نكبة الفلسطينيين في غزة تعمق انقساماتهم وخلافاتهم

 أ ب
أ ب
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" اسماعيل هنية اثناء الاجتماع الاول للحكومة التي ترأسها هنية في غزة في 18 مارس 2007

نكبة الفلسطينيين في غزة تعمق انقساماتهم وخلافاتهم

ثمة نكبة فلسطينية جديدة على خلفية حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على فلسطينيي غزة، منذ حوالي عشرة أشهر والتي تشمل، في بعض مفاعيلها، فلسطينيي الضفة والقدس وأراضي الـ48، بترويعهم، ووأد مقاومتهم بكل أشكالها، لتعزيز هيمنتها وإملاءاتها السياسية عليهم، من النهر إلى البحر.

وفي غضون ذلك، وبدل أن تتعزز وحدة الشعب الفلسطيني، تبعا لوحدة الأرض والقضية والرواية التاريخية والعدو المشترك، إذ إن الفلسطينيين يبدون غاية في الانقسام، حيث لم يعد ذلك حكرا على الطبقة السياسية السائدة، بفصائلها المختلفة، وإنما بات يشمل الشعب، أيضا، لأول مرة في تاريخه، وهو انقسام، عميق وخطير، سيما أنه في الوعي السياسي والوجدان، في آن معا، إضافة إلى انقسامات الفلسطينيين بحكم الجغرافيا، والسياسة، والأهواء الأيديولوجية.

المشكلة، أيضا، في ذلك الانقسام أنه يتفاقم بواسطة الحركتين- السلطتين، اللتين تهيمنان على الحقل السياسي الفلسطيني، حيث "فتح" في الضفة الغربية و"حماس" في غزة، وكل واحدة منهما تستخدم أدواتها، وجمهورها، وعلاقاتها الإقليمية، للحط من مكانة الأخرى، مع التشكيك في وطنيتها، أو في ولائها لمصالح شعبها، كأن أيا منهما لا يمكن لها أن تصعد، أو تسود، إلا على حساب الأخرى، بدل التكامل أو التعاضد أو التفاهم، علما أن كل طرف منهما يدعي حرصه على الوحدة الوطنية، والذهاب ولو إلى الصين في سبيل ذلك. وكل منهما يشتغل، مع مناصريه، وفق قاعدة "من ليس معي فهو ضدي" وهو خائن أو عميل أو مستسلم، وكلها توصيفات تعدم الحقل السياسي الفلسطيني، لأنها تأتي على الضد من العلاقات التي تقوم على المصالح والتحالفات وتفهم الآخر والاحتكام للشعب.

طبعا يفاقم من ذلك أن كل واحد من الفصيلين هو سلطة مهيمنة على المجتمع والموارد في إقليمه، مع اعتماديته على الخارج وليس على شعبه في الموارد، وتلك معضلة تجعل أية حركة وطنية متحررة من مساءلة شعبها لها، كونها غير مدينة له، بقدر ما هي مدينة لعلاقاتها الخارجية وداعميها الخارجيين، وهذه معضلة نشأت مع تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية.

خلفيات الانقسام

جدير بالذكر أن الانقسام الشعبي لدى الفلسطينيين بدأ مع انكسار روايتهم التاريخية الجامعة المؤسسة لهويتهم الوطنية، بانزياح قيادتهم من الرواية المتأسسة على النكبة (1948)، المتمثلة في إقامة إسرائيل، وولادة قضية اللاجئين التي انطلقت على أساسها الحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينات، إلى الرواية المتأسسة على النكبة الثانية، أي احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة (1967) وطلب قيادتهم إقامة دولة فلسطينية فيهما، بدلا من هدف التحرير، أو إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين/إسرائيل، أي من النهر إلى البحر؛ التي كانت معظم الفصائل تأسست عليها قبل ذلك الاحتلال.

فيما بعد تمأسست تلك الرواية بعقد اتفاق أوسلو نتيجة مفاوضات سرية (1993)، وإقامة السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع (1994)، من دون البت في القضايا الأساسية وضمنها إنهاء الاستيطان وتعيين الحدود ومستقبل القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين واعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة لهم.

