الأدب وهمّه اللغوي

 shutterstock
shutterstock

الأدب وهمّه اللغوي

عندما يتراجع الهم اللغوي لدى كتّاب الأدب، أي عندما يصبح همّا ثانويا بالقياس إلى هموم أخرى، يترتب علينا أن نجد في هذا الأمر واحدة من المشكلات التي يواجهها ذلك الأدب. وما يُكتب اليوم من أدب عربي يعاني من هذه المشكلة، على نحو لم يعُدْ من الجائز معه التغاضي أو التهاون أو التجاهل.

وعندما نتكلم على الأدب العربي اليوم، إنما نقصد في الدرجة الأولى الشعر والرواية. وفي هذين المجالين، يمكننا أن نلاحظ ضمور الاهتمام بالناحية اللغوية، ضمورا ينعكس سلبا على مختلف نواحي الكتابة، شعرية كانت أم روائية.

في الشعر، نستطيع القول إنّ مصطلح "اللغة الشعرية" يشكّل المفتاح الأفضل للكلام على أي مظهر من مظاهر التغيير أو التجديد. وفي تاريخ الشعر العربي، قامت الانعطافات المهمة على تغييرات جذرية أو ملحوظة في اللغة الشعرية، التي لا تقتصر _ في ما أقصده هنا _ على الجانب النحوي التركيبي، وإنما تتعداه إلى جوانب أخرى، كالجانب البلاغي والجانب الموسيقي، وغيرهما.

إن ما حققه شاعر مثل أبي تمام يتمثل في ابتكاراته اللغوية، نحوية كانت أو بيانية أو بديعية. إنه يتمثل إذن بابتكاره لغة شعرية "جديدة"، أحدثت لمعاصري أبي تمام المعنيين بقضايا الشعر صدمة قسمتهم حوله أنصارا وخصوما. ولأن لغة أبي تمام الجديدة كسرت المألوف وفتحت آفاقا واسعة للتعبير الشعري، ووجهتْ في البداية بالكثير من التحفظ، بل الاستغراب والشجب، واتُّهمَ الشاعر بأنه متوعرٌ وفاسد ويقول ما لا يُفهم، وكلامه لا يشبه كلام غيره. ولكنّ أبا تمام غدا لاحقا علَما من أبرز الأعلام في التراث الشعري العربي، وبات واحدا من الشعراء الذين ساهموا على نحو فعال في تطوير الشعر وإغنائه.

أحدثت لغة أبي تمام لمعاصريه المعنيين بقضايا الشعر صدمة قسمتهم حوله أنصارا وخصوما

وما قلناه عن أبي تمام ينطبق بنسبة أو بأخرى على شعراء مثل بشار وأبي نواس والبحتري وابن الرومي وابن المعتزّ وأبي العتاهية والمتنبي وأبي العلاء، وغيرهم. فلكلٍ من هؤلاء الشعراء منحاه اللغوي في تجديد الشعر، وفي التعبير عن مضمون "فكري" خاص، أو بالأحرى عن رؤية خاصة تتجسد فرادتها في فرادة اللغة التي تتجلى من خلالها.

لعِب لغوي

اللعب اللغوي قد يكون تفنّنا أو تزيينا أو زخرفة... أو عبَثا مجانيا. وربما يصح القول إن العمل الأدبي هو كيان لغوي، وإن جمالياته تنبع من حسن التصرف باللغة، أو بالأحرى من اللعب في اللغة على نحو فنيّ، أي على نحو ليس عبثيا وليس مجانيا وليس افتعالا أو تنميقا. حُسن التصرف باللغة (أو فيها) يعني طريقة خاصة في التمرس بوسائلها، وفي تجديد هذه الوسائل، وفي ابتكار المزيد منها.

يمكننا إيراد الكثير من النماذج الأدبية التي تشهد على أن اللعب اللغوي كثيرا ما يكون سبيلا إلى ابتكار المعاني والصوَر والرؤى. لنأخذْ هذا البيت للمتنبي:

لقد حازني وجدٌ بمن حازهُ بُعْدُ

فيا  ليتني  بُعدٌ ويا ليته  وجدُ

في هذا البيت وردت كلمة "وجْد" مرتين، ووردت كلمة "بُعد" مرتين أيضا، أما فعل "حاز" فقد ورد مرتين هو الآخَر. للوهلة الأولى، قد يرى القارئ في هذا التكرار مجرد لعب بالألفاظ، ولكن القليل من التأمل يفضي إلى اكتشاف التكرار سبيلا إلى تصوير المعاناة الذي رمى إليه الشاعر، فإذ به يعبّر عن شكواه من الوجد والبعد بطريقة جعلت البعد يحتوي (أو يحوز) الوجدَ تارة، وجعلت الوجد يحتوي البعد تارة أخرى. أليس في ذلك حُسن تصرف باللغة؟

هل هذا التصرف هو لعب مجاني؟ يبقى لكل قارئ أن يحكم ذوقيا على جمالية هذا اللعب، فيُقبل عليه أو ينفر منه.

