العراق وأميركا... علاقة بوجهين

حكومة السوداني لا حول لها ولا قوة

أ ف ب
أ ف ب
وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن (يمين) يلتقي برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (يسار) في البنتاغون بالعاصمة واشنطن، 15 أبريل

العراق وأميركا... علاقة بوجهين

العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأميركية يمكن وصفها بأنها علاقة بوجهين، الأول يحمل ملامح الكائن الطبيعي وهو الوجه الرسمي بين حكومة بغداد وإدارة البيت الأبيض في واشنطن. أما الثاني فهو وجه الكائن المسخ الذي تُشوه ملامحه الأجندة السياسية للأميركيين في منطقة الشرق الأوسط، وأيديولوجيات القوى الموازية للدولة في العراق.

ساهم الأميركيون كثيرا في رسم ملامح وجهي هذه العلاقة، فبعد 2003 لم يكن للأميركيين مشروع واضح وصريح بشأن خارطة الطريق لمرحلة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين. ويبدو أن إيران كانت تدرك تماما أن تغيير نظام الحكم في العراق هو فرصة حقيقية يجب استثمارها للانطلاق نحو مشروع أمنها القومي وبسط نفوذها من خلال الإبقاء على العراق كدولة هشة، نظام سياسي يحكم من قبل رؤوس متعددة يمكن السيطرة على قرارها. ولا أحد يمكن أن ينكر دور الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في مرحلة ما بعد 2003 في إبقاء عدم حسم طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، والتماهي مع المشروع الإيراني.

ولعل التصورات التي قدمتها تريسي آن جاكوبسون، المرشحة كسفيرة للولايات المتحدة في العراق، أثناء خطاب ألقته أمام الكونغرس يوم 15 يونيو/حزيران الماضي. تعطي انطباعا واضحا بشأن التفكير الذي يحكم صانع القرار الأميركي بشأن العراق. هذا الخطاب للمرشحة لمنصب سفيرة أميركا في بغداد، تزامن مع ما نشره عضو مجلس النواب الأميركي مايك والتز، عبر منصة "إكس"، والذي أشار فيه إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي، فائق زيدان. إذ اتفق كلاهما على أن مشكلة أميركا ليست مع النظام السياسي وإنما مع الشخصيات التي تتهمها واشنطن بالتعامل مع إيران وتنفذ أجندتها في العراق. وهذا بحد ذاته يوضح التشوه في آفاق العلاقة التي تفكر فيها واشنطن تجاه بغداد، فهي تتعامل رسميا مع الحكومة بسلوك محدد، تتجاهل فيه تعقيدات علاقة منظومة الحكم وشخوصها مع إيران، ولكنها تريد أن تختزل المشكلة في شخصيات محددة سواء كانوا بعنوان حكومي أو فاعلين في النظام السياسي، أو يشغلون مناصب رسمية محددة.

تريسي آن جاكوبسون، المرشحة لمنصب سفيرة واشنطن في بغداد، تطرح رؤيتها كسفيرة في العراق لمواجهة إيران أكثر من آفاق التعاون الدبلوماسي بين بلدها والعراق

آن جاكوبسون، المرشحة لمنصب سفيرة واشنطن في بغداد، لم تتحدث عن تصوراتها لمهامها في العراق، إلا من خلال مواجهة إيران. وتقول إن "إيران ممثل خبيث في ‎العراق ومزعزع لاستقرار المنطقة، وندرك أن التهديد الرئيس للعراق هو الميليشيات المتحالفة مع إيران". لتعود وتؤكد أن "الميليشيات المدعومة من إيران تشكل خطرا كبيرا على استقرار العراق، وأنها ستعمل بكل الوسائل السياسية المتاحة للتصدي لهذا التهديد وتحجيم النفوذ الإيراني". وتشدد على أنها "لن تسمح لإيران باستخدام الغاز المورد لتشغيل المحطات كسلاح ضد العراق". ويبدو أنها تطرح رؤيتها كسفيرة في العراق لمواجهة إيران أكثر من آفاق التعاون الدبلوماسي بين بلدها والعراق.
موقع "واشنطن فري بيكون" (WASHINGTON FREE BEACON) نشر تقريرا مفاده أن النائب الجمهوري مايك والتز، وهو عضو لجنتي القوات المسلحة والشؤون الخارجية بمجلس النواب، سيقدم تعديلا على مشروع قانون من شأنه اعتبار مجلس القضاء الأعلى العراقي ورئيسه "أصولا تسيطر عليها إيران". عضو مجلس النواب الأميركي والتز يتهم القاضي فائق زيدان بأنه "يقع في قلب مؤامرة إيران لتحويل العراق إلى دولة عميلة". ويبدو أن مشكلة النائب الجمهوري مع إيران أكثر من كونها مع النظام السياسي العراقي ومؤسساته، لا سيما أنه يعرف تماما التصارع والتداخل بين الأجندة الإيرانية والأميركية في العراق، والتي تؤثر بوضوح على المنظومة الحاكمة بأكملها وقراراتها ومواقفها.

