بعد قرن من الجمهورية... هكذا يُعرّف أكراد تركيا قضيتهم

خلاصة نقاش مع أربعين شخصية كردية

رويترز
رويترز
مؤيدون لـ"حزب اليسار الأخضر" المؤيد للاكراد يرفعون صور زعيم "حزب الشعوب الديمقراطية" صلاح الدين ديمرطاش أثناء تجمع انتخابي في ديار بكر في 13 مايو 2023

بعد قرن من الجمهورية... هكذا يُعرّف أكراد تركيا قضيتهم

في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، أجرى "مركز الدراسات الكردية" في تركيا سبرا خاصا بالمسألة الكُردية، بعنوان "الأكراد وقرن من الجمهورية"، حاول فيه فهم رؤية المجتمع الكردي في تركيا إلى مسألته القومية في البلاد بعد قرن كامل من تشكيل الدولة، ووعي المعضلات الرئيسة التي يعتبرونها منبعا للمظلومية الكردية في تركيا، وأسباب امتناع قضيتهم عن إيجاد حلول موضوعية لنفسها، رغم كل التحولات التي طرأت على الدولة التركية ونخبها السياسية وما يناظرهما من قوى سياسية كردية في البلاد والمطالب التي يعتبرها الأكراد راهنا أسسا لحل قضيتهم، آخذين في الاعتبار كامل ما جرى في الماضي، والأسس الموضوعية لما هو حاصل راهنا.

نشر المركز تقريرا تفصيليا مطولا، مؤلفا من عشرات الصفحات، تضمن خلاصة ما توصل إليه من نقاشات وأجوبة عن تلك التساؤلات، بعد حوارات موسعة أجراها مع أربعين شخصية كردية عامة في تركيا، من مثقفين وأكاديميين وإعلاميين ورجال أعمال وساسة وقادة رأي ومدراء لمؤسسات عامة ومنظمات مدنية ونقابات مهنية. فالاستراتيجية الأساسية للمركز كانت محاولة التفكير في المسألة الكردية بعيدا عن البرامج السياسية للأحزاب من جهة، وبغير آليات استطلاع الرأي العام التي تأخذ القواعد الاجتماعية العامة كعينة من جهة ثانية. فحسب رأي الفريق المشرف، تستطيع النُخبة العليا من المجتمع الكردي تحليل وتوصيف مسألتها بشكل أدق وحيوي.

السبر الذي أشرف عليه باحثون مشهورون على مستوى تركيا، مثل ريها روهافوغلو والدكتور أوجراس أولاش والبروفيسور مسعود يجن، لم يتقصد الدخول في النقاش الأيديولوجي والتاريخي الخاص بالمسألة الكردية في تركيا، مفضلا التركيز على ما يستحضره المجتمع الكردي في تركيا راهنا مثل ذاكرته السياسية وحسه بأوضاعه العامة وما يعرفه ويعتبره جوهر معاناته مع الدولة التركية، وما يظن أنها الآليات التي ستفكك كل ذلك.

يحاور الباحثون أعضاء المجتمع الكردي بداية لمعرفة رأيهم ومواقفهم مع الديناميكية السياسية "الديمقراطية" في البلاد، وإمكانية نجاعتها في إيجاد حلول للمسألة الكردية في تركيا، عارضين آخر جولتين انتخابيتين جرتا في تركيا خلال عام واحد مضى، الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في العام 2023، حيث فاز حزب "العدالة والتنمية" الحاكم فيهما بشكل مفاجئ، فيما خسرت أحزاب المعارضة بقيادة حزب "الشعب الجمهوري" (CHP)، وكان حزب "ديمقراطية الشعوب" (HDP) المؤيد للأكراد يساند فيها أحزاب المعارضة. والانتخابات المحلية التي جرت خلال هذا العام، ومُني بها الحزب الحاكم بخسارة واضحة.

تراوحت آراء ومواقف المجتمع الكردي من الممارسات الانتخابية حسب أربعة مستويات: فالأغلبية المطلقة منهم تشعر بـ"خيبة أمل شديدة" مما يجري، معتبرة ما يحدث من "عمليات انتخابية" غير قادر مطلقا على تحقيق آمال وتطلعات المجتمع الكردي، لأنه في المحصلة ليس سوى أقلية عددية/سياسية، وفوق ذلك تستطيع القوانين ومؤسسات الدولة تقويض ما تحققه قواه السياسية من نتائج في أي وقت.

