بالشعور بالعظمة، من قبيل: "أنا أدير العالم"، أو "أنا من أوقف الناتو على قدميه"، "أنا من أوقف بوتن عند حدّه"، "لا أعتقد أن هناك من هو مؤهل أكثر مني (...) ليكون الرئيس"، "أقنعت نفسي بأمرين، أنا الأنسب لهزيمته (يقصد ترمب)، وأنا أعرف كيف تنجز الأمور"، وصولا إلى عبارته الطافحة بمشاعر العظمة والإنكار معا، حين طرح عليه محاوره جورج ستيفانوبولوس سؤالا مباشرا: "إذا ما كان يمكن إقناعك بأنك عاجز عن هزيمة ترمب فهل ستتنحى"، فأجاب: "قد أفعل ذلك، إذا ما نزل الرب العظيم وأمرني بذلك".

ولكن، وفي تشابه آخر مع "يوليوس قيصر" شكسبير، فإن محاوره ذكّره في لحظة ما: "لقد تكلمت كثيرا حول نجاحاتك ولا أريد الجدال حول ذلك... لكن كما تعلم، فإن الانتخابات تتمحور حول المستقبل وليس حول الماضي"، معبّرا بذلك عن مخاوف المعسكر الديمقراطي برمته، وهو ما نجد صداه في كلمات بروتوس صديق قيصر الأقرب الذي وجّه إليه آخر الطعنات، فها هو يقول لأنطونيو المتحسّر على مقتل قيصر: "أنطونيو، لا تطالبني بقتلك، قد نبدو الآن سفاحين قساة القلوب بسبب منظر أيدينا وما ارتكبناه من فعلة منذ قليل (...) غير أنك لا ترى منا غير أيدينا (...) أما قلوبنا فلا تراها، إنها مفعمة بالشفقة، وهذه الشفقة على روما بسبب ما لحقها من الظلم (...) فكما تقضي النار على النار، قد قضت الشفقة على الإحساس بالشفقة" (مسرحية "يوليوس قيصر"، ترجمة حسين أحمد أمين، دار الشروق، 1994).

في متاهته

بايدن ليس قيصرا بطبيعة الحال، فهو ليس طاغية ولا حاكما مطلقا، إنه رئيس "منتخب ديمقراطيا"، وشأن بقية الرؤساء لا يمكنه التشبّث بالسلطة مدى الحياة، لكننا لا نستطيع تجاهل أوجه الشبه بين قوتين، إحداهما تنتمي إلى الأزمنة الكلاسيكية، وأخرى تنتمي إلى زمننا، يقوم حكمهما العالم على اجتماع القوة والديمقراطية، حقيقية أكانت هذه الأخيرة أم وهمية، معا.

REUTERS
الرئيس الأميركي جو بايدن يسعل في مؤتمر صحفي خلال قمة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس "الناتو"، في واشنطن، 11 يوليو

قصة بايدن ليست قصة حاكم ديكتاتور، أبديّ، على نحو ما صوّر الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز الديكتاتور في أعماله. لا يمتلك بايدن القدرات المعجزة على التحكم ليس فقط في شؤون البلاد والعباد، بل أيضا بالليل والنهار، كما ديكتاتور "خريف البطريرك"، ولا القدرة على الوقوف في أعتى الظروف وتحقيق الانتصارات حتى وهو على شفير الموت، بل والعودة من الموت مرة بعد مرة، كحال "الجنرال في متاهته" (لقبه الرسمي للمفارقة "جنرال الكون"). ليس في مسيرة بايدن مآثر عظمى وانتصارات تذكر، ولا حتى سجل أكاديمي لامع. في سجّله الجامعي، حيث درس الحقوق، تخرج عام 1969 بترتيب 76 بين 85 طالبا. كما أنه لا يملك تاريخا عسكريا مجيدا على غرار الجمهوري جون ماكين مثلا، بل إنه تمكن من تجنّب الخدمة العسكرية بسبب إصابته بالربو في مراهقته. لكنه، رغم ذلك كله، أحد الأكثر والأطول انتسابا للحقل السياسي في الولايات المتحدة. هذا العام يكون قد مضى 52 عاما على دخوله معترك السياسة وتدرّجه في المناصب التشريعية والتنفيذية، قبل أن يصبح نائبا للرئيس باراك أوباما (في 2009)، ثم رئيسا بعد دونالد ترمب. بمفارقة لافتة، فإن الشاب الذي نجح في دخول الحياة السياسية، بوصفه سادس أصغر سيناتور في تاريخ بلاده، بسبب حيويته ونشاطه، أصبح الرئيس الأكبر سنا في تاريخ أميركا، خلال توليه المنصب (تولى الرئاسة بعمر 78 عاما)، في حين، على سبيل المثل، تولى جورج واشنطن الرئاسة بعمر 57 عاما، وأبراهام لنكولن بعمر 52 عاما، وفي العموم فإن أعمار جميع الرؤساء السابقين تتراوح بين 43 عاما (أصغرهم جون كينيدي) و70 عاما (دونالد ترمب).

 الشاب الذي نجح في دخول الحياة السياسية، بوصفه سادس أصغر سيناتور في تاريخ بلاده، أصبح الرئيس الأكبر سنا في تاريخ أميركا

في بلد لا تتجاوز فيه الفئة العمرية فوق 65 عاما نسبة 16 في المئة من السكان، فإنّ بايدن يشكّل بالفعل استثناء نادرا، وفي حال إصراره على خوض التحدّي الانتخابي، مثلما لا يزال يفعل حاليا، فإن خسارته، ومعه حزبه، تبدو شبه مؤكدة، خاصة أن الحملات الانتخابية تتطلب قدرا هائلا من الجهد اليومي، فضلا عن جهد "إدارة العالم"، مثلما يسمّيها، ولنا أن نتوقّع، مثل منافسه ترمب، فصولا لا تنتهي من الأخطاء والزلات الكارثية التي لن يكون في وسع أيّ بيانات صحافية أو حجب لمقاطع الفيديو أو تعديل في الصور الفوتوغرافية، إخفاءها.

font change

مقالات ذات صلة