هل نجحت "يورو 2024" في مراوغة التطورات السياسية؟

الأتراك حولوا مباريات بلدهم إلى تظاهرة لإثبات حجم وجودهم في المدن الألمانية

 أ ف ب
أ ف ب
لاعب المنتخب الفرنسي مبابي بعد خسارة فرنسا المباراة نصف النهائية ضد إسبانيا في ميونيخ في 9 يوليو

هل نجحت "يورو 2024" في مراوغة التطورات السياسية؟

في وقت تعيش خلاله أوروبا صيفا قد يغير مسارها لعقود قادمة خاصة مع ما سينتج عن استحقاقاتها الانتخابية من تحولات، ربما ظن البعض أن كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم قد تكون استراحة من حسابات السياسة والبحث في ما يواجه أوروبا من تحديات تخيم على مستقبلها. لكن أحداث البطولة لم تفوت الفرصة لإظهار تقاطعات لم يكن من الممكن تفاديها بين عالم الكرة وواقع الاختلافات السياسية والاجتماعية داخل المجتمعات الأوروبية.

ألمانيا التي احتضنت البطولة باحثة عن استعادة مجد كروي ضائع في السنوات الأخيرة وجد منتخبها نفسه في قلب سجال لم يختره بنفسه هذه المرة. مشهد اللاعبين الذين يمثلون المنتخب الألماني من أصحاب البشرة السمراء أو الأصول غير الأوروبية لم يعد بالغرابة التي كان عليها عندما كان جيرالد أسامواه أول لاعب مولود في أفريقيا يمثل ألمانيا في آخر بطولة كبرى استضافتها البلاد تحديدا في مونديال 2006، لكن الجدل الذي ثار حول إشارة من إصبع مدافع الفريق أنطونيو روديغر في صورة له بقميص المنتخب أظهر أن ثمة ما يكمن من إرث الماضي خلف الوجه الذي تريد ألمانيا تقديمه للعالم من خلال تلك البطولة.

سبابة روديغر -المولود لأسرة تنحدر جذورها من سيراليون- التي ارتفعت في الصورة، دفعت بعض الكتاب والسياسيين الألمان لاعتبارها إشارة لتوجهات إسلامية للاعب ريال مدريد، الذي اضطر قبل أشهر لإصدار بيان يشرح فيه للإعلام أن الصورة التي نشرها على "إنستغرام" بالحركة نفسها لتهنئة متابعيه بحلول شهر رمضان لا تتخطى حدود ما هو متعارف عليه في دينه، ثم واصل الدفاع عن نفسه خلال البطولة واصفا الحركة ذاتها بالاحتفال الذي يصدر عن عشرات من أقرانه اللاعبين.

الجهد الذي بذله المدافع الأسمر في شرح موقفه وبداية ألمانيا الجيدة في البطولة ربما ساعدا في الحد من تداعيات تلك الأزمة، لكن حجم ما بدا وكأنه مطاردة من إعلام الدولة المستضيفة لأحد أبرز لاعبي منتخبها لم يكن متسقا مع الدفاع عن حرية التعبير التي قال لاعبو ألمانيا إنها كانت ما دفعهم لتكميم أفواههم في صورة شهيرة قبل أولى مبارياتهم في مونديال قطر قبل عامين والذي غادروه بخفي حنين من الدور الأول.

الأعوام الثمانية عشرة بين مونديال 2006 ويورو 2024 على الأراضي الألمانية لا يبدو أنها غيرت الكثير في العلاقة بين لاعبي المنتخب الفرنسي وقوى اليمين المتشدد التي صعد نجمها مؤخرا في صناديق الاقتراع. وربما تبدو العلاقة بين اسمي "تورام" و"لوبان" تجسيدا لهذا التراشق العلني المتواصل منذ سنوات بين المعسكرين.

تورام الأب هو ليليان بطل العالم في 1998 وثاني أكثر من لعبوا مباريات بقميص المنتخب الفرنسي، والذي صرح خلال مونديال 2006 قائلا: "تحيا فرنسا، ولكن ليس فرنسا التي يريدها السيد لوبان"، في إشارة إلى زعيم "الجبهة الوطنية" وقتها جان ماري لوبان الذي أعرب لسنوات عن استيائه من تشكيل المنتخب الفرنسي المكون من أغلبية ساحقة "لا تردد النشيد الوطني" على حد تعبيره، من أبناء المهاجرين أصحاب البشرة السمراء والأصول المختلطة بين شمال وغرب أفريقيا وجزر الكاريبي التي ينحدر من إحداها تورام.

ألمانيا التي احتضنت البطولة باحثة عن استعادة مجد كروي ضائع في السنوات الأخيرة وجد منتخبها نفسه في قلب سجال لم يختره بنفسه هذه المرة

 المنتخب الذي يمنح أبناء الضواحي والمناطق الفقيرة الأمل في أن ترتسم صورة أحدهم على قوس النصر كما حدث مع زين الدين زيدان يوما ما، ليس المثال الذي يراد له تصدر العناوين في فرنسا التي يريدها يمين لوبان. ونجاحات الفريق الفرنسي على مر السنوات لم تجسر الهوة بين ما يمثله كلا الجانبين في المجتمع، خاصة في لحظة حالية يواصل فيها الفريق البحث عن التتويج الأوروبي بالحدة نفسها التي يحاول بها تيار أقصى اليمين الانقضاض على فرصة الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات العامة.

