كيف تدافع مصارف لبنان عما اقترفته بحق مودعيها

سعد الأزهري لـ"المجلة": "تفاءلوا بالخير... وثمة حل لا محالة"

Shutterstock
Shutterstock

كيف تدافع مصارف لبنان عما اقترفته بحق مودعيها

لطالما تميز القطاع المصرفي اللبناني باعتباره نموذجا يحتذى في المنطقة، متانة وملاءة وحداثة وسمعة. انخرط في النظام المالي العالمي، حتى باتت سمعة مصارف لبنان بمفردها قوة جذب للإستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال الباحثة عن التوظيف والأمان وراحة البال.

صمدت "المعجزة المصرفية" اللبنانية، على الرغم من الخضات المتتالية، في وجه أهوال الحروب، وتفكك أوصال الدولة، والاحتلالات المتعددة، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وما تلاه من انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي. بقيت مصارف لبنان موضع ثقة شبه عمياء للبنانيين المقيمين، وقبلة لمغتربيهم، وللسوريين خصوصا يودعون فيها جنى الأعمار، وتعب أعوام الهجرة والتشرد في دول العالم.

بيد أن حسابات الحقل المصرفي، لم تتطابق مع بيدر الدولة اللبنانية التي وجدت في الارتفاع المطرد لموجودات مصرف لبنان، المكونة في غالبيتها من ودائع المصارف لديها، أي ودائع الناس، باباً لممارسة أسوأ ما قد يحصل لمؤونة مصرفية: الصرف من دون حساب للتوازن المالي، ومن دون مراعاة لخطر تراكم العجز السنوي، ولا الالتفات إلى الثُغَر التي تدخل منها عمليات الفساد المنظم الذي تمتهنه الطبقة السياسية اللبنانية وتخرج منها محملة مليارات من دولارات المودعين في المصارف وخزينة الدولة معا.

ما عاد يمكن للمودع الحصول على ماله من المصرف الذي استأمنه على جنى العمر، ولا عاد المصرف يتمكن من استعادة ما أودعه في مصرف لبنان

سقط هيكل المال اللبناني العريق، وسقطت المصارف مع الليرة، وذابت القدرة الشرائية للبنانيين، تبخرت عشرات مليارات الدولارات، وباتت صناديق مصارف لبنان مجتمعة خاوية بين ليلة وضحاها، ومودعيها أصحاب حقوق على الورق فقط. كلاهما وديعته محتجزة في مصرف. بحيث ما عاد يمكن للمودع الحصول على ماله من المصرف الذي استأمنه على جنى العمر، ولا عاد المصرف يتمكن من استعادة ما أودعه في مصرف لبنان (البنك المركزي). وبات الاثنان رهينة الدولة التي أهدرت مليارات الدولارات بفسادها وطائفيتها ولامبالاتها، وأسرى عدم إقدامها منذ بدء الأزمة على اتخاذ أي خطوة تعيد بناء الأمل لدى أصحاب المصارف ومودعيهم، بأن أموالهم وحقوقهم ستعود إليهم يوماً.

محاولات "صورية" للصمود

حاول أصحاب المصارف إبقاء مؤسساتهم على قيد النشاط بما أمكن، وبـ"الموجود"، واستعان من يملك منهم وحدات مصرفية في الخارج، بأرباحها وعائداتها، لدعم صمود المؤسسة الأم. ووضع غالبيتهم خططاً استراتيجية متوسطة وبعيدة الأجل، تركزت على خفض المصاريف إلى الحدود الدنيا، والتقشف في المجالات كافة.

.إ.ب.أ
سور مصرف لبنان الذي تحول الى حائط مبكى المودعين، 19 يناير 2024

حتى الآن، استطاع القطاع المصرفي اللبناني (شكليا) أن يتجنب اعلان الإفلاس القضائي واقفال أبوابه نهائيا، بيد أن استمرار هذه الحال وديمومتها رهن في الأقل بعودة الدولة المفقودة، وإيجاد الحلول تجاه مليون وثمانمئة ألف مودع، يعانون الأمرين وشظف العيش بسبب احتجاز ودائعهم في المصارف.

