"اليوم التالي" كتعبير عن مأزق فلسطيني ولبناني

تفاقم النزاعات الأهلية على وقع الحرب

رويترز
رويترز
رجل يحمل مسدسا يسير داخل منشأة تمثل نفقا لـ"حماس"، في ساحة تُعرف الآن باسم "ساحة الرهائن"، تل أبيب في 15 يوليو

"اليوم التالي" كتعبير عن مأزق فلسطيني ولبناني

ليست الحروب على أنواعها استثناءً في المنطقة أو أمرا طارئا عليها، وهو ما لا يمكن إغفاله عند قراءة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها الخطيرة والمستمرة. صحيح أن هذه الحرب لها سياقها الخاص ولها أسبابها التاريخية ضمن الصراع المديد بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن الصحيح أيضا أن كل حروب المنطقة كانت أيضا وإن بتفاوت بينها امتدادا لهذا الصراع أو بسببه. وهو ما يدفع إلى إقامة رابط بين هذه الحرب وحروب المنطقة المتنقلة بين بلد وآخر وفي حقبات زمنية مختلفة، ولاسيما منذ غزو العراق عام 2003 ثم مع "حروب الربيع العربي" منذ مطلع العقد الماضي.

وفي استنتاج أولي يمكن القول إن المنطقة التي شهدت حروبا عديدة وطويلة على مر تاريخها الحديث يمكنها أن تتأقلم مع الحرب الحالية وأن تبني حياتها كما لو أن هذه الحرب ستستمر لسنوات، وهو ما يلوح به الإسرائيليون أصلا بين حين وآخر، وكأنهم يقولون إنهم في حالة حرب دائمة مع الفلسطينيين وأن الحرب الحالية ليست سوى محطة جديدة في تاريخ الصراع الطويل والمفتوح.

هذا ما يدفع بالتالي إلى النظر للمفاوضات الحالية بين "حماس" وإسرائيل بشيء من الحذر عندما يتم التعامل معها سياسيا وإعلاميا بقدر من التفاؤل وكأنه آن للحرب أن تنتهي، أي كأن نهايتها القريبة حتمية باعتبار أن طرفيها المتقاتلين لا يستطيعان الاستمرار في القتال إلى ما لا نهاية، أو أن استمرارها خطير لأنه قد يؤدي في لحظة معينة إلى توسعها لتتحول إلى حرب إقليمية.

رويترز
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث مع وزير المال بتسلئيل سموتريش خلال الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء في وزارة الدفاع في تل أبيب ، 7 يناير

وإذا كان لا يمكن من حيث المبدأ وبالنظر إلى الإطار الجيوسياسي لهذه الحرب تشبيه مفاوضاتها بتلك التي تسعى إلى حل للنزاع الأهلي السوري الذي دخل عامه الثالث عشر أو بتلك التي كانت تسعى في فترة الثمانينات إلى حل للصراع الأهلي اللبناني الذي استمر 15 عاما، فإنه لا يمكن أيضا اعتبار أن فشل هذه المفاوضات أو استغراقها وقتا طويلا هو أمر غير ممكن وغير مسموح به إقليميا ودوليا وبالأخص أميركيا.

بعبارات أخرى فإن الرغبة الدولية والإقليمية المعبّر عنها بانتهاء الحرب لا تعني بالضرورة أن الحرب ستنتهي أو أنها ستنتهي قريبا، ما دامت الرغبة في مواصلة الحرب هي الدينامية الراجحة في تل أبيب رغم كل الأصوات الإسرائيلية الداعية إلى الاستفادة من "الفرصة الذهبية" التي توفرها المفاوضات. أي إن الانقسام الإسرائيلي حول الحرب أو إدارتها والضغوط الدولية على الحكومة اليمينية الإسرائيلية ليست سببا كافيا للاعتقاد بأن هذه الأخيرة ستضطر إلى وقف الحرب في غزة ومنع توسعها على الحدود اللبنانية الإسرائيلية ما دام بنيامين نتنياهو يرى أن مصلحته السياسية ومصلحة إسرائيل بحسب الرؤية اليمينية هي في استمرارها.