إلى جانب ذلك، فإن مشاعر القلق والغضب مسيطرة على المجتمع الكردي، وإن بنسبة أقل من الخيبة، فنسبة واضحة منهم لا يثقون في المستقبل السياسي لقضيتهم وتنظيماتهم السياسية، على الرغم مما تظهره الدولة من ممارسة ديمقراطية، تقول إنها تساوي من خلالها بين كل القوى السياسية في البلاد. ويعبر المحاورون عن رأيهم في هذا السياق بما يلي "تضاءلت آمالنا في المستقبل. ولم نشهد أي تغيير في تمثيلنا السياسي. هناك مخاوف من أن تصبح تركيا أكثر استبدادية ومنغلقة على التعددية. ونعتقد أن حزب (العدالة والتنمية) حصل على دعم هش في هذه الانتخابات وسيستخدم هذا الدعم لخلق تركيا أكثر استبدادية. وهناك قلق من أن هذا الوضع سيزيد من تعميق الافتقار إلى التمثيل الديمقراطي في تركيا".

نسبة قليلة من المحاورين قالوا إنهم راضون عما يجري من انتخابات، رغم كل ما يشوبها من قصور، لأنها تسمح للمجتمع الكردي بالتعبير عن رأيه وموقفه من القوى الحاكمة والمعارضة في البلاد، وتُنعش حضور الأكراد في المشهد السياسي.

 أي  بي ايه
مؤيدون لـ"حزب الشعوب الديمقراطية" أثناء احتفالات النوروز في ديار بكر في 21 مارس 2023

يوسع القائمون على الاستطلاع الرؤية، ليكون حسب مدى زمني أوسع، فيسألون المحاورين عن رؤيتهم للحياة السياسية التركية منذ أوائل القرن الحالي، ودورها في إفراز طبقة سياسية كردية جديدة، تستطيع أن تكون فاعلا ذا وزن ضمن اللعبة السياسية، وقادرة على التعبير عن تطلعات المجتمع الكردي في تركيا ومصالحه.

 يسود إحساس عام باليأس لدى معظم الأكراد في تركيا، فأغلب المحاورين كانوا يشعرون بالقنوط من إمكانية اتخاذ الدولة/ السلطة خطوات إيجابية في القضية الكردية

بشبه إجماع تقريبا، رأى المحاورون أن "الأكراد، ممثلين بقواهم السياسية، يستهلكون الطاقة في الصراع بين الحكومة والمعارضة، بدلا من مصالحهم الذاتية... وكل ما طرأ من تحولات طوال هذه المدة لم يقد إلى أي حل للقضية الكردية، ولم تتحقق توقعات المجتمع الكردي، فقد كان ثمة نقص في التمثيل السياسي، فيما قللت نتائج العملية السياسية طوال هذه المدة من الآمال في إمكان إقرار الحقوق السياسية والاجتماعية للأكراد، والمشاكل القائمة مستمرة وتعزز عدم الاستقرار في المنطقة الكردية".  

 أ ف ب
عناصر من قوات مكافحة الشغب التركية تمنع متظاهرين أكراد من الاحتجاج على إلغاء انتخاب رئيس بلدية فان في 3 أبريل 2024

على العكس مما هو متوقع، فإن المحاورين الأكراد يقدمون الإدارة المحلية نموذجا على إمكانية حل المسألة الكردية، أو على الأقل تقديم مساحات لتفكيكها، فيما لو أُقرت ضمانات بعدم تدخل السلطة المركزية في آلية سيرها وإداراتها بعد صدور النتائج. فالسلطات والمؤسسات المحلية على العكس مما يناظرها مركزيا، لا تخضع لمبدأ الأغلبية/الأقلية القومية، التي يرى الأكراد أنفسهم ضحايا لها في المشهد السياسي، مطالبين بمزيد من السلطات والحماية القانونية للحكومات المحلية. 
ترى القواعد الاجتماعية الكردية أن "الحكومات المحلية تمثل فعليا هويتنا وثقافتنا، منصة لحرية التعبير ضد السياسات القمعية للحكومة المركزية. فالحكومات المحلية، على تواضع سلطاتها، هي فرصة للأكراد لتقديم حلول محلية بديلة لسياسات الحكومة المركزية. كذلك فإن نجاح حزب (الشعوب الديمقراطي)– المؤيد للأكراد- في الانتخابات المحلية يزيد الوعي بالقضية الكردية على الصعيدين الوطني والدولي". 
توسيعا للنقاش، يطلب القائمون على السبر من أعضاء نُخبة المجتمع الكردي توصيف المسألة الكردية راهنا، بعد قرن كامل من عمر الجمهورية، وقرابة ربع قرن من هيمنة حزب "العدالة والتنمية" على السلطة، تقديمه لـ"مشروع حلٍ" في العقد الأول لحكمه، ثم تراجعه عنه فيما بعد. 
يقدم المحاورون الأكراد خمسة توصيفات متكاملة لمسألتهم:   
  
