حرب إسرائيل النفسية على لبنان... إنذار بالاشتعال؟

يعكس المشهد تناقضات متزايدة ويستدعي رواية سياسية أكثر ثباتا

شاترستوك
شاترستوك
مبرمج إسرائيلي يستخدم الذكاء الاصطناعي لبدء حساب جديد

حرب إسرائيل النفسية على لبنان... إنذار بالاشتعال؟

بيروت- تتمادى الحرب النفسية الّتي تشنّها إسرائيل ضد لبنان، مشددة الحصار النفسي على اللبنانيين بحيث ألغى مغتربون رحلاتهم الصيفية إلى لبنان ولجأت عائلات للقاء أبنائها المغتربين في بلدان مجاورة، دون التخلص من هاجس العودة في حال ضُرِب مطار بيروت الدولي الذي يشكّل حجر الأساس للدعاية الإسرائيلية السارية- ليس أوّلها مقال صحيفة "التلغراف" البريطانية- مشفوعة بتكتيكها الحربي في حرب يوليو/تموز 2006.

وقد يختصر الفضاء الافتراضي عبثية الواقع لدى اللبنانيين، وهم يتناقلون "كوميكس" يسأل فيه أحد المغتربين: هل المجيء إلى لبنان آمن؟ والإجابة هي: "لا" على "إكس"، و"نعم" على "إنستغرام"، في انعكاس للفرز المستمر، بين لبنان يعيش ولبنان آخر يعايش الموت.

هكذا ركّزت الحرب النفسية النقاش اللبناني في التجهز للحرب، دون أن تبدّد الحيرة من أمر حدوثها، ودون أيضا أن يلين الانقسام حول خوض "حزب الله" هذه الحرب منذ اشتغال جبهة المساندة، بل إن الحديث عن وشك وقوع حرب شاملة صلّب المواقف الأولية، التي يمكن التقاطها بوضوح في مقاطعة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى للقاء رؤساء الطوائف مع أمين سر الفاتيكان.

والحال، يعكس المشهد اللبناني والروايات الأمنية تناقضات متزايدة، وهي بالتالي تستدعي أكثر من أي وقت سابق رواية سياسية أكثر ثباتا، لمعالجة السؤال: هل الحرب النفسية تمهيد للحرب العسكرية الشاملة، أم إنها مجرد تخويف ممن لا يريد، أو لا يستطيع شن حرب عسكرية على لبنان؟

هدف الحرب النفسية

يرى نائب مديرة معهد كارنيغي للشرق الأوسط، مهند الحاج علي، في حديث لـ"المجلة"، أن الحرب النفسية ضد لبنان مرتبطة بنوعية الردع عند إسرائيل، ويُعرف بـ"عقيدة الضاحية" أو "كيّ الوعي". والغاية منه وقائية، فمن خلاله تعمد إسرائيل إلى تخويف الخصم من تدمير شامل وهائل، في حال أقدم على تنفيذ عملية حربية ضدها.

وعبر "المجلة"، يقترح محلل الشؤون الجارية، الصحافي مالك جدع، تعريفا شموليا للحرب النفسية، وهو غير منفصل عن سياقها الخاص، كونها "أنشطة تجعل الخصم يشعر بالخوف، وتهدف إلى إضعاف معنوياته وتصميمه على القتال، ويمكن أن تشمل الدعاية والتهديدات والمعلومات المضللة".

ويستشهد بدعاية صفحة "الموساد" الموثقة بالعلامة الزرقاء، التي تظهر في حسابات "فيسبوك" اللبنانية، مع وسم "اتصل بنا، نحن هنا لنستمع إليك" ويتابعها أكثر من 23 ألف مستخدم: "تحمل هذه الصفحة هدفا مزودجا. من يقفون وراءها قد يضعون في أذهانهم بالفعل هدف تجنيد الأشخاص الذين يتحدثون إليهم، وقد يكون الهدف أيضا التأثير نفسيا على (حزب الله) والأجهزة الأمنية اللبنانية من خلال دفعهم للتساؤل عما إذا كانت هذه الصفحة تديرها بالفعل المخابرات الإسرائيلية، وتنجح في تجنيد لبنانيين".

ركزت الحرب النفسية النقاش اللبناني حول التجهز للحرب، دون أن تبدّد الحيرة من أمر حدوثها، وأيضا دون أن يلين الانقسام حول خوض "حزب الله" هذه الحرب

ولا يحصر مالك جدع تبعات الحرب النفسية في التضليل، بحيث يمكنها أن تهدف مباشرة لقلب موازين عسكرية... "أحد أعظم الأمثلة التاريخية للحرب النفسية، نفذها الحلفاء ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وأبرزها في عملية الثبات الشمالية عام 1943، حيث استخدم الحلفاء جيشا مزيفا وبثا لاسلكيا لإرباك الألمان، ودفعوهم للاعتقاد بأن الغزو الكبير سيقع في النرويج ومنطقة بادو كاليه (منطقة في فرنسا) بدلا من نورماندي".

