"ولاد رزق – القاضية" بين محدودية الواقع وأفق السينما

هيمنة النموذج الأميركي والذكورة المفرطة

Orient Films
Orient Films
مشهد من فيلم "ولاد رزق - القاضية"

"ولاد رزق – القاضية" بين محدودية الواقع وأفق السينما

قبل نحو ربع قرن عاتبت الناقدة السينمائية حنان شومان، المخرج الفلسطيني المصري طارق العريان على تقديمه سينما لا تتحدث إلا عن طبقة معينة، هي الطبقة العليا بالطبع، من دون التطرق إلى موضوعات أخرى، فجاء رد العريان، الذي لم يكن حتى ذلك الوقت قد بدأ سلسلته الأنجح جماهيريا "ولاد رزق"، بأنه "يصنع أفلاما من أجل جمهور "المول" (وهي دور العرض من الدرجة الأولى)، وليس من أجل دور العرض من الدرجة الثانية أو الثالثة، فهو مخرج عاش حياته بين أبناء الطبقة الراقية، وبالتالي هو لا يستطيع أن يتحدث إلا عن الحياة التي يعرفها.

طارق العريان الذي درس السينما في لوس أنجليس، وأظهر عمله مبكرا ولعه بالسينما الهوليوودية، لا سيما في نوع الأكشن، وإصراره على صناعة سينما مصرية موازية ومحكمة، يبدو أنه تخلى اليوم إلى حدّ ما عن قناعاته الطبقية في صناعة أفلامه. فالمشروع الذي يستحوذ على أغلب نشاطه السينمائي، منذ عام 2015، أي مع صدور الجزء الأول من "ولاد رزق"، يتحدث في النهاية عن عصابة ذكور شعبيين من منطقة عين الصيرة. أخوة يُعرفون باسم "ولاد رزق"، متخصصون في أعمال السرقة الخطيرة، والمطاردة بالسيارات ثم الهرب في اللحظة الأخيرة. يرغبون في التوبة عن أعمال الشغب، لكن توبتهم ليست نصوحة، إذ تجبرهم الظروف كل مرة، على العودة، لمرة أخيرة، إلى "طريق الحرام"، هنالك يثبتون جدراتهم التي لا تُبارى، ويستمتعون بأخوتهم، وذكورتهم الفائضة مع النساء، سواء بالكلام أو الأفعال، ثم يتوبون مؤقتا إلى حين الجزء التالي.

إنتاج غير مسبوق

من الصعب مع ذلك، أن نختزل "ولاد رزق" في هذه السطور. فالعمل الذي يحظى في جزئه الثالث تحديدا، بدعم إنتاجي غير مسبوق (إنتاج مصري سعودي مشترك)، يسمح لصُنّاعه بتحطيم عشرات السيارات الفارهة، وتنفيذ مطاردات بالحافلات والدراجات النارية وحتى التلفريك، بصورة متقنة، لا يزال يصرّ على تقديم نفسه بصورة متواضعة للغاية على المستوى الفكري. لا أبعاد إنسانية وراء جماعة "ولاد رزق"، هم ليسوا روبن هود حتى الذي يسرق من الفقراء ليعطي الأغنياء. فالسيد رزق، كما يمكن أن نستنتج، لم يزرع في أبنائه أي قيم، باستثناء ضرورة الاصطفاف معا، في مواجهة أي تهديد. وعلى الرغم من أن الأبناء يفاخرون بنسبهم لهذا الأب، في كل مرة يستعرضون قوتهم أمام الأعداء، فإنه من النادر أن نسمع منهم شيئا حقيقيا عنه. هو كالكثير من مفردات عالم رزق، ديكور كمالي وواعد بما لا يمكن لأفلام هذه السلسلة أن تفي به أصلا، على الأقل حتى الآن.

العمل الذي يحظى بدعم إنتاجي غير مسبوق لا يزال يصرّ على تقديم نفسه بصورة متواضعة للغاية على المستوى الفكري

وكأن التأثير الوحيد الباقي من الطبقة الراقية، أو لجمهور "المولات" الذي انتمى طارق العريان ذات يوم اليه، ربما يكمن في استمتاع عصابة الأخوة بالتخطيط الذكي لمشاريعها اللصوصية، وفي تنفيذ تلك الخطط بدهاء لافت يتقدم دائما خطوة على توقعات كُلٍ من المُشاهد وأعداء الأخوة معا. وهذا الذكاء تحديدا، هو الذي يميز "ولاد رزق" عن أي عمل فني شعبي آخر، كان يمكن أن يتزعم بطولته محمد رمضان مثلا، ملك الذكورة واللكمات الشعبية، لكن أيضا الذي تنهض أعماله على الميلودراما المفرِطة واستدرار العطف ومغازلة طموح الطبقات الأقل اجتماعيا في التفوق البدني الرمزي على الطبقات المتوسطة المتعلمة.