أولا: لا توجد مناقشة عامة تتعلق بالقضية الكردية. الصورة سلبية والتمثيل السياسي للأكراد يضعف تدريجيا. وهذه الضغوط على الأكراد لا تمنع استخدام الحقوق الديمقراطية فحسب، بل تؤثر سلبا أيضا على المعنويات العامة والمشاركة السياسية للمجتمع الكردي مقارنة بالماضي.
ثانيا: ليس من تقدم هيكلي ملموس في القضية الكردية، بل على العكس من ذلك، يزداد الوضع سوءا. وبعض التطورات الإيجابية التي حدثت، جرى تأجيلها في الوقت الراهن، ويعتبر النهج وتجاهل الحلول السلمية تراجعا مقارنة بالماضي. 
ثالثا: تعيين أمناء حكوميين في البلديات والحكومات المحلية، بعد إقالة الرؤساء الأكراد المُنتخبون، هو أكثر أشكال اغتصاب الحقوق الديمقراطية للأكراد. وهو مؤشر واضح اليوم على المسألة الكردية. 
رابعا: على الدوام، كانت السياسات الحكومية أمنية وقمعية، تقيد الحقوق والحريات الأساسية للأكراد. وكانت هذه الحكومات تفضل على الدوام الأساليب ذات التوجه الأمني بدلا من الحلول السياسية. 
خامسا: السياسات الأمنية المتعلقة بالقضية الكردية تقود تركيا للتصرف بعنف حتى خارج الحدود، تدفعها للاستخدام المفرط للقوة وانتهاك حقوق الإنسان، وتحد من قدرة الأكراد على نيل الحقوق الأساسية للإنسان، وتزيد من التوتر الاجتماعي بين الأكراد والأتراك.
 يناقش المُستطلعون أعضاء المجتمع الكردي عن أكثر ما يُشعرهم بالضيم في الحياة العامة، وعن تفاصيل الحياة اليومية التي تُشعرهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فتأتي الإجابات شبه المتطابقة على مستويين: "يؤدي الاستخدام المحدود للغة الكردية في التعليم والحياة العامة إلى خلق صعوبات في الحفاظ على الوجود الثقافي والتنوع في المجتمع الكردي. فالقيود المفروضة على اللغة والتراث والفنون والثقافة الكردية تحد من حرية الأكراد في التعبير عن ذواتهم مثل الآخرين". أما المسألة الأخرى، فهي: "التفاوتات الاقتصادية وأوجه القصور التنموية في المناطق الكردية أمر واضح تماما. فالبطالة والفقر ونقص البنية التحتية تجعل الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأكراد صعبا. وهذا الوضع يزيد اليأس لدى الشباب ويمهد الطريق لاضطرابات اجتماعية".
حسب الاستطلاع، يسود إحساس عام باليأس لدى معظم الأكراد في تركيا، فأغلب المحاورين كانوا يشعرون بالقنوط من إمكانية اتخاذ الدولة/السلطة خطوات إيجابية في القضية الكردية، عملية حل جديدة تأخذ في الاعتبار المطالب الديمقراطية للأكراد. ولا تتوقع الأغلبية أن تتخذ الحكومة خطوات ملموسة تجاه القضية الكردية. ومع ذلك، يرى بعض المشاركين أن حدوث تطورات إيجابية قد يكون ممكنا، إذا زادت الضغوط الدولية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعتمد وجهات النظر حول مستقبل الأكراد عموما على عوامل مثل التفاعل والحوار الدوليين، والتطورات في مجال التعليم، والوعي السياسي المتزايد لدى جيل الشباب في المجتمع التركي.  
يطلب الاستطلاع من المحاورين الأكراد تحديد أربع سياسات/عناوين كانت حاضرة بقوة طوال القرن الماضي، وعلى القوى والمجتمعين الكردي والتركي على حد سواء تجاوزها راهنا، بغية زيادة مستويات الثقة والتفاعل في ما بينهما، وكانت النتائج كالتالي:
أولا: الإنكار والاستيعاب. عانى الأكراد طوال القرن الماضي من إنكار وجودهم، والسياسات التي أسمتها الدولة (الاستيعاب) واتبعتها، كانت قاسية جدا. وهي أمور لم تعد مقبولة مطلقا بحق الهوية واللغة والثقافة الكردية.
 ثانيا: انتهاكات حقوق الإنسان. كانت هناك انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، بسبب السياسات الأمنية، يصعب على الكُرد نسيانها وإخراجها من الذاكرة الجمعية، لفظاعة ما مُورس بحقهم، خصوصا بشكل بارد في غير أوقات الحروب والتمردات، وتحديدا تجاه المجتمعات الأهلية الكردية. 
 ثالثا: النضال الثقافي والسياسي. على الكرد أن يواصلوا نضالهم الثقافي والسياسي رغم الاضطهاد، فاللغة والآداب والفنون الكردية هي الأدوات المهمة للمقاومة الحديثة في وجه الاضطهاد.

