التراث الأدبيّ العربيّ غنيّ بفنّ السّرد وتنوّعاته، شأن التّراث الأدبيّ في ثقافات الحضارات العريقة. وهذا يستدعي سؤالا يطرح على فنالسّرد العربيّ المعاصر: لماذا جاءت القصّة العربيّة الحديثة على صورة القصّة الأوروبيّة الحديثة، أو أكثر تأثّرا بها، على مستوى الأسلوب خاصّة، وكذلك على مستوى معالجة الموضوعات؟
ومع الاعتراف والاعتزاز بالنتاج الرّوائيّ والقصصيّ في الأدب العربيّ المعاصر، يبدو لي مسْتغربا ألاّ تكون المآثر القصصيّة العربيّة اليوم في مقدّمة ينابيعه ومصادره إلى جانب النّتاج الرّوائيّ والقصصيّ في الأدب العالميّ.
السّرد العربيّ القديم مرتبط بالعقليّة العامّة الشّعبيّة وبعيد عمّا يمكن وصفه بالتّجريد والرّؤى الفكريّة، وقائم على المخيّلة والمغامرات. لهذه الأسباب، (أي ارتباط السّرد بالحياة اليوميّة وبعده عن التّجريد)، كان أكثر قربا من النّاس، على اختلاف مستوياتهم الثّقافيّة. لكن مهما حضرت التّفكهة وحضر الإدهاش فإنّ التّعليم لم يكن يغيب.
القصص تنهل من التجارب الإنسانيّة بقدر ما تستعين بالخيال وتنتظم بالمنطق التّحليليّ وتستضيء بالقيم والتّعاليم
ويمكن القول إنّ القصّة العربيّة اليوم أكثر ميلا إلى هويّة العمل الفكريّ بسبب النزوع إلى التّحليل والابتعاد عن مسار الإدهاش، فهل هذا تطوّر إيجابيّ أم لا؟ يصعب عليّ أن أجيب، بل أتحاشى الإجابة. فالقضيّة تعود إلى كاتب القصّة ورؤيته لفنّه، كما تعود إلى قارئها؛ ولا أرى مسؤوليّة النّاقد أو الباحث قائمة في رسم المسارات. مسارات أيّ فنّ يحقّقها مبدعو هذا الفنّ، وإن كان للناقد أو الباحث أن يناقشها ويقترح الإضاءات.
هذا يغري بالتّأمّل في فنّ القصّة: هل انطلق من التّعليم؟ أي من البعد المعرفيّ التّعليميّ متوسّلا الإدهاش والإمتاع؟ أو ممّا يقابله؟ أي الاعتبار أو التّنفير والهجاء؟ ونعرف أنّ هذا الفنّ يمضي اليوم بعيدا في طريق الابتداع ليوحّد بين الإضاءة الفكريّة، أي الومضة التّعليميّة، والمتعة الجمالية والتّشويق. وذروة الإبداع تكمن في تكامل الأهداف.
حتى الرسالات السماويّة اعتمدت، أحيانا، أسلوب القصة والتّعليم بالقصص.
القصص تنهل من التجارب الإنسانيّة بقدر ما تستعين بالخيال وتنتظم بالمنطق التّحليليّ وتستضيء بالقيم والتّعاليم.
القصّة رحلة يرتوي فيها الخيال بماء الواقع والتّجارب الإنسانيّة، كما يستضيء الواقع بالخيال. هي صياغة للتّجربة أو للمتخيّل تتحرّك من الحدثيّ إلى الفكريّ السّامي. وهذا يعني أنّ هذا الأسلوب يجسّد المبدأ والفكرة، إذ يخرج القصة من سياق المعيش الزّمانيّ، لكي يمنحها حضورا في مدار الوعْي الإنسانيّ.
نلاحظ أنّ أكثر النّاس إصغاء للقصّة هم الأجيال الفتيّة. لكن، نلاحظ أيضا أنّ المتقدّمين في السنّ يميلون إلى تلقّي المعلومات عبر مسار قصصيّ. فالحدث الذي ترويه القصّة يسلك طريقا موازيا للمعيش أو يستعير قوانينه وأعني ما يوحّد المتعة بالمعرفة والتّأثّر.
وقد اتّسع فنّ القصّة وتعمّق ذاهبا من الحدثيّ الواقعيّ إلى المتخيّل والتّحليليّ.
القصّة ميدان إبداعيّ يتجاوز متعة التّشويق إلى رحلة البصيرة والمعرفة على أجنحة المتخيّل. لهذا كانت الثّقافة الواسعة من الرّوافد الأساسيّة لهذا المتخيّل، أي العمل القصصيّ.
لم يتوقّف الإبداع القصصيّ في الثّقافة العربيّة بدءا من العهود القديمة السابقة للإسلام وصولا إلى المراحل الحديثة.
ينبغي ألاّ ننسى أنّ الإبداع القصصيّ الأدبيّ المكتوب هو خميرة عالم الخيال والكشف وفنون الكلمة وغذاء أجهزة الصورة في مختلف الميادين
وإذا كانت القصة (من السيرة إلى الحكاية والرواية) تعلّم "الحاضر" بأخبار الماضي، فإنّ القصّة الحديثة تتوسّع بلا توقّف؛ تتوسّع في الخيال بقدر ما تمتح من التجارب والكشوف. تروي بقدر ما تحلل وتستشرف وتتخيّل.
لا شكّ في أنّنا نفخر بكنوز الأدب العربيّ القصصيّ، القديم منها والمعاصر. لكنّنا نلحظ بعض التّراجع في هذا النّتاج المكتوب. قد يكون للتّرجمة ولأجهزة البثّ المصوّر أو الحيّ (التلفزيون والسينما) بعض المسؤولية. مع ذلك أرى في هذا شيئا من المفارقة. لأنّ هذه الأجهزة تتطلّب، في الوقت نفسه، مواصلة الإبداع القصصيّ وإحياء تراثات قصصيّة.
في كل حال ينبغي ألاّ ننسى أنّ الإبداع القصصيّ الأدبيّ المكتوب هو خميرة عالم الخيال والكشف وفنون الكلمة وغذاء أجهزة الصورة في مختلف الميادين.