فماذا يقول صاحب أكبر المصارف اللبنانية لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين العرب والأجانب، المودعة أموالهم في مصارف لبنان؟ هل ضاعت؟ أم أن ثمة أملا بإعادتها؟ ومتى؟ يبدي النائب السابق لرئيس جمعية مصارف لبنان ورئيس مجلس إدارة "بلوم بنك" (بنك لبنان والمهجر) سعد الأزهري غضب القطاع المصرفي من سوء إدارة الدولة للأزمة وعدم التوصل إلى حلّ منذ نحو خمس سنوات. ومع ذلك، يقول "تفاءلوا بالخير تجدوه... وإذا كان ثمة إرادة، فثمة حل لا محالة".

إقرأ أيضا: "لعبة الحرب" في اقتصاد لبنان: هل يأبه "حزب الله"؟

وعلى الرغم من إدراكه رتابة هذه العبارات، يبدو على إقتناع تام بأنه، في نهاية المطاف، سيكون هناك حل شامل ودائم يستند إلى قاعدة عدم شطب الودائع، بل إسترجاعها ولو بطريقة تدريجية. "نعمل ونصر على الدولة ليكون ثمة حل عادل لاسترجاع الودائع، ونتمنّى أن يتبلور هذا الحل مع انتخاب رئيس للجمهورية وعودة الانتظام إلى العمل الحكومي في المستقبل القريب".

مصير اليوروبوندز مرتبط بالحل الشامل الذي سيتضمن بالطبع اتفاقا مع صندوق النقد الدولي

سعد الأزهري، رئيس مجلس إدارة "بلوم بنك"

والسؤال عينه عن حَمَلة أسهم مصارف لبنان المدرجة في البورصة (GDR) بعدما آلت قيمتها السوقيّة إلى الصفر تقريباً، حيث يقر الأزهري بأنه "في ظل غياب الحلّ الشامل ومع امتداد زمن الأزمة، كان من المتوقّع، في الحقيقة، أن تنخفض أسعار الأسهم في البورصة، ومن ضمنها بالطبع أسعار أسهم المصارف المدرجة. ساهم في هذا الانخفاض إنهيار قيمة العملة الوطنية وتوقف الدولة اللبنانية عن الدفع، إضافةً إلى عدم تمكن المصارف من توزيع الأرباح (إن وُجدت) للمساهمين منذ عام 2019 بحسب تعاميم مصرف لبنان".

رئيس مجلس إدارة "بلوم بنك" سعد الأزهري

إلى ذلك، لوحظ في الفترة الأخيرة انتعاش في أسعار اليوروبوندز اللبنانية، مما دفع حامليها إلى التفاؤل بإمكان عودتها الى أسعارها الطبيعية، وتاليا استرداد ما خسروه بعدما تخلفت الدولة اللبنانية عن السداد. إلا أن الأزهري يربط مصير اليوروبوندز بالحلّ الشامل الذي سيتضمّن بالطبع، اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي. إذ يقول إن "أي اتفاق مع الدائنين من حاملي اليوروندز يجب أن يسبقه اتفاق مع صندوق النقد". ويعزو الارتفاع "المحدود" في أسعار اليوروبوندز، "ربما إلى النيّة المزعومة للحكومة اللبنانية لشراء اليوروبوندز بأسعارها الزهيدة في السوق الثانوية، ولكن في اعتقادي أن ذلك لن يحصل". 

تهريب ودائع النافذين... و"حزب الله"

ليس جديدا القول إن المصارف متهمة بتسهيل تهريب ودائع مسؤولين وسياسيين لبنانيين إلى الخارج، ومنع ذلك عن صغار المودعين. لكن الأزهري يبرر ذلك بأن قانون الـ"كابيتال كونترول" (Capital Control) لم يقر حتى اللحظة بينما كان يجب أن يقر في بداية الأزمة. علما أنه لو أقرّ "لكنا تفادينا كلّ هذه الأمور لأن التحويلات تصبح عندئذٍ غير قانونية. ولكن في غياب مثل هذا القانون، فإن أي تحويلات من جانب القطاع المصرفي لبعض العملاء، تعد قانونية، وإن كانت غير أخلاقية". ويتدارك قائلا "لا يمكنني أن أجزم إذا قامت بعض المصارف اللبنانية بالفعل بهذه التحويلات أم لا".

