محمد رويشة... عرّاب الشجن الأطلسي

مزج بين الأنماط الموسيقية الأمازيغية والعربية والعالمية

محمد رويشة

محمد رويشة... عرّاب الشجن الأطلسي

نبغ الموسيقي محمد رويشة (1950-2012) في تطوير وتثوير شكل الأغنية الأمازيغية (بالأطلس المتوسط) مثلما لم يفعل أحد قبله، وذهب بإيقاع الدهشة الأطلسية إلى التخوم القصوى.

موسيقى رويشة حفر عمودي في طبقات وجدان الهامش. استقصاء فاتن لبداوة الحب ودليل أحزانه السوداء. احتفاء بمعجم أمومة الطبيعة واستغوار صوفي لمقامات الغربة.

بعصاميته المتوقدة، ودفء زخمه الإنساني، وموهبته الضارية، صنع لحظته الفنية السامقة، في معترك الصمت، وقتامة النسيان.

غواية مريرت

محمد رويشة المولود في بلدة مريرت، الشبيهة بكمين جغرافي، وهي بلدة منسية لا تنسى أبدا، تستأثر بهباء التاريخ السري للأطلس، وتنفرد بكيمياء الغضب الأزلي، انتبه مبكرا إلى فخ البلدة الصغيرة التي يضمر صمتها بركان الجنون، إذ انفصل مرغما عن فتنة عرائها وأعراس وحشتها، ليجعل من مدينة خنيفرة برجا لعاصمته الموسيقية الخاصة.

مع ذلك ظلت غواية مريرت راسخة، تفتنه في أول عنفوانه الفني، ليتردد على أعراسها الذائعة الصخب، إلى أن تعرض للتعنيف ذات ليلة، نجم عنه كسر في فكه السفلي، جعله يقاطع مدينته الأولى طويلا، أو إلى الأبد. لم يرجع إليها على نحو أوليسي إلا بعد حنين معتق، وعاد إليها كأنه يشيعها في سهرة بعد خصومة دامت عقودا.

 قلة يعرفون أن رويشة أبدع ولحن قصائد عربية فصيحة ظلت أصداؤها تتردد في طقوس جلساته الخاصة

في المحفل الموعود بالهواء الطلق، صيف 2010 بمريرت، أدى أغنية بالأمازيغية، لمناسبة عودته التاريخية تلك، وبدت على وجهه نشوة طفولية، تحت طائل ابتهاج وفائض غبطة، لم يدركها إلا الراسخون في مس الحال.

ختم أمازيغي

لقد ظلت آلة "لوطار" ترجمانا عتيدا ومعشوقا حد الوله في أغاني "العيطة" التراثية، وسافرت عبر شكلها الأولي بين تجارب العزف التلقائي والبدوي إلى أن وجدت طريقها المتفرد إلى أنامل العازف الرصين عمران بوسكري، وقبله المعلم حمو أو اليزيد. ثم غادرت حجمها الأولي حين اهتدت إلى محترف رويشة الذي صاغها بشكل أطلسي ومهرها بختم أمازيغي، محدثا عليها تغييرا جديدا لائقا بغرابتها ووحشيتها. غرابتها كآلة بهيئة مستفزة ومثيرة، بالنظر إلى طريقة صنعها التي لا تخلو من قسوة، ووحشيتها كمصدر عنيف للشجن. إنها الصورة المثلى لمستودع الحزن البدائي. فاختلط علينا الأمر ما إن شرع كاهن فتنتها في ترويض مستحيلها، مبحرا كملاح في سديم مجهولها، فقلنا: عجبا! ما أشبه سرد "لوطار" رويشة بما يسرده نهر "أم الربيع" المندلع من جبل أخدود العملاق. الجبل المطل على المشهد كحارس أزلي.

EPA
مهرجان كناوة للموسيقى

تأنقت آلة "لوطار" مع رويشة وتحرر عزفها الذي فتح جلبابه على الجهات السبع للموسيقى، إذ أضاف الوتر الرابع الى هذه الآلة الجلفاء، فصارت مقدراتها تستوعب الجديد المنفلت من أطياف الألحان، وتلتقط الشارد من النغم الفواح وفق تردد يقظتها الشرسة، لتعتق أسلوب الطرب وتجدد أثره الغائر.