الهشاشة اللبنانية

يستدعي تحليل هذه الحرب العودة ولو بشكل سريع إلى أبرز عوارضها، وتحديدا قنواتها السيبرانية، في بلد يحل في المرتبة 109 من أصل 182 دولة وفق تقرير مؤشر الأمن السيبراني العالمي لعام 2020، في مواجهة إسرائيل التي تشغل المرتبة 36 عالميا.
ويعلق مهند الحاج علي أن أدوات الحرب النفسية إلكترونيا، متاحة بغزارة على تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا التي تملكها "ميتا"، وهي مملوكة من شخص مؤيد لإسرائيل، وينشط عليها لبنانيون بشكل يومي، وفي مقابلها فيديوهات مخادعة لـ"حزب الله"، غير أنها تعكس استجابة محدودة مقارنة بالإمكانات الإسرائيلية.

الجيش الاسرائيلي
المتحدث العسكري الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي

في الاتجاه نفسه، يوضح الخبير في الأمن السيبراني رولان أبي نجم، لـ"المجلة"، أن "الحرب بين إسرائيل ولبنان غير متكافئة على كل الأصعدة، وخصوصا أن لا سيادة سيبرانية للبنان، وإن جرى تقييم أمنه السيبراني، فهذا على صعيد الأحزاب المحلية التي تستثمر بحسب أولوياتها جزءا من مواردها، أو قد لا تستثمر، في حماية أمنها. وليس جديدا القول إن (حزب الله) هو الأكثر تقدما على هذا الصعيد، لكن تبقى إمكاناته ضعيفة جدا قياسا بإسرائيل، بدليل وقوع اغتيالات ضمن مجتمع ومناطق الحزب وكوادره. وأزمة "حزب الله" جزء من كل لبناني، يعاني انهيار المؤسسات والقضاء وغياب المناعة الأمنية، وأقرب مثال هو قرصنة شاشات المطار في يناير/كانون الثاني الماضي، ولا توجد حتى الساعة رواية لبنانية رسمية للحادثة، رغم انطلاق التحقيقات منذ 6 أشهر".
ويختبر لبنان منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول اختراقات ذات صلة في تطبيقات إلكترونية، حيث انتشرت في الشتاء الماضي صور لشبان إسرائيليين على تطبيق المواعدة "تيندر" في لبنان، والإشارة إلى أنهم متاحون على بعد كيلومتر واحد، كما لاحظ سائقو "أوبر" في بيروت، في الآونة الأخيرة، أن كل المستخدمين وجهتهم المطار.
ينسب أبي نجم هذه الظواهر إلى "تشويش إسرائيلي لنظم تحديد المواقع (GPS) في لبنان، والأهم فيه ليس الحرب النفسية، بقدر ما يهدف إلى رد تقني على (حزب الله) لتعطيل عملياته، بعدما استخدم الحزب في بداية الحرب صواريخ دقيقة تعمل على (GPS) لإصابة أهداف إسرائيلية".

الدعاية والدعاية المضادة

الشريك المؤسس لمنصة "صواب" لتدقيق المعلومات، الصحافي فؤاد بو غادر، يتناول عبر "المجلة" أدوات "الأخبار الزائفة والدعاية الإسرائيلية، والتي تلازم تفوقها على قدرة منصات تدقيق المعلومات في ملاحقتها. نرصد عشرات الدعايات الكاذبة يوميا منذ 7 أكتوبر، وأهم حساباتها موجودة على (إكس)، التي لا تفرض شروطا صارمة لتحديد هويات المستخدمين أو مواقعهم. وتكثّفت الدعاية منذ يونيو/حزيران الماضي، تتخللها أخبار تظهر وتغيب عن سحب قوات (اليونيفيل) من جنوب لبنان، وفيديو لآلاف اللبنانيين الذين يغادرون المطار، وهو يعود إلى 2 سبتمبر/أيلول 2023... فيما يواصل حساب (إيدي كوهين) التخويف من اجتياح لبنان، تزامنا مع خبر كاذب لـ"رويترز" يقول إن إسرائيل ستجتاح لبنان خلال 48 ساعة، وقد اختبرنا جراء هذا الخبر عبر خطوطنا الساخنة والزملاء موجات هلع لبنانية لعلها الأكبر منذ اشتعال جنوب لبنان، الأمر الذي يشي بمسار تصعيدي مدروس لهذه الحرب النفسية".