إبهار بصري

"التويستات" أو الالتواءات في الحبكة، التي يصنعها العريان ومعه كاتب السيناريو صلاح الجهيني، في كل جزء من أجزاء السلسلة، التي تصل إلى مستوى ممتع حقا هنا في الجزء الثالث المُعنون بـ"القاضية"، تقنع هذا الجمهور بأن صناع الفيلم على الأقل يحترمون ذكاءه، ومستوى مشاهداته في السينما الأميركية، وبأنهم لن يخذلوه، على مستوى الإبهار البصري. هذا الوعد يبدو مضاعفا مع "القاضية"، بسبب البذخ الإنتاجي الذي نُفّذ به العمل، إضافة إلى طابعه الترويجي لموسم الرياض، وكل ذلك يعني أن الجزء الثالث كان ينبغي أن يصبح أفضل حلقات السلسلة.

لكن هل هذا يكفي؟

 ينهض "ولاد رزق – القاضية"، على الحبكة التقليدية للسلسلة، عملية خطف لأحد أفراد عصابة الأخوة، وهي هنا لمصدر الثقل رضا – أحمد عز – واستجواب طويل له، بينما هو مقيد على يد غريمه، وفي الأثناء ينفذ الأخوة عمليتهم، يعرقلهم ظاهريا غياب شقيقهم الأكبر، وقائدهم رضا، وفي النهاية تتكشف الحقيقة، ويظل الأبطال غير قابلين للهزيمة.

Orient Films

في إعلان الفيلم، يتحدث أحد الأخوة عن الصعوبة اللوجستية لهذه العملية المزعومة، لأن السرقة ينبغي أن تتم في مدينة الرياض، أي خارج الأرض التي يعرفها الأخوة، التحدي الذي يقبلونه بلا تردد كأي أبطال خارقين. غير أن الرياض كانت تحديا أيضا للفيلم نفسه، ماذا سيصوِّر طارق العريان هناك، وما الذي سيضيفه صلاح الجهيني على حبكته المعروفة سلفا، والمحدودة بطبيعة الحال، حين يُضمِّن الرياض كمدينة جذابة سياحيا في فيلمه؟ تظهر الشوارع والأماكن على الشاشة، وتتحول إلى ساحة حرب، تحترق السيارات ويلمع الملاكم العالمي الذي يشارك في الفيلم، تايسون فيوري، مع ظهورات أخرى عابرة لنجوم كرة مشاركين في موسم الرياض.

Orient Films
الممثل المصري أحمد عز في "ولاد رزق- القاضية"

مع ذلك، لا نرى من الرياض أكثر من هذا. تبدو المدينة هنا، كمدن ألعاب الفيديو، ديكورا مبهرا ومنيرا، لكن خالية بصورة محبِطة من الناس. لا شخصيات اكتشفناها هناك، شخصيات سينمائية لها علامات مميزة كبقية الأبطال، حتى لو لم يظهر منها سوى القشور، كحال شخصية "الشايب"، التي يؤديها آسر ياسين، ويعوض بها غياب أحد الأخوة (رجب) الذي كان يؤديه أحمد الفيشاوي في الجزءين السابقين، كما يعوض الممثل علي صبحي، في دور "كوري"، غياب مساعد العصابة (عاطف)، وكان يؤديه أحمد داوود.

ثغرة

تمتد الثغرة التي يتسرب منها تأثير فيلم كبير إنتاجيا، وفقير كتابيا، عبر التهميش المتعمد لوجهات نظر النساء وشخصياتهن. وكأن فرط الذكورة في الفيلم يقتضي محو كل علامة أنثوية، أو تحقيرها بالمعنى الحرفي للكلمة. ثمة مشهد لعنف زوجي يمارسه رضا بلا مبرر سوى إثبات المفهوم المشوّه لكن الرائج جدا عن الرجولة "الأولاد رزقية". ثمة مشهد آخر لتحرش مؤسف يمارسه رضا، ورمضان – عمرو يوسف – مع المساعدة التي ستمرر لهما المعلومات المهمة عن طبيعة عمليتهم في الرياض. على الرغم من أن الفكرة نفسها، كان يمكن أن تصل بطريقة أخرى، لكن الإمعان في إظهار الرجال الطاووسيين، الذين لا يمكن للإناث رفضهن بالضرورة، أحد أسرار نجاح الخلطة من وجهة نظر صنّاع "ولاد رزق".

