تخيّل أنّك تعيش في طابق من ثلاث شقق، وتعرف أن ساكن الشقة الثالثة يكره وجودك في جواره، يكرهك بسبب أصلك أو لون بشرتك أو انتمائك الديني والفكري، وكلّ ذلك بعذر أنه ابن الأرض الأصيل الأبيض، ومن هذا العذر تنبثق أعذار أخرى، تعود كلّها إلى منطلق أول هو أنك غير مرغوب فيك.
هذا ما يمكنك تصوّره عن شكل الحياة في فرنسا وقد صار عدم الرغبة بوجودك يتأسس عليه برنامج سياسي كامل لمحاصرتك كمواطن أو مهاجر أو لاجئ، وهو برنامج يشترك فيه ثلث سكان البلد، أو الناخبون الذين يذهبون ليدلوا بأصواتهم الرافضة لوجودك في صناديق الانتخابات.
قد لا يكون رفض وجودك هو السبب الوحيد لتأييد هؤلاء المصوّتين، فبعضهم يذهب من أجل وعود بخفض أسعار المواد الغذائية ووقف ارتفاع تكلفة الغاز والكهرباء أو خفض سن التقاعد وتقليل الضرائب، إلا أن جميعهم، الثلث المصوّت، يدركون أنهم ذاهبون للتصويت لحزب يرى أن الفرنسيين من أصول أجنبية لا يحق لهم أن يتمتعوا بمواطنة كاملة، فلا يحق لهم أن يعملوا في إدارات سياسية عليا أو غيرها، وبالتالي فإن صعود شخصيات إلى مناصب وزارية مثل ريما عبد الملك ورشيدة داتي ونجاة بلقاسم يعد من الخطأ ويجب أن يصحح بقانون أو دستور جديد.
لا تقتصر المسألة على هذه الدعوة السياسية الصريحة من قبل متطرفي اليمين، بل تشمل عشرات الممارسات الاجتماعية التي تفوح بالعنصرية
ولا تقتصر المسألة على هذه الدعوة السياسية الصريحة من قبل متطرفي اليمين، بل تشمل عشرات الممارسات الاجتماعية التي تفوح بالعنصرية المقيتة، كرسم إحدى المجلات للنائبة البرلمانية السوداء دانييل أوبونو، المولودة في الغابون، على هيئة عبدة، على رقبتها طوق من الحديد، أو كتصريح لعضو في مجلس وطني محلي دعا فيه إلى "طرد المغتصبين الأجانب" معتبرا إيّاهم "أقل من البشر" متماثلا مع شعارات النازية القديمة.
هناك أيضا من يوصفون بالنازيين الجدد من اليمين المتطرف، ويقومون بتنظيم تظاهرات بموافقة قضائية، يشارك فيها مئات يرتدون ملابس سوداء ويرفعون شعارات فاشية إيطالية وصليب "سلتيك" الذي استخدمه النازيون.
كلّ ذلك يحدث في وقت تستعد فيه باريس لبدء الألعاب الأولمبية التي سبقتها، هي أيضا، حملة عنصرية ضد الفنانة آية ناكامورا، وهي من أصل مالي، بعد نشر أخبار عن مشاركتها في حفل افتتاح الألعاب (26 يوليو/ تموز).
وإذا كان من اللافت في الديمقراطية الفرنسية وصول ابنة المخيمات الفلسطينية ريما حسن إلى عضوية البرلمان الأوروبي عن حزب "فرنسا الأبية" اليساري، حيث جالت في حملتها الانتخابية وبعدها بالكوفية الفلسطينية، إلاّ أنّها ظلت تتلقى التهديدات والسخرية والمضايقات عبر الوسائط الاجتماعية والرسائل النصية بشكل صار معتادا لديها.
هذا التوجه اليميني المتطرّف لم يأت من خلال تصرفات شعبوية عفوية وإنما صارت له مؤسساته المالية والإعلامية التي ترعاه وتروّج له، كما هو الحال في دعم إمبراطور الإعلام الفرنسي فانسان بولوريه لجوردان بارديلا، زعيم التجمع الوطني اليميني المتطرف، عبر صحفه وقنواته التلفزيونية وأبرزها "سي نيوز" CNews.
عادة ما تثار عبر هذه القنوات والصحف مواضيع الخوف من الإسلام (إسلاموفوبيا) والإرهاب، وانتشار الحجاب الإسلامي وموضوع الاندماج، حيث يكرّس اليمينيون فكرة أهمية الاندماج بالثقافة الفرنسية وليس التنوع الثقافي كما هو حال بريطانيا.
صحيح أن بعض سلوكيات بعض السكان من أصول مهاجرة، أو بعض المهاجرين واللاجئين، ارتبط بانتشار المخدرات والجريمة والخروج عن القوانين العامة، إلا أن هذا ليس مبرّرا للتحريض ضد المواطنين من أصول أجنبية، خاصة أن هناك من يعيد هذه الممارسات إلى سياسة الاندماج. لكن ممارسات جماعة متطرفة مثل "بلاك بلوك" اليسارية تبقى في محل اتهام بأنها جزء من هذا المجتمع، فيما هي تظن أنها بممارستها لبعض مظاهر الاحتجاج العنيف تعبّر عن رأيها ضد توجهات السلطة الرأسمالية و"العولمة" والقوانين.
استطاع تحالف اليسار إعاقة وصول حزب اليمين المتطرف إلى السلطة لكنه لم يستطع إعاقة تنامي صعوده خلال عقد من الزمن
مع هذا، تبقى فرنسا المختلفة عن هذا الثلث الانتخابي المتطرّف، وقد استطاع تحالف اليسار ومعه أحزاب الوسط واليمين التقليدي إعاقة وصول حزب اليمين المتطرف إلى السلطة في انتخابات سابقة ولاحقة، رئاسية وبرلمانية، لكنه لم يستطع إعاقة تنامي صعوده خلال عقد من الزمن، حيث ازداد عدد المنتمين إليه أكثر من الضعف، فمن أربعة ملايين في انتخابات 2017 إلى أكثر من عشرة ملايين صوت في الدورة الأولى لانتخابات 2024، قبل أن يتراجع قليلا في الدورة الثانية، مع بقائه في الدرجة الأولى من حيث عدد الأصوات، وإذا كان حاز 89 مقعدا في برلمان 2022 فإنه قد حصل على 143 مقعدا في الانتخابات الأخيرة، واستطاع أن يعقد تحالفا مع أعضاء من حزب اليمين الكلاسيكي (الجمهوريون)، في تراجع واضح، من قبل هؤلاء، عن خط شارل ديغول وجاك شيراك.
نتائج الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية الأخيرة عدّها البعض بمثابة "صفعة" لليمين المتطرف، لكن السؤال يبقى عن الوقت الذي سيظل فيه أثر هذه "الصفعة" فاعلا، إذا ما انفك التحالف الكبير الذي شارك فيها.
فالدستور والقوانين الضامنة التي تحمي حق المساواة صارت محل نقد من قبل المتطرّفين، وتتضمن الوعود الانتخابية تغييرها، وهو ما يمس بوضوح شعارات فرنسا الكبرى المتمثلة بالحرّية والمساواة والأخوّة، وهي الشعارات التي أنتجها الفكر الفرنسي الحديث، الذي صار كثيرون، من غير حاملي الهويّة الفرنسية، يعتبرون أنهم ينتمون إليه أكثر من الفرنسيين أنفسهم.