قبل أيام طالب رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع عبر منصة "إكس" وزير التربية اللبناني "بعدم قبول أي طالب أجنبي سوري أو سواه ليس بحوزته إقامة صالحة وصادرة عن الأمن العام اللبناني". وسبق هذا النداء بيان صدر عن الدائرة الإعلامية في حزب "القوات اللبنانية" بخصوص الأمر نفسه، حيث وجه الحزب نداء "إلى أصحاب ومديري المدارس والمعاهد الرسمية والخاصة، في كل المناطق اللبنانية، بالتوقف فورا عن تسجيل أي طالب سوري غير شرعي، أي لا يحمل (إقامة) صادرة عن المديرية العامة للأمن العام اللبناني حصرا، وصالحة التاريخ لكامل العام الدراسي، وعدم فتح المجال لتسجيل أي طالب غير شرعي خاصة على أبواب الموسم الدراسي القادم، مع التأكيد على أن ما يُسمى زورا (بطاقات اللجوء) الصادرة عن المفوضية في لبنان، تتعارض مع القوانين اللبنانية ومذكرة التفاهم الآنفة الذكر ولا يجوز بتاتا الاستناد إليها لاعتبار أي طالب سوري غير شرعي بأنه شرعي، لا بل يضع مَن يستند إلى هذه البطاقات الباطلة تحت طائلة الملاحقة القانونية".
هذا ما جاء في بيان "القوات". وإذا وضعنا جانبا اليوم العبء الذي تحمله لبنان جراء اللجوء السوري، وهو الذي يعاني أساسا من أزمات سياسية واقتصادية مستمرة ذاتية الصنع، فإن الأمر يبدو اليوم مختلفا، فهذه قد تكون المرة الأولى التي يصدر فيها حزب سياسي مطالبات بحرمان شريحة كبيرة من الأطفال السوريين من التعليم، ولذلك لا بد من تفنيد الأمر.
بداية يتناسى سياسيو لبنان أنه شريك في الجريمة بحق السوريين، ولولا تدخل فريق لبناني عسكريا في سوريا لصالح نظام بشار الأسد، ما كان لبنان ليضطر إلى استقبال هذه الأعداد من السوريين على أرضه، وأما القول إن لبنان غير معني وإن من تدخل هو حزب أو ميليشيا مسلحة، فهو أمر مردود عليه إذا ما وضعنا تعاطفنا مع لبنان المخطوف قراره من قبل هذه الميليشيا أي "حزب الله". فبعد أن أرسل "حزب الله" مقاتليه إلى سوريا لقتل وتهجير السوريين، شاركه جميع الأحزاب سواء في مجلس الوزراء أو مجلس النواب أو طاولات حوار بأسماء مختلفة، وإن قبلنا بالواقع الذي يقول إن لبنان عاجز عن وقف مغامرات "حزب الله" في سوريا كما لبنان ودول عدة، فيصبح من غير الواقعي أو المنطقي أن نحمل نتيجة عدوان "حزب الله" لضحاياه، وفي هذه الحالة هم الأطفال السوريون.
قانونا إذن لبنان شريك، كما إيران وروسيا والعراق. سياسيا يمكن القول إن طرفا لبنانيا هو وحده المسؤول عما آلت إليه الأمور، والتغاضي عن إمكانيات الدولة اللبنانية بمنعه من المشاركة في حروب المنطقة خدمة للمشروع الإيراني.
في النقطة الثانية، وهي حصرية السماح لمن يحمل إقامة شرعية صالحة لمدة العام الدراسي كاملا بأن يدخل المدرسة، فهذا الكلام يصح في حال كانت القوانين واضحة وتطبق على الجميع بالتساوي، أما إن نقرر فجأة أن لبنان يجب أن لا يعترف بالمفوضية والوثائق الصادرة عنها، بعد أن مضت سنوات طويلة وهو يعترف ويقبل، فلا بد من التوقف عند هذه المزاجية بالتعاطي، مع الأخذ في الاعتبار التعقيدات والصعوبات التي توضع يوميا أمام اللاجئ السوري في لبنان لكي يتمكن من الحصول على الإقامة الشرعية دون أن يفقد صفة لاجئ، بينما يحصل عليها من يدخل ويخرج إلى سوريا في الأعياد والمناسبات، أي من لا خطر عليه هناك، فهل المطلوب "الانتقام" ممن عارض النظام أو خرج في المظاهرات وهرب بأطفاله من البراميل والكيماوي والسكاكين؟
من طالب بمنع التعليم فتح معركة على المفوضية السامية للاجئين وعلى الأمم المتحدة، وحرض عليهما وكأنهما مرتكبتان لجرم جنائي، متناسيا أن المجرم يجلس في مكان آخر
هذه المطالبة من قبل حزب سياسي بمنع التعليم عن شريحة من البشر تشكل نوعا من الانتهاك الفاضح للمادتين 14 و26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان للبنان مساهمة عظيمة في وضعه، والأسوأ من ذلك أن من طالب بمنع التعليم فتح معركة على المفوضية السامية للاجئين وعلى الأمم المتحدة، وحرض عليهما وكأنهما مرتكبتان لجرم جنائي، متناسيا أن المجرم يجلس في مكان آخر.
