فادي أبو خليل الشاعر الذي قرّر أن يختفيhttps://www.majalla.com/node/320751/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%82%D8%B1%D9%91%D8%B1-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D8%AE%D8%AA%D9%81%D9%8A
فجأة، قبل نحو عقدين من الزمن، اختفى الشاعر والمسرحيّ اللبناني فادي أبو خليل. من كانوا يعرفونه استغربوا ذلك، ولكن استغرابهم ذاك لم يكن كاملا وصاعقا. كأنهم وسط مفاجأة اختفائه الاختياري وجدوا له عذرا، بل وجد بعضهم أن الاختفاء ما كان ليكون غريبا لو حدث يوما ما وها هو قد حدث.
الشاعر اللبناني الذي كان يظهر في مقاهي شارع الحمراء في بيروت كل يوم تقريبا، لم يقرّر أن ينقطع عن الحضور إلى هناك فحسب، بل قرر التواري نهائيا. هكذا ببساطة من يقرر التوقف عن التدخين مثلا.
لم يكن فادي أبو خليل شاعرا فقط، بل كان صحافيا وممثلا ومؤلفا ومخرجا مسرحيا أيضا. عمل في التلفزيون وشارك في بعض الأفلام. قدم أدوارا في المسرح، وقام بإخراج بعض المسرحيات بنفسه، ولكن كل ذلك لم يكن يُخفي الإحساس الأول الذي يمنحه لمن يلتقيه، وهو أنه على عجل أو أنه جالس معك ولكنه مستعد للمغادرة في أي لحظة. كان ذا مزاج نابض وحيوي، بينما توحي لغة جسده بالتذمر والسأم وعدم الراحة، إلى جانب توق مستمر ومتصاعد إلى إنجاز شيء ما أو الانخراط في مشروع ما، حتى لو كان المشروع دعوة إلى سهرة في حانة قريبة مساء، أو مجرد جولة في سيارته بجوار البحر أو حتى الذهاب معه إلى منزله في منطقة الأشرفية.
كان يجد نوعا من المتعة في تصريف مزاجه ونظرته إلى العالم والأشياء داخل مساحات الكتابة
كان فادي سهل الصداقة ولطيف الرفقة، ولكنه كان في الوقت نفسه سريع الضجر وصاخب الحضور. كان يبدو متسرعا وضجرا، كأنه في سبيله لحرق شيء ما والتخلص منه، أو ربما الانقضاض على شيء ما، أو الانتهاء سريعا من أمر ما والبدء بشيء جديد ومنعش وغير ممل. أصدقاؤه ورواد المقهى الذين كان ينضم إليهم، كانوا يشعرون أحيانا أنه بعد جلوسه بقليل يستعد للمغادرة. كان جلوسه قلقا وغير مستقر، كشخص على أهبة المغادرة. وهو ما حصل فعلا، إذْ أنه لم يعد يُرى في شارع الحمراء ومحيطه، ولم يعد يرد على الاتصالات. اختفى تماما.
كان المزاج المتذمر والحيوي والصاخب حاضرا في قصائده أيضا. القصائد التي غالبا ما هي قصيرة ومختزلة في سطرين أو ثلاثة، أشبه بإشارات برقية يرسلها شخص ليس لديه الوقت ولا المزاج للشرح أو الاستطراد أكثر.
كانت طريقته في تقديم نفسه تشبه طريقته في الكتابة، بل كان حاضرا في كتابته جسديا ونفسيا. كان بطل قصائده الأوحد تقريبا، وكان يجد نوعا من المتعة في تصريف مزاجه ونظرته إلى العالم والأشياء داخل مساحات الكتابة التي كانت، على ما يبدو، تقدم له فرصة ثمينة للتنفيس والخلاص من الضجر والروتين.
من يقرأ قصائد فادي أبو خليل سينتبه بسرعة إلى أنها قصائد شخصية، وأن الكتابة كلها كانت بالنسبة إليه أمرا شخصيا. هي كتابة شخص عاش الحرب الأهلية، وصّنف واحدا من شعراء جيل الحرب مع أسماء مثل يحيى جابر وشارل شهوان ويوسف بزي وغيرهم. عاش بدايات السلم الأهلي في التسعينات من دون أن ينجح في تقبّل ذلك والاعتياد عليه. وكثيرا ما كان يقول إن زمن الحرب كان أجمل. كانت بيروت منقسمة إلى منطقتين شرقية وغربية يفصل بينهما خطّ تماس، وكان أبو خليل يستمتع بنزوله من "الشرقية" حيث يقيم إلى "الغربية". لعله كان يجد متعة وتحديا أن يُفارق منطقته بشكل يومي تقريبا، وأن يصنع انتماء ذاتيا إلى منطقة أخرى كانت لوقت طويل معادية لمنطقته. فهناك المقاهي والجرائد واليسار السياسي والتنوع الاجتماعي، والحياة نفسها أكثر صخبا وتنوعا. لقد كتب تلخيصا لكل ذلك في قصيدة من سطرين: "أحسدُكَ على الحياة في الغربيّة/ هل قال لك أحدٌ هذا من قبل؟".