وفي الوقت الذي يعلن فيه طارق العريان اعتزازه بالنموذج الأميركي وسعيه إلى محاكاته، نجد أن هذا النموذج نفسه، قد تطوّر في بعض أهم أفلامه، في نوع الأكشن بالأخص، خلال السنوات الأخيرة. "ماد ماكس" مثلا، دليل على قدرة أعمال من هذا النوع على التفاعل مع عالمنا الذي نحياه، بكوابيسه البيئية والسياسية وبإظهارها لتهميش الفئات الأقل قوة كالنساء والأطفال، بما يشي بثورة عكسية من هذه القطاعات على الأوضاع الفاسدة، وحتمية اندلاع حروب إيكولوجية كونية تسمح باستعراض مطاردات مثيرة بالسيارات والحافلات والدراجات النارية في الصحراء، مما يضمن نجاحا مذهلا للفيلم في شباك التذاكر العالمي مع صدور كل جزء جديد. أمثلة أخرى عديدة، تثبت أنه بالإمكان صناعة فيلم مؤثر تجاريا، من دون أن يضطر للظهور برأس مُفرِط الصغر هكذا على جسد متضخم مفتول العضلات، كما هو الحاصل في "ولاد رزق". وعلى أي حال، يبدو مشهد الهرب بالحافلة التي يقودها "الشايب"، في شوارع الرياض، بينما الملاكم تايسون فيوري المخطوف في صراع عنيف مع بقية الإخوة في مؤخرة الحافلة، يبدو متأثرا جدا بأسلوب الأكشن في "ماد ماكس".

 العمل الذي يحظى بدعم إنتاجي غير مسبوق لا يزال يصرّ على تقديم نفسه بصورة متواضعة للغاية على المستوى الفكري

هذه القدرة على تقديم فيلم أكشن ناجح تجاريا وناضج فكريا بالحد الأدنى على الأقل، ليست بعيدة عن صنّاع السينما المصريين. فقبل بضعة أشهر فقط، صدر فيلم "شقو"، من إخراج كريم السبكي وتأليف وسام صبري، بدا مستلهما إلى حد كبير من عالم "ولاد رزق"، وأُسنِدت بطولته حتى إلى اثنين من أبطاله هما عمرو يوسف ومحمد ممدوح. كما لعب على الثيمة نفسها من التعاضد الذكوري لتنفيذ العمليات الخارجة على القانون، حتى يتمكن الأبطال من التوبة. برهن "شقو" على إمكان تقديم سيناريو جيد، يستفيد من شخصياته النسائية، ومن هشاشة أبطاله الذكور أمام الحياة، الذين يتعرضون للهزيمة وإن كانت هزيمة عابرة.

Orient Films
الممثل المصري عمرو يوسف في "ولاد رزق- القاضية"

لقد حقق "ولاد رزق – القاضية"، ما صُنِع من أجله، على مستوى النجاح الجماهيري، وكان نجاحه مضمونا بطبيعة الحال، فهل دفع هذا صنّاعه لذلك الكسل الفكري والسينمائي الذي تبدى في العجز عن إضافة أي أضلاع جديدة للحبكة، فجاء الفيلم متوقعا ومملا حتى في بعض أحداثه، على الرغم من كل محاولات الإثارة؟ لا خلاف على التسلية والإبهار وظرافة هذه الرحلة الموجزة جدا التي يأخذنا إليها في الرياض، وقد توَّجتها الثيمة الموسيقية التي أضافها الموسيقار هشام نزيه بطابعها السعودي على المشاهد المأخوذة هناك. مع ذلك، فإن عملا يتمتع بكل هذا السخاء الإنتاجي، يجعلنا نطمح بالضرورة إلى المزيد، المزيد من الحيوية الفكرية، التي تجاري هذه الحيوية الحركية. وإن لم يحدث هذا في الأجزاء المقبلة من هذه السلسلة، فإن الأمل أن يحدث في أعمال أخرى، تُرينا مدننا العربية الجميلة وإمكاناتها السينمائية، لكن أيضا الإنسانية الواسعة. 

font change

مقالات ذات صلة