لكنه يجزم بأن مصرفه وكلّ المصارف ذات المهنية العالية، لم تقُم إلا بتحويلات صغيرة ومحدودة ولأسباب إنسانية ملحّة. إضافةً الى ذلك، رفع البنك السرية المصرفية عن كبار الإداريين وأعضاء مجلس الإدارة فيه حتى يتم الكشف عن حساباتهم من جانب الجهات القضائية المختصة، التي أثبتت عدم حصول أي تحويلات من حساباتهم منذ بدء الأزمة.

 لا يوجد أي علاقة مع "حزب الله" أو القوى الموالية له، وهذا يستند إلى التزام المصارف اللبنانية إجراءات مصرف لبنان والإجراءات الدولية

سعد الأزهري، رئيس مجلس إدارة "بلوم بنك"

توازيا، يعيش لبنان على الدوام تداعيات الصراع في المنطقة، ويتأثر خصوصا بالعقوبات الدولية والأميركية على الكيانات السياسية والحزبية وفي مقدمها "حزب الله" وما يسمى "قوى الممانعة". وفيما استطاع القطاع المصرفي بإدارة حاكم مصرف لبنان السابق تجاوز عصا العقوبات على مدى عقدين، بالتفهم الأميركي من جهة، وتفاهم السلطة السياسية مع "حزب الله" حول الأخطار المترتبة على ذلك من جهة أخرى، ثمة سؤال يطرح عن علاقة المصارف حالياً مع "حزب الله"، وكيف تتعامل مع أمواله أو أموال الموالين له، يؤكد الأزهري أنه "لا يوجد أي علاقة مع 'حزب الله' أو القوى الموالية له. وهذا يستند إلى التزام المصارف اللبنانية إجراءات مصرف لبنان والإجراءات الدولية".

علاقة المصارف مع مصرف لبنان

أخيرا، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، ضرورة عودة المصارف اللبنانية إلى التسليف، وإلى دورها في تمويل الإقتصاد وإقراض الناس، فهل من أمل في ذلك؟ يجيب الأزهري: "هذا هو دور المصارف الطبيعي، الذي نأمل بالطبع أن تعود الى ممارسته عند إنتهاء وحلّ الأزمة. في الوقت نفسه، تقوم بعض المصارف حالياً بعمليات تسليف محدودة بالـ"فريش دولار" (Fresh) لزبائنها أصحاب الجدارة الإئتمانية العالية ولكن بشروط صارمة بهدف حماية سيولتها وموجوداتها".

.أ.ب
مودع لبناني يقوم بتحطيم نافذة أحد البنوك المحلية خلال احتجاجات في ضاحية سن الفيل شرق بيروت في 15 يونيو 2023

في السياق، لا يرى الأزهري أن ثمة صعوبة في إستعادة المصارف ثقة المودعين. إذ، على سبيل المثل، وعلى الرغم من الأزمة، هناك حاليا مبالغ لا بأس بها من الـ"فريش دولار" (الجديدة التي لا علاقة لها بالحسابات القديمة) في المصارف اللبنانية وتمارس عملها في الخارج من خلال وحداتها الأجنبية بشكلٍ عادي وناجح، وهذا خير دليل على أن إدارة المصارف لم تفتعل الأزمة بل هي مسؤولية السياسات المالية والنقدية الخاطئة للدولة. 

إقرأ أيضا: "مصارف الزومبي" مرآة للفساد المالي

قبل أسابيع، عدّل البنك المركزي التعميمين 158 و 166 ليشملا مروحة جديدة من المستفيدين مما أثار امتعاض عدد من المصارف، إلى درجة اعتبر بعضها أن الحاكم بالإنابة منصوري "يُحرجها ليُخرجها" من السوق. بيد أن الأزهري يرى أن ما يقوم به "المركزي"، ومن ضمن ذلك التعديلات الأخيرة على التعميمين المذكورين، "هي بوادر إيجابية تهدف إلى إراحة المودعين وتوفير المزيد من السيولة لهم ريثما يتم الاتفاق على حلّ شامل للأزمة وينفذ فعلا، والذي نتمنى أن يكون بأسرع وقتٍ ممكن. و

في الوقت نفسه، ثمة مشكلة لدى بعض المصارف على صعيد تأمين السيولة لتلبية هذه التعاميم، خصوصاً بعدما كان المركزي يدفع جزءاً من الفوائد على ودائع المصارف لديه ولكنها توقفت عندما تغيّر سعر الصرف في مقابل الدولار من 15,000 ليرة إلى 89,500 ليرة في أوائل فبراير/شباط 2024، خوفا من زيادة السيولة بالليرة من جانب المركزي وأثرها السلبي على سعر الصرف، باستثناء الـ25 في المئة من الفوائد التي لا يزال يدفعها بالدولار غير النقدي (اللولار). ولكن المركزي وعد بأن يجدَ حلاً لهذه المشكلة في القريب العاجل، ونحن في القطاع نأمل خيراً من ذلك".