 على الكرد أن يواصلوا نضالهم الثقافي والسياسي رغم الاضطهاد، فاللغة والآداب والفنون الكردية هي الأدوات المهمة للمقاومة الحديثة في وجه الاضطهاد

رابعا: البعد الدولي والجهود الدبلوماسية. صارت القضية الكردية تحظى باهتمام دولي، وتُدرج على أجندة الدبلوماسية الدولية بين الحين والآخر، وهي مستجد حديث، على القوى السياسية الكردية أن تأخذه بعين الاعتبار، وتعمل عليه ليكون عامل ملاقاة بين الأكراد والأتراك.
خارج الطروحات الأيديولوجية والخطابات السياسية، يرسم أكراد تركيا، عبر نُخبهم هذه، أربعة ملامح لما يعتبرونه أسسا لتفكيك المسألة الكردية جذريا في الراهن، وصناعة مستقبل أكثر وئاما داخل تركيا. 
أولا: قبول الهوية واللغة الكردية كواقع سيكون المفتاح الأول لرفع كل تُهم العنصرية والاستبعاد عن بُنى ومؤسسات الدولة.
ثانيا: التمثيل والحضور السياسي للأحزاب الكردية، في البرلمان والحكومات المحلية والحياة العامة على حد سواء. فالحضور العلني القانوني للأحزاب الكردية سيزيد من ثقة المجتمع الكردي بحماية الدولة لها.
ثالثا: النهضة الثقافية. سيشكل دعم الدولة لحدوث نهضة في الأدب والفنون والتراث الكردي، عبر فتح أو دعم قنوات تلفزيونية وإذاعية، ورعاية وتشجيع الأعمال الأدبية والفنية والفكرية باللغة الكردية، فضاء لشعور الأكراد بالانتماء إلى الدولة التركية.
رابعا: تقوية المجتمع المدني وحركات حقوق الإنسان. ليس فقط بالنسبة للأكراد ومناطقهم، بل لكامل تركيا، فهذه التنظيمات المدنية تخلق شعورا عاما بعدم إمكانية الدولة، مهما امتلكت من قوة وشرعية، على تجاوز الحقوق الأساسية لكل المواطنين، الأضعف منهم تحديدا، أي الأكراد.
ويرى المُستطلعون أن مستقبل الأكراد في تركيا يعتمد على رحلة التحول الديمقراطي. إذ يعتقدون بإجماع أنه إذا تقدمت تركيا نحو التحول الديمقراطي، فإن القضية الكردية قد تتخذ مسارا أو حلا أكثر إيجابية. فتركيا الديمقراطية التي تحلم في القرن الثاني للجمهورية، يجب أن تتخلى عن سياسات وممارسات القرن السابق، حيث يمكن لجميع الشرائح أن تعيش بإراداتها وهوياتها الخاصة، وحيث يكون للأكراد مكانة كشعب.

font change

مقالات ذات صلة