لا يعثر ميشال فوكو لنفسه على موقع بعينه ضمن تاريخ الفلسفة المعهود. لقد ظلّ يشعر أنه "خارج السرب"، بل إنّه كان يحسّ أنه بعيد عن كلّ الأشكال التي كرستها ممارسة إنتاج الخطاب في الثقافة الغربية، وأنه لم يبق عليه إلا أن يولّد خطابات مضادة، ويتحوّل إلى "حفّار" وإلى "صانع متفجرات": "أنا خبير متفجرات. أصنع شيئا يستخدم في نهاية المطاف للحصار، للحرب، للتدمير. أنا لست مع التدمير، لكنني مع القدرة على المرور، مع القدرة على التقدّم، مع القدرة على إسقاط الجدران".
خبير المتفجرات هو، قبل كل شيء "عالم حفريات" ينظر إلى طبقات الأرض، إلى الطيّات، وإلى الصدوع، فيتساءل: ما الذي يسهل حفره؟ ما الذي سيقاوم؟ يراقب كيف تُبنى الحصون، وكيف وأين تقام مؤسسات الانغلاق، ويفحص التضاريس التي يمكن استخدامها للاختباء أو لشنّ هجوم: "أعتبر كتبي ألغاما، حزم متفجرات... أعتبر أن مهمتي هي منح أقصى فرص للتعدد، للمصادفة، للمستحيل، للمفاجئ... هذا النهج في التفكير في التاريخ من خلال لعبة الإمكان والاستحالة هو، في نظري، الأكثر خصوبة عندما نريد صياغة تاريخ سياسي وسياسة تاريخية. في نهاية المطاف، يمكن للشخص أن يفكّر بأن الأكثر استحالة في النهاية أصبح هو الضروري. يجب أن نتيح أقصى فرصة للمستحيل، وأن نسأل: كيف حدث هذا المستحيل بالفعل؟".
هذا التعدد لا يمكن أن تبلوره كتابات متراصّة، ولا خطاب كلياني، وإنما عليه أن "يقتصر" على فكر أقرب ما يكون إلى البريكولاج، فكر يوظف صندوق براغي متنوعا يقتطف منه مفهومات قد تساعده، ويتجسّد في كتابة أقرب إلى الشذرات: "أحلم بكتابة متقطعة، لا تدرك أنها كتابة، تستخدم الورق الأبيض، أو الآلة، أو حامل القلم، أو لوحة المفاتيح، هكذا، وسط الكثير من الأشياء الأخرى التي قد تكون فرشاة أو كاميرا. كل هذا ينتقل بسرعة كبيرة من واحد إلى آخر، نوع من الحمّى والفوضى... أحلم بكتابة نصوص قصيرة. ولكنها دائما ما تتحول إلى كتب ضخمة! ورغم ذلك، فأنا لا أنفكّ أحلم بتأليف نوع من الكتب التي تجعل سؤال "من أين يأتي هذا؟" سؤالا بلا معنى. أحلم بفكر عملي حقا، لا يهمّ من أين يأتي، فكر يأتي هكذا".