من المبكّر الاستنتاج من الانتخابات أن الشعب الفرنسي، أو أغلبيته، تجاوزت، أو قطعت، مع أقصى اليمين الشعبوي المتطرف في فرنسا، بزعامة ماري لوبان. ومع ذلك فإن ما حدث هو تطور كبير، خالف كل التوقعات، التي تنبأت بصعود اليمين هذا واحتلاله مكانة الصدارة في حيازة مقاعد "الجمعية الوطنية"، وبالتالي تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة.
في محصلة تلك الانتخابات ثمة عدة ناجحين، فقد نجح الشعب الفرنسي، أولا، في اختبار الحفاظ على قيم الجمهورية، وانحيازه لقيم الديمقراطية الليبرالية، رغم كل المشكلات، أو الثغرات، بإعطائه معظم أصواته لتياري اليسار والوسط (وفق التوصيفات الأوروبية طبعا وليس وفقا للتوصيفات الرائجة عندنا) وعدم اختياره لليمين المتطرف الذي يغلّب القيم الهوياتية العرقية-العنصرية. وعلى العموم فإن نتيجة الانتخابات عكست حال التنوع والتعددية في المجتمع الفرنسي، الذي توزع على خمس كتل بينها ثلاث كتل كبيرة (يسار ويمين ووسط)، في نوع من التوازن، وفقا للعبة الديمقراطية، من دون منح أي طرف أغلبية مطلقة، تمكنه من الاستفراد بتشكيل حكومة.
الناجح الثاني، كان تيار اليسار، المتمثل في أحزاب "الجبهة الشعبية الجديدة" ("فرنسا الأبية"، و"الاشتراكي"، و"الشيوعي"، و"البيئيين")، التي احتلت المركز الأول بين القوى الأخرى، بعمودها الفقري حزب "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون، وهو حزب فتي عمره ثمانية أعوام، يركّز على قضايا حقوق المواطن المعيشية والاقتصادية والسياسية فضلا عن موقفه المتقدم في القضايا الدولية وضمنها قضية فلسطين.
الناجح الثالث، هو الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يتزعم تيار الوسط عموما، وهو نجاح مزدوج له، باحتلال تياره المركز الثاني، بعد اليسار، وقبل اليمين المتطرف، في الانتخابات، وأيضا، بنجاحه في مغامرته، بحل الجمعية الوطنية، بشكل مفاجئ، والذهاب نحو انتخابات مبكرة، في فترة زمنية قصيرة، ما شكّل صدمة للشعب الفرنسي.
والحقيقة أن تلك الصدمة التي أتت بعد نجاح اليمين المتطرف في انتخابات الاتحاد الأوروبي كقوة أولى، أتت بمفعولها، إذ أيقظت الشعب الفرنسي، وهو ما شكل هذا الإقبال الكبير على الانتخابات، التي قلبت النتائج بين الجولتين الانتخابيتين، إذ تبوأ اليمين المتطرف الجولة الأولى، في حين حصل على المركز الثالث في الجولة الثانية.
في المحصلة، ثمة بشرى كبيرة لأوروبا، وللاتحاد الأوروبي، إذ شكلت الانتخابات الفرنسية حائط صد لموجة اليمين الشعبوي، التي بدأت في إيطاليا، وهي تأتي كامتداد لما حصل في بريطانيا قبل أيام قليلة، بصعود حزب "العمال" إلى الحكم، بعد أن حصل مثل ذلك في أسبانيا. وهي بشرى سارة بالتأكيد لألمانيا، التي حذر مستشارها من صعود اليمين المتطرف في فرنسا، وهي شريكة ألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي، كما أنها بشرى للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وكذلك لأوكرانيا وللفلسطينيين أيضا. في المقابل فإن نتائج الانتخابات الفرنسية تشكل بشرى غير سارة لترمب، وبوتين، ونتنياهو بالطبع.
ما تقدم لا يعني أن الطريق بات سهلا أمام اليسار والوسط، وأمام ماكرون كرئيس، في نظام سياسي مزدوج، نصف رئاسي ونصف برلماني، وهذه التحديات لا تتوقف على مجرد النجاح في تشكيل حكومة جديدة، أو ائتلاف، أو حكومة تكنوقراط، أو حكومة مختلطة ضمن توافقات معينة.
ثمة بشرى كبيرة لأوروبا، وللاتحاد الأوروبي، إذ شكلت الانتخابات الفرنسية حائط صد لموجة اليمين الشعبوي، التي بدأت في إيطاليا، وهي تأتي كامتداد لما حصل في بريطانيا
في الواقع، فإن فرنسا تمر بمرحلة انتقالية عصيبة، وصعبة، تتطلب إحداث تغيير في السياسات الداخلية، إذ لا يمكن الاستمرار وفقا للسياسات السابقة، بحسب اتجاهات تصويت الشعب الفرنسي.
والحال أن فرنسا، كأي دولة أوروبية، تعاني من أفول دولة الرفاه، التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظروف انقسام العالم إلى معسكرين، واستمرت طوال نصف القرن الماضي. إلا أن تلك الدولة، التي انبنت على نظام الديمقراطية الليبرالية، باتت تواجه مشكلات تآكل البعد الليبرالي، وتصاعد التفاوتات الطبقية، ما يتطلب مراجعة السياسات التي تفضي إلى عدم التوازن في الاقتطاعات الضريبية، وتآكل التقديمات الاجتماعية، وتفاقم مشكلات النظام التقاعدي والخدمات الصحية، وانخفاض مستوى المعيشة، وتاليا التركيز على تعزيز ثقافة الديمقراطية الليبرالية، ودولة المواطنين، بما يقطع على اليمين المتطرف، الذي يركز على سياسات الهوية، ومعاداة المهاجرين، والتشكيك في سياسات الاتحاد الأوروبي.
إلى ذلك، فإن المرحلة الانتقالية، وقدرها ثلاثة أعوام- بانتظار الانتخابات الفرنسية القادمة، الرئاسية والتشريعية- هي المختبر الذي يمكن من خلاله إحداث القطيعة مع تيار اليمين الشعبوي نهائيا، لأن عدم النجاح في هذه المرحلة سيعطي دفعة لذلك التيار، لذا فعلى حسن إدارة تياري الوسط واليسار لتحالفاتهم، وانتهاج سياسة جديدة تتجاوب مع مصالح أغلبية الشعب الفرنسي، سيما الطبقات الفقيرة، سيتوقف مصير فرنسا في ما بعد الانتخابات القادمة.
مرة جديدة، من المبكر الاحتفال بأفول تيار اليمين الشعبوي المتطرف في فرنسا، وفي أوروبا عموما، فإما التعافي في الأعوام الثلاثة القادمة، بانتهاج سياسات مغايرة، تتجاوب مع مصالح الشعب الفرنسي، وإما أن الإحباط سيؤدي في الانتخابات القادمة لصعود اليمين المتطرف.
وباختصار، فقد نجح ماكرون في قطع هذه المرحلة، لكن السؤال: هل ينجح ماكرون في إنهاء ولايته، بالحفاظ على فرنسا، وقيم الجمهورية، بعيدا عن شبح اليمين المتطرف، ويبني إرثه السياسي على ذلك؟ وهل لديه المرونة لبناء تحالف مع أحزاب اليسار أو استيعابهم؟ ثم هل لديه الإرادة لتغيير سياساته بما يتجاوب مع حاجات أغلبية الفرنسيين؟