شكّلت الكتابة، إلى جانب المسرح والتمثيل، طريقته في تقديم نفسه. فكان شديد الشبه بقصائده، بمزاجه في الكتابة، بمزاجه في الانوجاد في مجتمعات المثقفين الضيقة التي تتلخص بجلسات المقهى نهارا والحانة ليلا. كان مجرد النزول إلى شارع الحمراء نوعا من التنفس والمواظبة على العيش، وقد تحول ذلك إلى نوع من الروتين أو الإدمان، إلى حد أنه كتب ذلك في قصيدة بعنوان "الحمرا"، وفيها يفكر أن يكسر هذا الروتين ويمتنع عن النزول إلى الشارع الشهير، ولكنه سرعان ما يشعر بـ"رُهاب" البقاء في البيت، ويبحث عن مفاتيح سيارته كي يذهب: "لن أنزل اليوم/ حتى لو تفاقم الوضع/ وعُثر عليّ خائرا/ لن أشرب شيئا/ أو أُشعل سيجارة أحد/ ثم أناقش في السياسة/ لا لن/ لن أقف على الناصية مُضيّعا وجهتي/ كما كتب مرة محمد العبد الله/ آه ولن أتفرّج على الواجهات/ مُنزّها قدميّ في الهواء/ مُصطدما بالرصيف/ لن/ فرأسي يُؤلمني و .../ مهلا.. مهلا، أين المفاتيح؟".
أصدر أبو خليل ثلاث مجموعات شعرية هي: "غيوم طويلة.. إني أتذكر"، "لا شيء تقريبا"، و"فيديو". وكان لافتا وقتها أن يختار عنوانا مثل "فيديو" لديوان شعر. كان ذلك إيحاء آخر على تفكير شعري مستقبلي. على محاولة تجريبية لتخليص القصيدة من البلاغة والفصاحة والغنائية الدارجة، وعلى أخذ الكتابة بجدية مخلوطة بالخفة والتجريب والسخرية والنكتة حتى. في مقدمته للديوان، كتب ما يشبه بيانا شخصيا في الكتابة: "تُلهمني المباشرة، أن أرى نفسي أتكلم مباشرة، بواسطة الشعر أو شاشة الفيديو. وأن أُورد مثلا في هذا الكتاب 'عبثا هكذا على كرسيّي' هو أن أتحول إلى مذيع تلفزيوني، مساء الخير.. وإلى اللقاء. ففي الحالين متعة المباشرة واحدة". في نهاية البيان كتب أيضا: "وأن تُقيم في الصورة المباشرة (في الفيديو) كمن يقوم بريبورتاج خرافي مع نفسه".
لعل هذا يفسّر بوضوح ما كان يريده من الكتابة؛ أن تقطع الصلة إلى حد ما بصورة الشاعر القديمة وببنية القصيدة نفسها، وأن تفسح الكتابة المجال لحضور صورة أحدث وأكثر راهنيّة للشاعر، صورة أكثر شبها به وهو يعيش الواقع اليومي العادي. أن تكون "ريبورتاجا" تُسرد فيه حياة الشاعر العادية وتفاصيل يومياته. بالنسبة إليه، في مدينة مثل بيروت خارجة من حرب مدمرة، كان لا بد أن يحضر الدمار والحطام في الكتابة ذاتها وفي صورة الشاعر نفسها. كان ينبغي أن ينكسر شيء جوهري في الأدب كله. وهو ما ظهر في نتاج الكثير من الكتاب اللبنانيين بعد الحرب، ومن هؤلاء أسماء من جيل فادي أبو خليل نفسه.
غالبية نصوصه الشعرية كانت قصيرة وقصيرة جدا. فهي شذرات ومقاطع مكتوبة بقوة اللحظة والارتجال تقريبا. بطريقة ما، كانت تلك المقاطع تبدو تعليقات سريعة وفورية على الحياة اليومية وعلى مجريات السيرة الشخصية، وعلى مناخات الحرب الأهلية التي حطمت بديهيات كثيرة. بالنسبة إليه كان جزء أساسي من الكتابة هو أن تكتب نفسك ومزاجك. أن تثبّت اللحظات المنقضية في شذرة. أن تؤرّخ ما يحدث حتى لو كان يحدث فقط في المخيلة.
قصائد أبو خليل محاولة تجريبية لتخليص القصيدة من البلاغة والفصاحة والغنائية الدارجة
لقد أراد فادي أبو خليل أن يُدخل صورته ومزاجه في السينما والمسرح إلى قصائده. وقد نجح في كثير من مقاطعه الشعرية أن تبدو نوعا من الأداء، بل من الأداء الحي والمباشر أيضا. لنقرأ مثلا مقطعا بعنوان "ويمبي": "غالبا ما أعبرُ باتجاه الرصيف/ آتيا من الرصيف المقابل/ لأُعاود الكرّة". وفي مقطع آخر: "لو أفيضُ ككأس/ فلا يبقى أثرٌ فيه". كان "الويمبي"، مع "كافيه دو باري" و"مودكا"، المقاهي التي يتردد إليها الشاعر، مُغرقا نفسه في روتين مدينيّ متواصل، ولعل سببا جوهريا في قراره الاختفاء والتواري، هو أن هذه المقاهي أغلقت وتحولت إلى مطاعم ومحلات لبيع الملابس. لقد فقد الشاعر أمكنته، وكان ينبغي – بطريقة ما – أن يغيب مع أمكنته المفضّلة.
"لستُ البطل/ ولا ظلّ لي/ في هذا الفيلم"، هكذا كتب الشاعر في مستهل ديوانه "فيديو". نقرأ المقطع، ويخطر لنا أن الشاعر نفسه كان يتوهم أنه يعيش في فيلم، وأنه في لحظة ما قرر الخروج منه. الفيلم، الذي هو حياة الشاعر، لا يزال يُعرض، ولكن الشاعر نفسه غادر الفيلم. لقد فعل ذلك بطريقة من يلعب الغمّيضة، وقد كتب ذلك أيضا في واحد من مقاطعه: "لم يبقَ سوى اللعب/ إذن هيّا..".
يبدو أن اللعبة مستمرة، ولكنّ أحدا لم يعثر على اللاعب حتى الآن.