ثمة نكبة فلسطينية جديدة على خلفية حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على فلسطينيي غزة، منذ حوالي عشرة أشهر والتي تشمل، في بعض مفاعيلها، فلسطينيي الضفة والقدس وأراضي الـ48، بترويعهم، ووأد مقاومتهم بكل أشكالها، لتعزيز هيمنتها وإملاءاتها السياسية عليهم، من النهر إلى البحر.
وفي غضون ذلك، وبدل أن تتعزز وحدة الشعب الفلسطيني، تبعا لوحدة الأرض والقضية والرواية التاريخية والعدو المشترك، إذ إن الفلسطينيين يبدون غاية في الانقسام، حيث لم يعد ذلك حكرا على الطبقة السياسية السائدة، بفصائلها المختلفة، وإنما بات يشمل الشعب، أيضا، لأول مرة في تاريخه، وهو انقسام، عميق وخطير، سيما أنه في الوعي السياسي والوجدان، في آن معا، إضافة إلى انقسامات الفلسطينيين بحكم الجغرافيا، والسياسة، والأهواء الأيديولوجية.
المشكلة، أيضا، في ذلك الانقسام أنه يتفاقم بواسطة الحركتين- السلطتين، اللتين تهيمنان على الحقل السياسي الفلسطيني، حيث "فتح" في الضفة الغربية و"حماس" في غزة، وكل واحدة منهما تستخدم أدواتها، وجمهورها، وعلاقاتها الإقليمية، للحط من مكانة الأخرى، مع التشكيك في وطنيتها، أو في ولائها لمصالح شعبها، كأن أيا منهما لا يمكن لها أن تصعد، أو تسود، إلا على حساب الأخرى، بدل التكامل أو التعاضد أو التفاهم، علما أن كل طرف منهما يدعي حرصه على الوحدة الوطنية، والذهاب ولو إلى الصين في سبيل ذلك. وكل منهما يشتغل، مع مناصريه، وفق قاعدة "من ليس معي فهو ضدي" وهو خائن أو عميل أو مستسلم، وكلها توصيفات تعدم الحقل السياسي الفلسطيني، لأنها تأتي على الضد من العلاقات التي تقوم على المصالح والتحالفات وتفهم الآخر والاحتكام للشعب.
طبعا يفاقم من ذلك أن كل واحد من الفصيلين هو سلطة مهيمنة على المجتمع والموارد في إقليمه، مع اعتماديته على الخارج وليس على شعبه في الموارد، وتلك معضلة تجعل أية حركة وطنية متحررة من مساءلة شعبها لها، كونها غير مدينة له، بقدر ما هي مدينة لعلاقاتها الخارجية وداعميها الخارجيين، وهذه معضلة نشأت مع تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية.
خلفيات الانقسام
جدير بالذكر أن الانقسام الشعبي لدى الفلسطينيين بدأ مع انكسار روايتهم التاريخية الجامعة المؤسسة لهويتهم الوطنية، بانزياح قيادتهم من الرواية المتأسسة على النكبة (1948)، المتمثلة في إقامة إسرائيل، وولادة قضية اللاجئين التي انطلقت على أساسها الحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينات، إلى الرواية المتأسسة على النكبة الثانية، أي احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة (1967) وطلب قيادتهم إقامة دولة فلسطينية فيهما، بدلا من هدف التحرير، أو إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين/إسرائيل، أي من النهر إلى البحر؛ التي كانت معظم الفصائل تأسست عليها قبل ذلك الاحتلال.
فيما بعد تمأسست تلك الرواية بعقد اتفاق أوسلو نتيجة مفاوضات سرية (1993)، وإقامة السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع (1994)، من دون البت في القضايا الأساسية وضمنها إنهاء الاستيطان وتعيين الحدود ومستقبل القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين واعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة لهم.
في المحصلة، وبسبب تملصات وتلاعبات إسرائيل فإن القيادة الفلسطينية لم تستطع إقامة الدولة المستقلة. لكنها، أيضا، لم تحافظ على "منظمة التحرير"، لذلك ضعفت مرجعية وفاعلية وشرعية المنظمة. وبات اللاجئون الفلسطينيون في واد، والمنظمة والسلطة، التي باتت محصورة في فاعليتها في الضفة وغزة، في واد آخر.
من ناحية أخرى، بديهي أن انقسام السلطة إلى سلطتين، في الضفة وغزة، عزز من مأسسة الانقسام، السياسي والشعبي، كما عزز غربة الشعب الفلسطيني، سيما اللاجئين، عن المنظمة والسلطة، وعن الفصائل أيضا، إضافة إلى خلقه واقعا من وجود أولويات ومصالح وحاجات مختلفة للفلسطينيين، في كل تجمع على حدة.
المأسسة الأخرى للانقسام الفلسطيني بعد أوسلو، حصلت مع ظهور، ثم صعود، "حماس"، خاصة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية (2006) وتاليا الانقسام الحاصل في جسم السلطة (2007)، باعتبار "حماس" تنتمي إلى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين)، فهي لم تحسم بين كونها حركة وطنية أم حركة إسلامية، وبين كونها حركة سياسية أم حركة دينية، وبين كونها سلطة أم حركة تحرر وطني.