أزمة "حزب الله" جزء من كلٍ لبناني، يعاني انهيار المؤسسات والقضاء وغياب المناعة الأمنية، وأقرب مثال هو قرصنة شاشات المطار في يناير الماضي

ويستدرك: "قد تكون المعلومة والحضور الإلكتروني الإسرائيلي غير كاذبين، مثل صفحة "إسرائيل بالعربية"، أو تصاريح أفيخاي أدرعي، وغيرها، ولكنها أيضا تضبط إيقاعها ضمن الدعاية الإسرائيلية. تعرف إسرائيل كيف تجند دعايتها، وتخرق نقاط الضعف اللبنانية، فهي تستثمر في ذاكرة الحرب، وتعلم بافتقار اللبنانيين لثقافة التحقق من المعلومات".
استنادا إلى مضمون وتقنيات الدعاية الإسرائيلية المستخدمة، والتي ستكون جزءا من تقرير شامل ستصدره "صواب" مع "تحقق" الفلسطينية و"مسبار" التي تغطي المنطقة العربية، يجد بو غادر أن البروباغندا الإسرائيلية تهدف في حيز كبير إلى تعميق الانقسامات اللبنانية، الأمر الذي يفاقم الضغوط الداخلية ضد "حزب الله" من الأطراف التي تتبنى شعار "لبنان لا يريد الحرب". 

رويترز
مشهد عام لميناء حيفا

من ناحيته، يعتبر مالك جدع أن "فرص الهجمات العسكرية من إسرائيل قد تكون أقل في أوقات ذروة هذه الحرب النفسية بسبب غياب عنصر المفاجأة، لكن هذا لا يعني عدم إمكان اندلاع الحرب في أوقات لاحقة. علاوة على ذلك، فإن التأثير على معنويات (حزب الله) قبل الهجوم العسكري يمكن أن يفيد إسرائيل أيضا".
ويشرح: "إن ردود فعل مسؤولي (حزب الله) ضد الحرب النفسية تحاول إظهار أن الحزب يعرف ما تحاول إسرائيل القيام به، وأن حربها النفسية لم تنجح في تخويفه، كما تعمل على طمأنة اللبنانيين بأن الأمور تحت السيطرة. لكن ردود الفعل العامة هذه لا تعكس بالضرورة الواقع، فالفيديوهات الأخيرة التي نشرها الحزب تشير إلى أنه لم يعد مطمئنا كما كان من قبل، لأن الردع هو الهدف الرئيس وراءها. وقد يكون التغيير المحتمل في سلوك (حزب الله) مرتبطا بالتحذيرات التي أطلقها مسؤولون أوروبيون وأميركيون بشأن خطورة التهديدات الإسرائيلية".

القرار بالحرب

المؤكد إذن، ولأسباب ودلائل غير مفاجئة، تمكّن إسرائيل من الحرب النفسية في مقابل ضآلة ردود "حزب الله". لكن لا يمكن إسقاط نفس المعادلة على القرار بتوسع الحرب. بمعنى أن الإرادة بحرب شاملة على لبنان لا تمتلكها إسرائيل بنفس قوة امتلاكها للحرب النفسية، بينما "حزب الله" ثابت في موقفه الأولي القاضي بتجنّب حرب شاملة، ولكنه جاهز لها في حال وقوعها.
يدعم هذه الخلاصة نائب مديرة معهد كارنيغي للشرق الأوسط، مهنّد الحاج علي، منطلقا في فهم الحرب النفسية من الداخل الإسرائيلي، فـ"الغاية منها تصب أخيرا في مساندة المجهود السياسي، وتحديد أهداف سياسية تحقق انعكاسات ميدانية ضمن الحرب العسكرية".
ويتابع: "داخليا، تختبر إسرائيل ضغطا متزايدا على جبهة الشمال. وفي الوقت الذي يطالب فيه مواطنون شماليون بالعودة إلى مناطقهم، تعرض الحكومة الإسرائيلية حسومات بنسبة 91 في المئة لجنود الاحتياطي لترغيبهم في استملاك الأراضي شمالي إسرائيل. وليست هذه التداعيات هامشية بالنسبة لإسرائيل التي تتمتع باقتصاد وممارسة ديمقراطية متقدمين".
ويضيف: "على صعيد الحرب مع لبنان، تنسجم الحرب النفسية اليوم مع سياق المفاوضات الجارية مع هوكشتاين، وإسرائيل لا تتوسّع في حرب لا تؤيدها أميركا. الحرب النفسية بالتالي تصب في محاولة إسرائيل لفك الارتباط بين الحرب في لبنان والحرب في غزة، والتوصل لشروط وقف إطلاق نار مقبولة للجميع".
أخيرا، يستبعد الحاج علي أن تؤثر حرب إسرائيل النفسية على قرار "حزب الله"، خصوصا أن "الحزب يرفض فك ارتباطه بالحرب في غزة. كما أن الحزب لديه مناعة عالية تجاه معاناة اللبنانيين، وهو مثل حركة حماس الذي تتخطى مناعته الحرب النفسية، بل هو قادر على التعايش مع هول المجازر والإبادة والدمار الشامل. ترجح هذه العناصر عدم انحسار المعارك من طرف حزب الله".

font change

مقالات ذات صلة