في المحصلة، وبسبب تملصات وتلاعبات إسرائيل فإن القيادة الفلسطينية لم تستطع إقامة الدولة المستقلة. لكنها، أيضا، لم تحافظ على "منظمة التحرير"، لذلك ضعفت مرجعية وفاعلية وشرعية المنظمة. وبات اللاجئون الفلسطينيون في واد، والمنظمة والسلطة، التي باتت محصورة في فاعليتها في الضفة وغزة، في واد آخر.

أ ف ب
اسماعيل هنية ومسؤول حركة "حماس" في قطاع غزة يحيى السنوار اثناء الاحتفال بالذكرى الثلاثين لتأسيس الحركة في مدينة غزة في 14 ديسمبر 2017 أ ف ب

من ناحية أخرى، بديهي أن انقسام السلطة إلى سلطتين، في الضفة وغزة، عزز من مأسسة الانقسام، السياسي والشعبي، كما عزز غربة الشعب الفلسطيني، سيما اللاجئين، عن المنظمة والسلطة، وعن الفصائل أيضا، إضافة إلى خلقه واقعا من وجود أولويات ومصالح وحاجات مختلفة للفلسطينيين، في كل تجمع على حدة.

المأسسة الأخرى للانقسام الفلسطيني بعد أوسلو، حصلت مع ظهور، ثم صعود، "حماس"، خاصة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية (2006) وتاليا الانقسام الحاصل في جسم السلطة (2007)، باعتبار "حماس" تنتمي إلى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين)، فهي لم تحسم بين كونها حركة وطنية أم حركة إسلامية، وبين كونها حركة سياسية أم حركة دينية، وبين كونها سلطة أم حركة تحرر وطني.

بسبب تملصات وتلاعبات إسرائيل فإن القيادة الفلسطينية لم تستطع إقامة الدولة المستقلة. لكنها، أيضا، لم تحافظ على "منظمة التحرير"، لذلك ضعفت مرجعية وفاعلية وشرعية المنظمة

في النتيجة وجد الفلسطينيون تبعا لذلك أنفسهم أمام واقع جديد في تاريخهم السياسي، إزاء مرجعيتين وسلطتين سياسيتين، دينية ودنيوية، الأولى تشتغل وفق قاعدة التسوية والمفاوضات، والثانية حولت قطاع غزة الصغير إلى قاعدة للكفاح المسلح، للتحرير أو لدحر الاحتلال، وبغض النظر عن قدرته على التحمل، أو عن صحة هذا الخيار، بين خيارات أخرى. 
بيان الرئاسة وخيار "حماس".
هكذا لم يكن ينقص الانقسام السياسي والوجداني بين الفلسطينيين، في كل تجمعاتهم، في ظروف النكبة الفلسطينية الجديدة، بيان الرئاسة الفلسطينية، وتاليا التجاذبات السياسية بين قيادتي "فتح" و"حماس"، على خلفية المجزرة المروعة التي ارتكبتها إسرائيل في مواصي خان يونس، والتي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثمئة فلسطيني بين قتيل وجريح.
في الواقع فإن ذلك البيان لم يكن موفقا، صحيح أنه "حمل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة، وكذلك الإدارة الأميركية التي توفر كل أنواع الدعم للاحتلال وجرائمه"، لكن البيان ذهب بعيدا في اعتباره "حماس" بمثابة شريك في تحمل تلك المسؤولية... "وضمنه المسؤولية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية"، فضلا عن أخذه على "حماس" "تهربها من الوحدة الوطنية"، في حين المسؤولية عن ذلك تقع على عاتق القيادة الفلسطينية أي قيادة "فتح" والسلطة والمنظمة، أيضا، بما في ذلك المسؤولية عن غياب الشرعية، وغياب العملية الديمقراطية، وإضعاف "منظمة التحرير". 
واضح أن البيان انطوى على تسرع وخلط للمسائل. فثمة فرق بين تحميل "حماس" مسؤولية جرائم تتحمل مسؤوليتها إسرائيل مع الولايات المتحدة، وبين تحمل "حماس" مسؤولية خياراتها الكفاحية والسياسية، وتلك هي مسألة يفترض أنها تخضع للنقاش الفلسطيني، ويجب إيجاد توافقات حولها.
ومعلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي عمرها ستة عقود من الزمن، لا زالت تفتقد لركيزتين أساسيتين، رؤية وطنية جامعة، تتأسس على وحدة الشعب والأرض والرواية التاريخية. واستراتيجية كفاحية، ممكنة، ومجدية، يمكن للشعب الفلسطيني تحملها، واستثمارها على المدى الطويل، دون أن يضعف ذلك وجوده وصموده في أرضه.
أيضا، قد يمكن القول هنا، إن خيار "حماس" بتحويل قطاع غزة (1.3 في المئة من مساحة فلسطين، و6 في المئة من مساحة الضفة)، مع افتقاده للموارد الطبيعية ومحاصرة إسرائيل له، إلى قاعدة للتحرير، في ظروف فلسطينية وعربية ودولية غير مواتية، مسألة غير صحيحة على المدى الاستراتيجي، كونها تحمل فلسطينيي غزة فوق احتمالهم، سيما أن إسرائيل هي وضع دولي، أي تحظى بحماية وضمانة الدول الكبرى. 
بالنتيجة، فإن ذلك الخيار، الذي انطلق وفق إدراكات غيبية، أو قدرية، تعتمد مشاركة الملائكة، ووفق مراهنات في غير محلها، كوحدة الساحات، والحرب كجيش لجيش، وصواريخ مقابل صواريخ، مع دعوة الناس في العالمين العربي والإسلامي للمشاركة في الحرب (حتى فلسطينيو الضفة والـ48 لم يستطيعوا شيئا من ذلك)، لم ينجم عنها سوى نكبة، ربما لا يضاهيها من حيث التأثير سوى النكبة الأولى (1948) رغم أن نكبة غزة أشد هولا، وأكثر مأساوية، بكثير، وبالنتيجة فإن "حماس" باتت تطالب بالعودة إلى ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، في حين لم يبق شيء على حاله، مما كان قبل 7 أكتوبر، لا الناس ولا الحجر ولا الشجر! مع كل الاحترام والتقدير لتضحيات وبطولات المقاتلين، إذ النقاش هنا يتعلق فقط بالخيار الذي قررته قيادة "حماس".