أما النقطة الأهم والتي تغيب دوما عن النقاش عند الحديث عن تعليم السوريين فهي الأعداد، ووفقا لـ"اليونيسيف" فإن 61 في المئة من الأطفال السوريين خارج عملية التعليم (تقرير صدر في ديسمبر/كانون الأول 2023)، وهل أذكر أن أكثر من نصف الأطفال داخل سوريا في مناطق المعارضة هم خارج المدارس أيضا؟
هذه الأرقام يجب أن تكون ناقوس خطر للجميع، فالأمر أبعد من احترام حقوق الإنسان وحق الطفل في التعلم، الأمر يتعلق بمستقبل منطقة تعاني ما تعانيه من تطرف وإرهاب وانتشار لآفة المخدرات والجريمة المنظمة، فهل المطلوب أن نقدم لمن يعبث بأمن المنطقة ونسلمه المزيد من الهدايا المجانية، هل المطلوب أن ندع ملايين الأطفال في الشوارع لتستقطبهم تلك المنظمات بذريعة أن لبنان المشارك في تهجيرهم ليس بلد لجوء؟ لم يطالب أحد بتوطينهم، ولكن التعليم يجب أن يكون الخط الأحمر الذي يتوافق عليه الجميع إن كنا نريد أقله وقف حلقة العنف والتطرف التي تدور في المنطقة منذ سنوات.
أما في نقطة تكلفة اللجوء السوري على لبنان، فمن الضروري أن نذكر وبالأرقام أنه وبالتحديد في ملف التعليم لبنان مستفيد من وجود الطالب السوري في المدرسة اللبنانية، في السابق كانت "اليونيسيف" تدفع لوزارة التربية اللبنانية عن كل طالب سوري، 600 دولار أميركي سنويا، إن كان مسجلا في دوام بعد الظهر، أو 363 دولارا إن كان مسجلا في الدوام الصباحي، (عدا عن دفع 160 دولارا مقابل كل طالب لبناني في المدرسة اللبنانية)، وكانت هذه المبالغ تصرف على التكاليف التشغيلية من دون احتساب رواتب الأساتذة، وكلفة المباني المدرسية وصيانتها، واستخدام التجهيزات والمفروشات، وهنا لا بد من ذكر أن "اليونيسيف" والدول المانحة أعادوا ترميم مئات المدارس الرسمية اللبنانية، كليا أو جزئيا، مقابل السماح للطلاب السوريين بالتعلم، وأن أكثر من 13 ألف مدرس لبناني تم التعاقد معهم لتعليم السوريين في دوام بعد الظهر.
لاحقا وبسبب كثرة الأزمات في المنطقة والعالم، وتحديدا في العام الدراسي 2022-2023، تراجعت مساهمة "اليونيسيف" حيث باتت تدفع 140 دولارا عن كل تلميذ سوري في التعليم الرسمي قبل الظهر وبعده. وهذا ناقوس خطر آخر.
قبل أسابيع، كتب الأستاذ ممدوح المهيني: "رجال الأمن يستطيعون أن يقضوا على الهجمات الإرهابية، ولكن القضاء على الأفكار الإرهابية من مسؤولية وزراء التعليم"، وذلك في مقال تحدث فيه لا عن أهمية التعليم فحسب بل أيضا على نوعية التعليم للمساهمة في خلق عقول واعية لا تكون يوما فريسة سهلة لأفكار "خرافية".
بدوره كتب الأستاذ طارق الحميد في مقاله بجريدة "الشرق الأوسط"، بعنوان "إلا التعليم" في تعليقه على دعوة جعجع: "القصة ليست جدلا سياسيا، وإنما أعمق وأكثر خطورة... القصة هي الخشية من الغد، وعلى كل مسؤول ومثقف التحسب لذلك، ووقف كل ما من شأنه تعميق أزمة المنطقة. وأخطر أزمات المنطقة هي غياب وتردي التعليم".
دعونا إذن لا ندع التعليم جانبا بل لنجعله أولوية، ولنطالب بما طالب به الأستاذ طارق الحميد أي "إنشاء صندوق للتعليم، ويكون صندوقا عربيا دوليا، لضمان استمرار المسار التعليمي، وتحديدا في مناطق الحروب"، فالأمن لا يكفي لمحاربة التطرف والإرهاب والجريمة، بل نحن أحوج ما نكون فيه إلى عقول ترفض التطرف والإرهاب والجريمة كي لا تجد قوى الشر بيئة خصبة تعمل بها.
لبنان الذي طالما كان يعتز بالجامعة والصحيفة وبمساهمة شارل مالك بكتابة نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يأتي اليوم البعض فيه ليحاصر المدرسة وليكسر قلم شارل مالك عبر المطالبة بمنع تعليم الأطفال السوريين في انتهاك فظيع وعلني يرقى إلى مستوى ارتكاب جريمة سياسية بحق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.