وهو ما يحيل إلى السؤال عن مدى تأثير الضعوط الدولية على الحكومة الإسرائيلية، بل عما إذا كانت هذه الضغوط وبوتيرتها الحالية هي سبب من أسباب استمرار الحرب بالنظر إلى عدم شعور نتنياهو بضرورة الانصياع لها. وهو ما يمكن أن يُفسّر في قراءة راديكالية على أن ما يجري نوع من التواطؤ يسمح باستمرار الحرب على قاعدة أن التناقض حول كيفية خوضها لا يعني التناقض حول أهدافها النهائية. وهذا ما يدفع إلى التفكير في التناقض الرئيس بين السردية الغربية وبالتحديد الأميركية بشأن "اليوم التالي" ومسار حل الدولتين وبين ما يجري في الميدان من تقويض إسرائيلي لأسس حل الدولتين، وكأن الهدف الإسرائيلي الحقيقي من هذه الحرب هو القضاء على حل الدولتين نهائيا.

خيارات "اليوم التالي" لا تتوقف على ما تريده أميركا وإسرائيل، بل أيضا على مستقبل الانقسام الفلسطيني

وهذا كله يحفز على قراءة التناقض الإسرائيلي الأميركي في سياق الحرب على قاعدة أنه تناقض ثانوي متصل بتوقيته عشية الانتخايات الأميركية أكثر منه بمضمونه لناحية كيفية الخروج من الحرب وإيجاد حل للصراع بدلا من الاستمرار في إدارته بحسب استراتيجية نتنياهو. حتى إن السؤال عن التصور الأميركي للمنطقة يطرح احتمالا بأن يكون الاستقرار الذي تروج له واشنطن هو في الواقع استقرار نسبي أي إنه استقرار دون حافة الحرب، تماما كما كان يحصل طيلة السنوات الماضية، وليس استقرارا بمعنى الخروج كليا من دائرة الحروب في المنطقة.
هنا يمكن استحضار مسألة "اليوم التالي" التي تشكل العنوان الرئيس للمفاوضات والعقدة الأساسية فيها، ولذلك فإن صعوبة تصور اتفاق بين "حماس" وإسرائيل بشأن "اليوم التالي" تعزز الاعتقاد بأن الحرب يمكن أن تطول إلى أجل غير مسمى، أي إلى أن يستطيع أحد طرفيها أن يلحق هزيمة كاملة بالطرف الآخر، وهو ما لا توجد مؤشرات كافية عليه حتى الآن. مع الأخذ في الاعتبار التفاوت الهائل في القدرات العسكرية بين إسرائيل و"حماس" لكن هذا التفاوت ليس وحده ما يحسم المعركة كما أثبتت الشهور التسعة من الحرب. مع العلم أن ثمة قراءة تقول إن هذه الحرب وبخلاف سابقاتها سيكون فيها منتصر ومهزوم، بالمعنى الحقيقي للكلمتين هذه المرة، وهذا لا يشمل الحرب في قطاع غزة وحسب بل أيضا "جبهات الإسناد" وبالتحديد في جنوب لبنان، وهذا سبب آخر لتوقع استمرار الحرب حتى لو اختلفت وتائرها.

رويترز
فتى فلسطيني يبحث عن أشياء قابلة للاستخدام في مكب للنفايات في خان يونس بجنوب قطاع غزة، 15 يوليو