أ ف ب
مقاتل من "الحشد الشعبي" يقف للحراسة خلال جنازة مقاتل توفي في غارة جوية أميركية، في مقر "الحشد الشعبي" في بغداد، 25 يناير

السفيرة الأميركية إلينا رومانويسكي، التي تمارس مهامها حاليا في بغداد، كان حراكها يعكس توجها واقعيا يعبّر عن تعاطي الأميركيين مع القرار الداخلي للقوى السياسية في العراق، بصورة تختلف عما يجري تسويقه بفرض الأجندة الأميركية على قرار القوى السياسية، أو دعمهم لشخصيات محددة لتولّي الحكومة، إذ تعاملت مع واقع سياسي تكون الغلبة فيه للقوى السياسية الشيعية التي تعمل بثنائية السلاح والسياسة، وتحسب على المحور الإيراني. ومن ثم، كانت داعمة لتشكيل حكومة جديدة بزعامة "الإطار التنسيقي" يقودها محمد شياع السوداني.

القوى التي دخلت العمل السياسي، ولا زالت تتمسك بثنائية السلاح والسياسة، لا تريد الاعتراف بالاستحقاقات التي تفرض التفكير بأولية المصلحة العليا للدولة على الشعارات والأيديولوجيات

طوال فترة ممارسة رومانويسكي مهامها في العراق، لم يكن توجه السفارة الأميركية في بغداد تعبيرا عن توجّه استراتيجي جديد في التعامل مع تطورات الأحداث السياسية في العراق. لكنها نجحت في إحراج القوى التي ترفع راية العداء ضد أميركا من خلال التعامل السياسي معها باعتبارها واقعا، والتوجه نحو التعامل مع الأطراف الفاعلة بعيدا عن هيمنة المركز الإيراني المؤثر. 
هناك سياسة أميركية عصية على الفهم، فحتى الآن تصر الإدارة الأميركية على نظام فرض العقوبات على المؤسسات أو الأشخاص أو نظام الحكم، وكل من تعتقد أنه يلحق ضررا بالمصالح الأميركية، وتفترض أن هذه العقوبات يمكن أن تحقق غايتها في تقليص نفوذ- أو الحد من- فاعلية "أعداء أميركا". لكن كل تجارب العقوبات سواء كانت على كوبا أو فنزويلا أو السودان أو العراق أو إيران أو لبنان أو سوريا... إلخ، لم تؤثر على الأنظمة الحاكمة أو شخصياتها القيادية، وإنما تكون وسيلة تدمير لاقتصاديات البلدان التي تُفرض عليها العقوبات، دون أن تغير من الواقع شيئا. إذ تبقى الطغمة الحاكمة أو الشخصيات المتنفذة تتمتع بالأموال والنفوذ، ولكن الشعب هو من يعيش ذل العوز والحرمان. 
ربما يتمسك الأميركيون الآن بعلاقتهم مع النظام السياسي في العراق، لأنهم ساهموا في تأسيسه بعد 2003. ولكن تعاطيهم مع الواقع السياسي الذي تشترك فيه شخصيات وعناوين مشمولة بالعقوبات التي تفرضها الخزانة الأميركية أو تصنف على لائحة "الإرهاب"، يؤكد أن السياسة الأميركية في العراق ليس لديها وضوح في الرؤية ولا مصداقية في التعامل. حتى المواضيع التي تتعلق بمحاربة تهريب الدولار من العراق تجاه الدول المشمولة بالعقوبات الأميركية، تضغط على الحكومة والمؤسسات المالية الحكومية، ولكن الأميركيين يدركون جيدا أن الحكومة والبنك المركزي أضعف الحلقات في السيطرة على المافيات التي تسيطر على موارد البلد واقتصاده. إذن الوجه الرسمي في العلاقة بين العراق وأميركا، يغطي على هيمنة مافيات السياسة والسلاح والاقتصاد في العراق.
في الجانب العراقي، القوى التي دخلت العمل السياسي، ولا زالت تتمسك بثنائية السلاح والسياسة، وتتمسك بشعاراتها التي ترفع السلاح الذي كانت تقاوم به الأميركيين، هذه القوى رغم أنها دخلت السياسة، فإنها لا تريد الاعتراف بالاستحقاقات التي تفرض التفكير بأولية المصلحة العليا للدولة على الشعارات والأيديولوجيات. ويبدو أنها لا تزال تعيش وهم قوة السلاح الذي هو أعلى من الدولة وقرارها. أو تعتقد أن قوتها المتحصلة بالسلاح هي التي تفرض على الأميركيين التعامل معها كأمر واقع. وبالنتيجة فإن فاعلية هذه القوى في منظومة الحكم، وتعاطي السياسة الأميركية مع هذه المنظومة والفاعلين فيها، حتى وإن كانت تختلف معهم، تجعل العلاقة بين أميركا والعراق تشبه الكائن المسخ في رواية فرانكنشتاين للكاتبة البريطانية ماري شيلي.