لم تقتصر إبداعية رويشة على استكمال الأنماط التأسيسية للأغنية الأمازيغية، وإحداث منعطف تاريخي وفني داخل بنيتها وشكلها، بل التفت منذ البداية إلى التراث الشعبي المغربي، مزاوجا بين الأغنية المنطوقة بالدارج المغربي والأغنية المنطوقة بالأمازيغي، واستطاع أن يخترع شكلا غريبا لم ينتبه إليه المهتمون ونقاد هذا الفن الغنائي الشعبي، فالشكل الذي يغنيه بالدارج المغربي، له خصوصية فنية من ابتكاره، و إن كان له امتداد لفن "العيطة"، غير أنه نموذج ساطع للقطيعة معها في آن، بالنظر إلى صوغ القصيدة الحرة، وبالنظر إلى أسلوب اللحن وطريقة الأداء. وقليلون جدا يعرفون أنه أبدع ولحن قصائد عربية فصيحة ظلت أصداؤها تتردد في طقوس جلساته الخاصة لا غير.

تجربة وجودية

خبر رويشة حياة الهامش عبر تجربة وجودية، كانت الأم فيها تحظى بمكانة مركزية. للاعيشة، ليست أما عادية، فكفاحها النبيل مع وليدها الوحيد، عبر شروط عيش مأسوية جعل منها رمزا في وعيه أشبه ما يكون بأم مكسيم غوركي، فخصّها باهتمام جليل ومحتشد وفق نظرة أقرب ما تكون صوفية. وقد ظل وفيا لمدرسة أمه ملتزما وصيتها الأثيرة، فترك باب بيته مفتوحا للمعجبين والمهتمين والموسيقيين والأصدقاء والغرباء في آن.

هذا الباب الذي لا يوصد إلا في الحالات الطقوسية، حينما ينفرد بآلته التي كانت ضلعا من جسده. وهي حالات عزلته الشاقة والمنتشية لحظة اختلائه بذاته في كهف إبداعه. حتى أنه اقتنى بما جناه من أوائل أمسياته الموسيقية، مساحة الأرض المجاورة لقبر أمه، كي يدفن لصيقا بها، وفق وصيته، وهذا ما أوفت به بلدة خنيفرة ولم تخذله لحظة مدفنه الحاشد، على الرغم من أن المقبرة مغلقة، بسبب اكتمال حلقة الاكتظاظ.

في غرفته العلوية الخاصة، الشبيهة بصومعة أو مغارة، أشرقت أجمل الأغاني وأبدع الألحان وأمهر المعزوفات. إنها غرفة تكاد تختزل شخصيته، كأنها غرفة تحميض صور، حيث الصدى الخالد والمستودع الأسراري لخلوات الفنان الأثيرة جدا.

  رويشة الذي أطلسَ الأغنية المغربية وأمزغَها، استطاع بمفرده أن يؤسس لظاهرة غنائية لافتة

انسلخ عراب الشجن الأطلسي في وقت مناسب عن الصعلكة الفوضوية، محصنا ذاته ضمن شروط ذكية ومحترمة، فاتحا جبة إنصاته الممعن على الموسيقى العالمية، وإن بقي تأثير بليغ حمدي وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وناس الغيوان، المجرة الملازمة لاقتباساته اللحنية. إذ تبدو أغنية محمد رويشة شجرة أطلسية وارفة لقحتها رياح الاقتباسات الموسيقية المشرقية والأفريقية من جهة ثانية، ومن جهة أولى ذات صنعة مغربية أمازيغية تراثية شبه خالصة. وعلى هذا النحو شيد مملكته الخضراء، مراكما رأسمالا رمزيا باذخا من المحبة والنبل، وكان شبيها بولي من أولياء الله الصالحين في بلدة خنيفرة.

من المشاريع التي بدأها ولم تستوف شروط الاكتمال، اشتغاله الفني على ديوان "حوض النعناع " لقطب مجموعة ناس الغيوان، أيقونة الرحيل المغربي، العربي باطما، إذ يتماهيان روحيا معا ولا يختلف اثنان على التقاطع الجمالي بين الشخصيتين.

رويشة الذي أطلسَ الأغنية المغربية وأمزغَها، استطاع بمفرده أن يؤسس لظاهرة غنائية لافتة ضمن فن "الكونتري" أو "البلوز" المغربي معا، إذ لم يكن من السهل اجتراحها أمام سطوة شيوع الأغنية الشرقية والعصرية وغيرها.

 FACEBOOK
محمد رويشة

لأشدّ ما كانت تجربته في الموسيقى والوجود قمينة بأن تترجم على الأقل في فيلم وثائقي يليق بعلامته الخضراء.

لعراب الشجن الأطلسي، ملك آلة "لوطار"، يقول رجع صدى الغياب:

هي ذي القبرات التي تطايرت من شهقة آلتك

تضرج سماء العزلة

هي ذي نجمة القطب التي لمعت في دلوك

تضيء غسق الظهيرة

هي ذي الأرزة السامقة التي زاوج ظلها ظلك

تشرئب حذو المزنة الهاربة بطفولتنا المهدورة.

font change

مقالات ذات صلة