ثمة تحول ملحوظ في قواعد الاشتباك بين إسرائيل و"حزب الله"، يدل عليه الارتفاع الأخير في عمليات التصفية الانتقائية التي تستهدف بها إسرائيل كبار قادة "الحزب". يزعم المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أنهم قضوا على نصف قادة "حزب الله" في جنوب لبنان، وهو ما نفته مصادر "الحزب" ووصفته بأنه مجرد دعاية.
تثير هذه الروايات المتضاربة أسئلة مهمة حول هذه التطورات وتأثيرها: ما هو عدد قادة "حزب الله" الذين قضت عليهم إسرائيل فعلا؟ وما هي التقييمات التي يمكن أن نستخلصها من الملفات الشخصية لكبار القادة المستهدفين؟ وما الدلالة الأوسع لهذه الهجمات؟
نادرا ما ينشر "حزب الله" تفاصيل عن رتب أعضائه المتوفين، غير أن ردود فعل "الحزب" على مقتلهم غالبا ما توفر لنا معلومات عن مكانتهم وأهميتهم. فعلى سبيل المثال أطلق "الحزب" 100 صاروخ على إسرائيل ردا على مقتل كبار قادته في مدينة صور في الأسبوع الأول من يوليو/تموز. بينما كان رد "الحزب" على مقتل القائد الكبير سامي طالب عبد الله أكبر من ذلك بكثير، إذ أطلق 200 صاروخ مما يشير إلى أنه كان يشغل رتبة أعلى. وبمقارنة ردود "الحزب" مع البيانات المتاحة للجمهور التي يرد بها "الحزب" على ادعاءات إسرائيل بمقتل من تصفهم بالقادة، فمن المرجح أنها قد صفت حوالي 29 من كبار قادة "حزب الله" في الفترة ما بين 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و16 يونيو/حزيران 2024.
شهدت الجبهة الجنوبية، المؤلفة من ثلاث وحدات رئيسة ضمن هيكل "حزب الله"، أكبر عدد من الضحايا بين القادة، حيث قُتل 11 من كبار قادة العمليات، أي ما يمثل نحو 38 في المئة من مجموع من قتل من القادة. وتضم هذه الجبهة وحدتي الناصر وعزيز، المكلفتين بالدفاع عن المنطقة الممتدة من الحدود الإسرائيلية حتى نهر الليطاني (ويشار إليها بخط الدفاع الأول). بالإضافة إلى ذلك فإن وحدة بدر تشرف على المنطقة الواقعة بين نهر الليطاني وصيدا، وهي المعروفة بخط الدفاع الثاني.
منذ 8 أكتوبر 2023، أدت وحدة الناصر دورا حاسما في الصراع مع إسرائيل، حيث أطلقت بشكل رئيس قذائف صاروخية ومسيرات وصواريخ مضادة للدبابات على شمال إسرائيل. وهذه الأهمية العملياتية هي التي جعلت من وحدة الناصر هدفا رئيسا للقوات الإسرائيلية، وهو ما أدى إلى القضاء على 9 من كبار قادة العمليات فيها، من بينهم قائد الوحدة طالب سامي عبد الله (أبو طالب) في 11 يونيو 2024. ثم تليها مباشرة "وحدة الرضوان" التي فقدت 10 قادة، أي ما يقارب 34.5 في المئة من إجمالي الضحايا في صفوف القادة، ومن بينهم وسام الطويل القائم بأعمال قائد الوحدة. وبسبب ما تشكله وحدة الرضوان من تهديد، إذ إن مهمتها الرئيسة هي التسلل إلى الأراضي الإسرائيلية والاستيلاء على المناطق السكنية والأراضي، فقد دأبت إسرائيل بفاعلية على استهداف مقاتليها وتعطيل عملياتها على طول الحدود.
نادرا ما ينشر "حزب الله" تفاصيل عن رتب أعضائه المتوفين، غير أن ردود فعل "الحزب" على مقتلهم غالبا ما توفر لنا معلومات عن مكانتهم وأهميتهم
أما القادة الثمانية الباقون (حوالي 27.5 في المئة من إجمالي الضحايا) فهم متخصصون في مجالات متنوعة، أربعة منهم خبراء في البحث والتطوير وتصنيع الأسلحة وتكنولوجيات الدعم القتالي. يضاف إليهم عنصران رفيعا المستوى من الوحدة الجوية وعنصران من الدفاع الجوي.
وتستهدف إسرائيل كبار قادة "حزب الله" كجزء من استراتيجيتها بهدف تعطيل أنظمة إطلاق النار لدى "الحزب" وتقويض قدراته العملياتية إلى حد كبير. ولا يهدف هذا التكتيك إلى تحييد التهديد العسكري المباشر للحزب فحسب، بل يهدف أيضا إلى تقليص حجم ردوده الانتقامية المحتملة.
وإلى جانب التأثير العملياتي، تخدم عمليات التصفية هذه غايات نفسية، إذ تسعى تل أبيب إلى زرع الخوف في نفوس قادة "حزب الله". كما تهدف أيضا باستخدامها عمليات القتل هذه إلى رفع الروح المعنوية عند الشعب الإسرائيلي حينما تظهر له ما تحرزه من تقدم، ولا سيما أنها تواجه تحديات في تحقيق نجاحات عسكرية ملموسة ضد "حماس".
وبينما لا تزال الآثار النفسية لهذه الهجمات غير مؤكدة، فإنها لم تعطل وظائف "حزب الله" العملياتية والقيادية. على العكس تماما، فقد صعد "الحزب" من حجم هجماته على إسرائيل ومن كثافتها ومداها. ولذا من غير المرجح أن تؤدي عمليات القتل الانتقائية التي تنفذها إسرائيل، إلى دفع "حزب الله" إلى ما وراء نهر الليطاني في لبنان، وهذا الأمر سيؤخر عودة عشرات الآلاف من النازحين الإسرائيليين. كما من غير المرجح أن يكون لهذه التصفيات تأثير استراتيجي على مستقبل "الحزب"، لأن لكل قائد مجموعة من الخلفاء المستعدين لتولي المسؤولية.
وتشير هذه التحركات المحفوفة بالمخاطر إنما المحسوبة إلى أن كلا من إسرائيل و"حزب الله" لا يرغبان في صراع شامل. إلا أن أي خطأ في حسابات أي منهما قد يؤدي إلى حرب، من المحتمل أنها ستكون كما حذرت الأمم المتحدة "كارثية ومدمرة"، وهو ما يهدد بتورط إيران والولايات المتحدة ودول أخرى غيرهما. ومن دون وقف دائم لإطلاق النار سواء في غزة أو مع "حزب الله"، فمن الصعب أن نتصور حلا للمأزق الحالي يمنع حرب استنزاف طويلة تهدد استقرار المنطقة بالكامل وربما تتجاوزها.