حكومة السوداني لا حول ولا قوة لها، إذ تقف حائرة أمام تقاطعات مواقف القوى السياسية التي تتماهى مع الرؤية والمواقف الإيرانية، وبين رغبتها في عدم التقاطع مع مواقف الإدارة الأميركية

وتكمن المشكلة الأكبر في مواقف القوى السياسية، والشيعية منها تحديدا، التي لا تريد أن تقدم موقفا سياسيا يبتعد عن دائرة الاشتباك بين طهران وواشنطن. ولذلك لا يمكن لتلك القوى الخروج من تلك الدائرة، لأن مواقفها من الأميركيين لا ترتبط بالشأن العراقي فحسب، وإنما تتماهى تماما مع التوتر أو الهدوء في العلاقات الإيرانية-الأميركية، أو حتى التطورات الساخنة في المنطقة. والأكثر تعقيدا من رغبات الأطراف السياسية في العراق، هو صانع القرار السياسي في طهران الذي يعتقد أن العراق هو الساحة الأكثر تأثيرا لإرسال الرسائل سواء بالتهدئة أو بالتصعيد ضد المصالح والوجود الأميركي فيه.

رويترز
جندي أميركي يقف مع سلاحه في قاعدة عسكرية في منطقة مخمور بالقرب من الموصل، 18 أكتوبر 2016

ورغم ذلك، تبقى المعضلة الأكبر في ضبابية وتشتت الرؤى السياسية العراقية بشأن طبيعة العلاقة مع الأميركيين، إذ لم يتم حسم توصيفها لحد الآن، فهي تتأرجح بين الحليف الاستراتيجي، والصديق، والعدو. ويبدو أنها تجمع كل التناقضات في "دولة" لا تنحصر سياستها الخارجية في المؤسسات السياسية الرسمية، وإنما تعبر عنها مواقف الزعامات والأحزاب السياسية، وحتى جماعات الفصائل المسلحة. 
أما حكومة السوداني، فلا حول ولا قوة لها في التعبير عن مواقف واضحة للدولة في علاقتها مع واشنطن وبشأن واقع تلك العلاقة، إذ تقف حائرة أمام تقاطعات مواقف القوى السياسية التي تتماهى مع الرؤية والمواقف الإيرانية، وبين رغبتها في عدم التقاطع مع مواقف الإدارة الأميركية، ولذلك هي تفشل دائما في احتواء المواقف ولا تجد غير تسويق البيانات والتبريرات الساذجة عندما يصدر قرار أميركي يستهدف قيادات سياسية ويضعها ضمن قائمة العقوبات الأميركية.

font change

مقالات ذات صلة