من "عملية الليطاني" إلى نكبة غزة


أما في ما يخص بيان الرئاسة، فهو لم يكن صائبا إذ سهى عن حقيقة أن ذلك يتعلق بخيارات كانت اتخذتها قيادة "فتح"، أيضا، بخاصة في تجربتها في لبنان، ما يشي بمحاكمة تلك التجربة، أو التنصل منها، بمفعول رجعي، وهذا أمر يختلف عن المراجعة النقدية الجادة والمسؤولة، التي تتضمن تفحص خيارات أشكال الكفاح، وصوغ استراتيجية كفاحية ممكنة ومستدامة ومجدية، مع إدارة بأفضل ما يمكن وبأقل كلفة ممكنة.  
في التجربة الوطنية الفلسطينية، مثلا، أتت "عملية الشهيد كمال عدوان"، بقيادة الفدائية دلال المغربي، في العمق الإسرائيلي (1978)، وقد تضمنت خطف حافلتين، ونتج عنها مصرع 18 عسكريا إسرائيليا. وكرد على ذلك قامت إسرائيل بتجريد أول حملة عسكرية لها في لبنان، من جنوبه حتى نهر الليطاني، نجم عنها تدمير قرى لبنانية، ومصرع أكثر من ألف فلسطيني ولبناني، وإزاحة قوات المقاومة الفلسطينية 10 كيلومترات إلى الخلف، مع تدعيم "جيش لبنان الجنوبي" المتواطئ مع إسرائيل. 

رويترز
مسلحون من "حماس" في الذكرى الحادية والثلاثين لتأسيسها في غزة 16 ديسمبر 2018

أيضا، بعد حرب المدفعية الفلسطينية من لبنان (يوليو/تموز 1981)، وقد استمرت لأسبوعين (10- 24/ 7/ 1981)، ونجم عنها نزوح المستوطنين الإسرائيليين من المستوطنات الحدودية، قامت إسرائيل بشن اعتداءات وحشية على لبنان نجم عنها نزوح كبير من القرى، ومصرع مئات من اللبنانيين والفلسطينيين، وقد توقف القصف المتبادل حينها بوساطة المبعوث الأميركي فيليب حبيب. بيد أن القصة لم تنته إذ قامت إسرائيل بغزو لبنان (يونيو/حزيران 1982)، ما نجم عنه مصرع ألوف من اللبنانيين والفلسطينيين، وتقويض البني العسكرية للمقاومة، وإخراج كل "منظمة التحرير" من لبنان، كما نجم عن ذلك احتلالها جنوبي لبنان إلى العام 2000.

