واشنطن - لعل أحد المبادئ الأساسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) هو مفهوم التدخل العسكري الإنساني. وغالبا ما تعاملت هذه السياسة مع المآسي الإنسانية، ليس داخل أوروبا فحسب، بل وأيضاً خارج حدودها التقليدية.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك في الشرق الأوسط عملية الحلف، التي شنها في ليبيا في 31 مارس/آذار عام 2011. فقد اتخذ حلف شمال الأطلسي إجراءات ضد القوات الموالية للزعيم الليبي معمر القذافي، عن طريق دعم جوي كبير للفصائل المسلحة المعارضة لحكمه، مُظهرا بذلك مكانته كطرف أمني عالمي فاعل ومؤثر. تدخل التحالف عسكريا في ليبيا لحماية المدنيين والمناطق التي سيطر عليها المتمردون من قوات القذافي والقبائل المؤيدة له، بل وبدون مشاركة الولايات المتحدة، أكبر قوة عسكرية في العالم. وفي غضون خمسة أشهر فقط، مكنت القوة الجوية لحلف شمال الأطلسي المتمردين من السيطرة على العاصمة طرابلس.
في مقابل ذلك، لم يتدخل حلف شمال الأطلسي في غزة لوقف الحرب أو لإنشاء قوة لحفظ السلام لتحقيق الاستقرار في القطاع، في سيناريو ما بعد الحرب.
واتهمت المحكمة الجنائية الدولية رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه وكبار قادة "حماس" بارتكاب جرائم حرب، ما يضع بنيامين نتنياهو ويحيى السنوار بين القادة سيئي الذكر بسبب بارتكابهما أعمالا شنيعة ضد الإنسانية. وطالب المدعي العام كريم خان بإصدار مذكرات اعتقال بحق الرجلين وأخرين من طرفي الحرب في مايو/أيار.
وكان تركيز المدعي العام على الغارة التي شنتها "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي اقتحم خلالها مسلحون جنوب إسرائيل، مما أدى إلى مقتل حوالي 1200 شخص واحتجاز حوالي 250 رهينة، وكذلك على الرد العسكري الإسرائيلي الوحشي في غزة.
اقرأ أيضا: نتنياهو والسنوار ... شخصنة النصر على ركام غزة
أثَرتُ مسألة عدم تدخل "الناتو" في غزة في مقابلة حصرية مع مساعد الأمين العام لحلف "الناتو" للشؤون السياسية والسياسة الأمنية السفير بوريس روج. وأجريت المقابلة على هامش قمة الحلف شمال في واشنطن العاصمة، أثناء الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه. وسيطرت الحرب الروسية-الأوكرانية على جدول أعمال القمة وغالبية المؤتمرات الصحفية وكلمات وتصريحات الحلفاء. وجاء سؤال غزة خارج المقرر.
شغل السفير روج في السابق منصب نائب رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، وسفير ألمانيا لدى المملكة العربية السعودية، ومدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الألمانية في برلين، ونائب رئيس بعثة السفارة الألمانية في واشنطن العاصمة.
لقد كانت المآسي الإنسانية محركا رئيسيا لسياسة حلف شمال الأطلسي على مر العقود في العديد من المناطق التي مزقتها الحروب. وما زالت الحرب في غزة مستعرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وشُرد مئات الآلاف، ويعاني الملايين من ظروف إنسانية قاسية لا توصف.
ويقول السفير روج إن الصراع في غزة يمثل معضلة جيوسياسية وعسكرية-استراتيجية ودبلوماسية وقانونية، واصفا الأمر بأنه معقد كما كانت الحال مع سوريا.
وفيما يلي نص الحوار:
*كيف يمكن لحلف شمال الأطلسي أن يتدخل من جديد في الشرق الأوسط وفي حرب غزة تحديدا على غرار تدخله في ليبيا على أساس التدخل العسكري لدواع إنسانية؟
-من المهم أن نفهم أن التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في ليبيا كان يستند إلى إطار قانوني دولي، وتحديدا قرار مجلس الدولي. ودعم ذلك التدخل مناشدات مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية. ولن يتدخل الناتو بدون هذا الأساس. وينطبق الشيء نفسه على أفغانستان، حيث صدر قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
منذ عام 2014، بعد الغزو الروسي الأول لأوكرانيا، والأهم من ذلك منذ عام 2022 مع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، أعاد "الناتو" التركيز على الردع والدفاع الجماعي في أوروبا. وعندما حدث التدخل في ليبيا في عام 2011، لم يكن التهديد الروسي بارزا كما هو اليوم. فبعد أكثر من عقدين من الزمن، حين لم يكن الدفاع الجماعي في أوروبا محور التركيز الرئيسي، بتنا اليوم في وضع اتخذت فيه المادة الخامسة، التي تتعلق بالدفاع عن أراضي حلف شمال الأطلسي ضد العدوان الروسي المحتمل، ذات أهمية قصوى. وهذه النقلة تعني أن قدرة الحلف على المشاركة في ما كان يُطلق عليه سابقا "العمليات خارج النطاق" باتت أقل.
وفوق ذلك إن لحلف شمال الأطلسي حاليا مهمة في العراق، وهي مهمة تدريب للأفراد العسكريين وقوات وزارة الداخلية، ولكن فكرة قيام حلف شمال الأطلسي بالتدخل الإنساني في الشرق الأوسط تبدو غير محتملة إلى حد كبير. بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ أن نتذكر أنه لا يوجد بين حلفاء "الناتو" الاثنين والثلاثين موقف موحد بشأن القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وفيما يتمتع الاتحاد الأوروبي بمستوى معين من الإجماع حول هذه القضية، فإن منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تضم عددًا أكبر من الأعضاء وطيفاً أوسع من الآراء، تفتقر إلى مثل هذا القدر من الإجماع، وهو ما يزيد من تعقيد إمكانية تدخل حلف شمال الأطلسي في المنطقة.