يمكن استرداد الودائع التي تصل إلى مبلغ 100,000 دولار من السيولة الحالية للمصارف وودائعها الموجودة في مصرف لبنان، ويمكن القيام بذلك بدءاً من الآن

سعد الأزهري، رئيس مجلس إدارة "بلوم بنك"

وكان الأزهري اقترح مشروع حلّ على مراحل لمعضلة الودائع، وهو حل لم يلقَ أي اعتراضات من المسؤولين ومن المؤسسات المالية الدولية، وفق ما يقول، ولا يزال يأمل بأن يعمل به أو ببعض بنوده كحلّ لإسترداد الودائع ولردم الفجوة المالية في مصرف لبنان. يرتكز المشروع على ثلاث آليات:

- أولا، استرداد الودائع التي تصل إلى مبلغ 100,000 دولار من السيولة الحالية للمصارف وودائعها الموجودة في مصرف لبنان، ويمكن القيام بذلك بدءاً من الآن.

- ثانيا، إنشاء صندوق لاسترداد الودائع (DRF) بشكلٍ مشترك بين المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية هدفه استرداد معظم الودائع التي تزيد قيمتها على 100,000 دولار. وتتم تغذيته من مصادر عدة أهمها جزء من الأرباح المستقبلية الموزّعة للمصارف، حصة من إيرادات أصول الدولة، ومن ضمنها الإيرادات المستقبلية من الغاز والنفط، مساهمة الدولة في إعادة رسملة مصرف  لبنان، والضريبة على الأرباح التي حققها المدينون الذين دفعوا قروضهم بالدولار بأسعار صرف رسمية أقل بكثير من أسعار السوق.

- ثالثا، إعادة هيكلة المصارف، التي ستكون أسهل بكثير، مقارنة بالفترة السابقة، وذلك بسبب تقلص الميزانيات العمومية للمصارف بشكل كبير نتيجة التخلص من الفجوة المالية لدى مصرف لبنان (أي معظم ودائعها السابقة)، وبالتالي ستكون حقوق الملكية المطلوبة لإعادة هيكلة المصارف أقل بكثير.

الأزمة نظامية ولم تنشأ بسبب المصارف، بل بسبب سياسات الدولة ومصرف لبنان

سعد الأزهري، رئيس مجلس إدارة "بلوم بنك"

بين الحين والآخر تبرز تسريبات كثيرة عن تباينات واختلافات بين المصرفيّين، والمصارف الكبيرة والصغيرة، خصوصا حيال مشاريع إعادة هيكلة المصارف، وطروحات الحكومة وخططها لإنقاذ الإقتصاد، وهذا ما يهدّد وحدة الموقف والجمعية عموما. لكن الأزهري يؤكد أن "جمعية المصارف في لبنان موحّدة ولا خلاف بين أعضائها حول المبادئ الأساسية للأزمة وسُبُل حلها". وهذه المبادئ هي ثلاثة:

- الأزمة نظامية ولم تنشأ بسبب المصارف، بل بسبب سياسات الدولة ومصرف لبنان. هذا لا يعني أنه لا يوجد مصارف ضعيفة أو ذات سياساتٍ خاطئة، ولكن ما يعنيه أن حلّ الأزمة يبدأ من الفجوة لدى مصرف لبنان وتحمّل الدولة لمسؤولياتها.

- يجب أن لا يتضمن الحلّ أي شطب للودائع. وفي هذا الإطار، المصارف مستعدة للمساهمة بجزء من أرباحها المستقبلية لتوفير هذا الحلّ.

- يجب أن يكون الحلّ أيضاً عادلاً ومنصفاً، حيث يتحمّل كلّ المعنيّين أعباء نجاحه، وأن يكون من أهدافه الرئيسة إعادة بناء القطاع المصرفي لا هدمه لأن هذا يعني القضاء على مستقبل الإقتصاد اللبناني.

font change

مقالات ذات صلة