لكن المفارقة أن النظر في احتمالات "اليوم التالي" لا يتوقف وحسب على ما تريده أميركا وما تطمح إليه إسرائيل، أي على التناقض بين الجانبين بهذا الخصوص، ولا يتوقف أيضا على الانقسام الإسرائيلي بشأن "اليوم التالي"، بل إن مجرد التفكير في هذه المسألة يحيل إلى حقيقة الانقسام الفلسطيني الفلسطيني وإلى حقيقة الانقسامات والنزاعات والحروب الأهلية في دول المنطقة وبالتحديد في سوريا والعراق ولبنان وحتى اليمن البعيد نسبيا.
وهو ما يحيل مرة جديدة إلى الربط بين الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وامتداداتها الإقليمية وبين الحروب والنزاعات الأهلية في المنطقة من باب أن القوى المنخرطة في الصراع ضد إسرائيل هي منخرطة أساسا في صراع داخلي في بلدانها، بدءا من "حماس" في فلسطين، مرورا بميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق، وصولا إلى "حزب الله" في لبنان و"الحوثيين" في اليمن. لا بل إن الصراع داخل هذه الدول والذي أدى إلى تفكيك بنى الدولة والمجتمع الهشة أصلا، شكّل أرضية صالحة لبناء قوة هذه الميليشيات وتكريسها. وبالتالي فإنه لا يمكن تصور حلّ لمسألة "اليوم التالي" في قطاع غزة وامتداداته في سائر المنطقة دون تصور حل لنزاعات المنطقة المفتوحة، والتي بدأت تصدر مؤشرات على أن الحرب الحالية ستفاقمها وستشكل محطة جديدة فيها ولاسيما في الداخلين الفلسطيني واللبناني.

يبدو أن المنطقة ستظل تدور في حلقة مفرغة من العنف، كما لو أن العنف أصبح هو الأداة الوحيدة للإمساك بالسياسة ورسم قواعدها وحدودها، وهذا ينطبق على إسرائيل كما ينطبق على الميليشيات الموالية لإيران

يمكن الاستدلال على ذلك من تجذر الانقسام الفلسطيني بين السلطة و"حماس" كما الشقاق اللبناني بين "حزب الله" ومعارضيه على وقع هذه الحرب. إلى درجة أنه بات من الصعب جدا الآن تصور أي إمكانية لحل الأزمتين الفلسطينية واللبنانية، وبالتالي فإن "اليوم التالي" للحرب سيعبّر بوضوح أكبر عن تصلّب المأزق الوطني الفلسطيني واللبناني. 
ولعل مشاهد اعتداء مناصرين لـ"حماس" ولـ"حزب الله" أو أعضاء فيهما على معارضين لهما في كل من لبنان وغزة يعطي مؤشرا على ما ينتظرنا في حال توقفت الحرب. لكن الأهم هو أن سردية "الانتصار" لدى "حماس" و"حزب الله" هي سردية موجهة بشكل أساسي إلى الداخل الفلسطيني والداخل اللبناني، ولو في إطار جيوسياسي متصل بنفوذ إيران في المنطقة. وهذا ما يعطي سلوك "حماس" و"حزب الله" ضد معارضيهما معنى سياسيا واضحا مؤداه أن انتهاء الحرب سيعمق الأزمة الداخلية الفلسطينية والشقاق الداخلي اللبناني، أي إن "انتصارهما" سيتحول مرة جديدة إلى تعبير عن هزيمة وطنية لبنانية وفلسطينية، وهذه المرة على نحو أخطر من المرات السابقة لأن هذا "الانتصار" مبني حاليا على قاعدة أصلب من الانقسام الوطني في كلا البلدين.
وهذا كله كاف للاعتقاد بأن المنطقة ستظل تدور في حلقة مفرغة من العنف، كما لو أن العنف أصبح هو السياسة أو الأداة الوحيدة للإمساك بها ورسم قواعدها وحدودها، وهذا ينطبق على إسرائيل كما ينطبق على الميليشيات الموالية لإيران. والأخطر أن استثمار هذه الميليشيات في العنف داخل بلدانها طيلة السنوات الماضية يشكّل على نحو أو آخر غطاء لعدوانية إسرائيل تجاه الفلسطينيين لأنه يتيح لها تقديم نفسها على أنها ليست الوحيدة المبادرة إلى العنف في المنطقة وأن العنف والحروب حالة مقيمة فيها وليست استثناءً.

font change

مقالات ذات صلة