وجد الفلسطينيون تبعا لذلك أنفسهم أمام واقع جديد في تاريخهم السياسي، إزاء مرجعيتين وسلطتين سياسيتين، دينية ودنيوية، الأولى تشتغل وفق قاعدة التسوية والمفاوضات، والثانية حولت قطاع غزة الصغير إلى قاعدة للكفاح المسلح

وربما يفيد التذكير هنا أن الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، أصدر حينها، وكان عضوا في اللجنة المركزية لحركة "فتح"، كتابا بعنوان: "استثمار الفوز"، خصصه للإشادة بحرب المدفعية الفلسطينية تلك، وبمكتسباتها، باعتبار أنها أدت إلى إفراغ مستعمرات إسرائيل في الشمال، داعيا إلى استثمار ذلك "الفوز" في مكتسبات سياسية، وكان ذلك "انتصارا" آخر، لم يتمكن الفلسطينيون من ترجمته، ونتج عنه ذهاب "منظمة التحرير" وفصائلها إلى المنافي.
في الانتفاضة الثانية (2000-2004)، أسهمت قيادة "فتح" (مع قيادة "حماس")، بعسكرة الانتفاضة، بتحويلها من نمط الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993) التي شكلت الطريق الأنسب لكفاح الشعب الفلسطيني بإمكانياته الخاصة، إلى مواجهات مسلحة، غلب عليها طابع العمليات التفجيرية ("الاستشهادية")، في المدن الإسرائيلية، بدل تركيزها مثلا ضد العسكريين والمستوطنين في الأراضي المحتلة، الأمر الذي ردت عليه إسرائيل بوحشية بشن حملتين عسكريتين ("السور الواقي" 2002، و"الطريق الحازم" 2003). وفي المحصلة فقد نجم عن ذلك قتل عدة ألوف من الفلسطينيين، مقابل 1060 إسرائيليا (وهي ذروة المواجهات الفلسطينية المسلحة قبل حروب غزة)، كما نجم عنها تقويض قوى المقاومة المسلحة.
أيضا، قامت إسرائيل وقتها ببناء الجدار الفاصل الذي قطع أوصال الضفة الغربية، وعززت الاستيطان فيها، ولا سيما في القدس، مع زيادة السيطرة الأمنية، ثم الانسحاب الأحادي من غزة، للتخفف من عبئها الأمني والمالي والسياسي، مع فرض الحصار عليها (2005)، وتحويلها إلى مشكلة للفلسطينيين.
في العموم نحن إزاء حركة وطنية، لا تبالي كثير بتضحيات شعبها، بدعوى شعار "ع القدس رايحين شهدا بالملايين"، أو شعار: "إنه جهاد فإما نصر أو استشهاد"، أي إن الروح القدرية مسيطرة عند الطرفين ("فتح" و"حماس")، مع إضفاء قداسة على خيارات القيادة، لدى الطرفين أيضا، وعدم إخضاعها للمراجعة والمساءلة والنقد الأمر الذي عكس نفسه في غياب السياسة، واغتراب الشعب الفلسطيني عن السياسات والخيارات التي تتخذها القيادات. 
ثمة كثير من المحطات والتحديات تبين أن الفلسطينيين، في الضفة وغزة والـ48، بحاجة إلى استراتيجية كفاحية، يسترشدون ويسندون بعضهم بها، تصبّ في خدمة رؤية وطنية تقوم على وحدة الأرض والشعب والقضية، متوافق عليها، مع حاجتهم إلى كيان وطني جامع يدير كفاحهم، بتوافقاتهم وخلافاتهم، وهذه الأمور الثلاثة أحوج ما يكون لها الفلسطينيون، منذ ثلاثة عقود أو أكثر، ولا زالوا، بدل الاتكاء على خطاب النكايات والاتهامات والتشكيكات، من طرف لآخر، وتلك مسؤولية القيادة الفلسطينية، أي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح"، التي تملك أكثر من غيرها مفاتيح التغيير في الحقل السياسي الفلسطيني. ويخشى أن الوضع بات متأخرا جدا على ذلك، وعلى الأرجح فإن ما كان قبل حرب غزة، هو غيره بعدها، هذا يمس "منظمة التحرير" والسلطة، كما يمس "فتح" و"حماس" والجبهات، ورؤية الفلسطينيين لذاتهم ولقضيتهم.

font change

مقالات ذات صلة