واللعب اللغوي، لدى المتمرسين به، لا يقع في الافتعال والتكلف والتعقيد. وإنما، على العكس من ذلك، يتجلى متكيفا مع الحالة أو الموقف أو الانفعال أو غير ذلك من العوامل أو المنطلَقات. نتوقف عند هذا البيت لابن الرومي:

وما لطْمُ بعضِ الموج في البحر بعضَهُ

بمانعهِ  تغريقَ   من   هو  راكبُهْ

كلمات الشطر الأول، كما لا يَخفى على القارئ المتبصر، تنتظم في علاقات تنمّ عن حركة شبيهة بحركة الموج المتلاطم. بتعبير آخَر، الشطر الأول هو نقلٌ لحركة التلاطم من البحر إلى اللغة. إلى مثل هذا يؤدّي اللعب اللغوي، إلى جعل الطبيعة حيّة في اللغة. والأمر لا يقتصر على ذلك، بل يمكن للعب اللغوي، أي لحُسْن التصرف باللغة، أن يعبّر عن أقوى المشاعر وأعمقها، حتى وإن كانت مشاعر الأسى والتفجع، كما في القصيدة الشهيرة لابن الرومي، التي يرثي بها ابنه الأوسط، ومطلعها:

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدي

فجودا فقد أودى نظيركما عندي

يصح القول إن العمل الأدبي هو كيان لغوي، وإن جمالياته تنبع من حسن التصرف باللغة

لا يسعنا القول إن اللعب اللغوي مناف للتعبير الصادق عن المشاعر والمواقف والتصورات. قد يكون كذلك في بعض حالاته، التي مر ذكرها. ولكنه، إذ يكون طريقة فريدة في حُسن التصرف باللغة وفيها، يتجلى مضمخا بالتجارب الحية، بل يطلِق هذه التجارب في فضاءات جديدة، ويمنحها دلالات لم تكن لها من قبل. وقد عُرف عن أبي تمام الكثير من ذلك. فما يُنسَب إليه من إكثار في استخدام وسائل البيان والبديع ينضوي في نسيج الطريقة اللغوية التي تفنّن في إرسائها. لنذكرْ له هذا البيت:

راحٌ  إذا  ما الراحُ   كنّ  مطيَّها

كانت مطايا الشوق في الأحشاءِ

ولنذكرْ له أيضا هذه الأبيات في وصف الربيع:

مطرٌ يذوب الصحو منه وخلفَهُ

صحوٌ يكاد من النضارة يمطرُ

غيثانِ فالأنواء غيثٌ ظاهرٌ

لكَ وجهُهُ والصحو غيث مضْمَرُ

يا صاحبيَّ تقصّيا نظريْكما

تريا وجوهَ الأرض كيف تُصوَّرُ

تريا نهارا مشمِسا قد شابَهُ

زهرُ الربى فكأنما هو مُقْمِرُ

ألا يبدو اللعب اللغوي في هذه الأبيات أساسيا في تشكيل الرؤى وفي ابتكار الصوَر؟

 shutterstock

وكما في الشعر، كذلك في النثر. فالتجارب الفذة في التراث الأدبي تشهد على تجارب لغوية بالغة التميّز، أنتجت أساليب فريدة عُرف بها أصحابها. فلو أخذنا على سبيل المثل كتاب "كليلة ودمنة"، الذي نقله ابن المقفع إلى العربية عن مصادر هندية وفارسية، ألا نستطيع القول إن لغة ابن المقفع هي التي أعطت الكتاب مكانته العالية؟ فابن المقفع أعاد تأليفه في العربية، فكان مؤلفا أكثر منه ناقلا أو مترجما. ولا يتسع المجال هنا للكلام بالتفصيل على ناثرين آخرين شكلوا ظواهر فنية، لكلٍّ منها طابع لغوي فريد. من هؤلاء الأدباء الناثرين الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والنفري وبديع الزمان الهمذاني... وهذا على سبيل المثل لا الحصر.

 كنا في القديم. أما في الحديث، فقد شكّل الهم اللغوي في حركات التجديد الشعرية، وخاصة في مطلع القرن العشرين وفي منتصفه، محورا أساسيا احتضن غيره من المحاور الفكرية والعاطفية والوطنية والقومية... وما إلى ذلك.

ولكن، بعد مرور أكثر من سبعين عاما على انطلاقة الشعر العربي الحديث، نلاحظ اليوم _ كما أشرنا في مستهلّ هذه المقالة _ أن الهم اللغوي يتراجع، بل يتوارى لدى كتّاب الشعر، أو لنقُلْ لدى معظمهم. وهذا الأمر ينعكس ضعفا واضحا في معظم الكتابات الشعرية في أيامنا هذه.

ندَع الكتابة الشعرية قليلا، ونذهب إلى الكتابة الروائية، فنقول إنّ الهم اللغوي في هذه الأخيرة تراجع أيضا، بالنظر إلى ما كان عليه في الربع الأول من القرن العشرين، عندما انطلقت الروايات العربية الأولى، وكذلك في ما تلا هذه الانطلاقة من مراحل يمكن للدارس تتبُّعها وتصنيفها والحكم عليها.

تراجع الهم اللغوي في الكتابات الروائية العربية التي تطالعنا هذه الأيام، إلى درجة باتت معها "السلامة" اللغوية أمرا نادرا.

 التمكن اللغوي هو الذي يهيّئ للأديب إمكانات التجديد في مختلف النواحي

ومن الطريف، أو الغريب، في هذا الأمر أن بعض الكتّاب لا يجدون حرَجا في أن تكون رواياتهم مليئة بالأخطاء اللغوية، وبالصياغات الضعيفة. وكأن ضعفهم في هذا المجال يمكن أن تغطيه "قوّة" في الموضوع أو الأفكار أو الشخصيات أو الحبْكة... أو غير ذلك.

لا أدعو هنا إلى أن يكون الأديب صاحب خطة لغوية عندما يكتب. ولا أريد للهم اللغوي أن يكون مفتعَلا لدى الأديب. فاللغة الأدبية لا تكون نتاج تدبُّر أو مكابدة. ما أريده أن يكون الهم اللغوي أساسيا ومحوريا في الأدب، ولكن على نحو تلقائي. فالأديب المتمكّن يدرك أن العمل الأدبي هو كيان لغوي في الدرجة الأولى. والتمكن اللغوي هو الذي يهيّئ للأديب إمكانات التجديد في مختلف النواحي والاتجاهات.

font change

مقالات ذات صلة