ربما لم يكن ليليان الأب يتوقع وقتها أن نجله ماركوس لن يرث فقط موقعه في المنتخب وقميصه رقم 15، بل سيرث أيضا أزمة الفريق الفرنسي مع صعود اليمين المتطرف. وتماما كوالده كان ماركوس واضحا في مطالبته بضرورة الاتحاد لمنع قوى اليمين المتشدد- الذي تقوده الآن مارين ابنة جان ماري لوبان- من الوصول إلى السلطة. تورام الابن لم يكن وحده من علق على نتائج الانتخابات الفرنسية بل حول لاعبو فرنسا مؤتمراتهم الصحافية خلال كأس أوروبا إلى منصة شبه دائمة لدعوة الناخبين للتصويت ضد القوى اليمينية والتصدي لما يرونه خطرا على المجتمع الذي أتوا منه، مدعومين بتصريحات من قائد الفريق كيليان مبابي المولود في ضاحية باريسية لأب كاميروني وأم جزائرية، والذي يمكن تلخيص تأثيره في المجتمع الفرنسي في حقيقة أنه تواصل شخصيا مع رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون لإخطاره بقراره الانضمام لنادي ريال مدريد بعد البطولة.

فنيا على أرض الملعب لم يقدم المنتخب الفرنسي عروضا مبهرة حتى الآن في كأس أوروبا، لكن "انتصار الشعب" كما وصفه لاعب الفريق أوريليان تشواميني في تغريدة تتغنى بالعودة القوية لتيار اليسار في الجولة الثانية من الانتخابات العامة قد يكون الهدف الأبرز الذي سجله لاعبو فرنسا هذا الصيف، تأثير حملة اللاعبين الفرنسيين على جولة الإعادة في انتخابات بلادهم قد لا يكون أمرا تستطيع استطلاعات الرأي السياسية رصده، لكن النتائج ربما تعزز نظرة هؤلاء اللاعبين لدورهم كحائط صد بتأثيرهم على الجيل الشاب في مواجهة تطورات سياسية قد تعيد خطر انقضاض تيار لوبان على السلطة إلى الواجهة.

لم تكن فرنسا وحدها التي واجهت صراعا من الماضي خارج الملاعب في "يورو 2024"، فعدد من منتخبات البلقان وجدوا أنفسهم في دائرة الضوء رغم المردود الفني المتواضع مقارنة ببقية الفرق المشاركة. الشعارات التي تنادي بقتل الصرب التي رددها مشجعو كرواتيا وألبانيا في مباراة جمعت الفريقين في دور المجموعات دفعت الاتحاد الصربي للتهديد بالانسحاب من البطولة إذا لم يتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات بحق المنتخبين. بدا في لحظة من لحظات الدور الأول في هذه البطولة وكأن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى لجنة انضباط متفرغة لشكاوى منتخبات تلك المنطقة من بعضها البعض بسبب الشعارات القومية التي رفعها المشجعون والتي يعود أغلبها للحرب اليوغوسلافية في منتصف التسعينات. العقوبات طالت صربيا ومشجعيها الذين رفعوا خريطة لصربيا تضم دولة كوسوفو داخل الحدود الصربية، مثلما طالت المنتخب الألباني لرفع مشجعيه خريطة تضم جانبا من أراضي الجيران الصرب إلى دولتهم. إلا أن كل الشعارات الحماسية تلك لم تترجم إلى أداء على الملاعب الألمانية، فخرجت الفرق الثلاثة من دور البطولة الأول دون بصمة تذكر. بينما تصدرت في المقابل قائمة الفرق المعاقبة لأسباب انضباطية في هذه النسخة، وسيكون عليها دفع مبلغ يتجاوز مجموعه نصف مليون دولار في صورة غرامات فرضها الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي سبق له أن استبعد يوغوسلافيا السابقة من نسخة البطولة نفسها عام 1992 بسبب اندلاع الحرب الأهلية التي أدت في النهاية لظهور بعض تلك الدول ككيانات مستقلة.

 أ ب
مشجع للفريق التركي قبل المباراة مع هولندا في 6 يوليو

الوجه الجماهيري الصاخب الذي قدمته "يورو 2024" مستفيدة من موقع ألمانيا في وسط أوروبا وسهولة تدفق الجماهير من أنحاء القارة مع كونها وجهة للمهاجرين من أنحاء العالم تجسد في ذروته في مباريات المنتخب التركي، الذي لعب مبارياته في هذه البطولة كفريق مستضيف من الناحية العملية. 

لم تكن فرنسا وحدها التي واجهت صراعا من الماضي خارج الملاعب في "يورو 2024"، فعدد من منتخبات البلقان وجدوا أنفسهم في دائرة الضوء رغم المردود الفني المتواضع مقارنة ببقية الفرق المشاركة

الأتراك الذين يشكلون أكبر جالية أجنبية في المجتمع الألماني حولوا مباريات بلدهم في كأس أوروبا إلى تظاهرة لإثبات حجم وجودهم في مختلف المدن الألمانية. وأزمة الهوية التي قد تولدها لدى البعض حقيقة أن المنتخب الألماني يحمل شارة قيادته لاعب من أسرة تركية هو إلكاي غوندوغان لم تكن عائقا أمام أقرانه من أبناء الجيل الثاني والثالث المولودين في ألمانيا في تعبيرهم عن انتمائهم لوطن الآباء بدعم منتخب تركيا الذي يقوده لاعب من مواليد ألمانيا هو هاكان تشاهانوغلو.

لكن الجدل الذي أثاره احتفال مدافع تركيا ميريح ديميرال بهدفيه اللذين تفوق بهما المنتخب التركي على النمسا في مباراة الدور الثاني خرج عن نطاق ما تتناوله برامج التحليل الرياضي، بل وصل إلى مستوى التراشق الكلامي بين بعض المسؤولين في ألمانيا وتركيا. وكالعادة في هذه النسخة من "اليورو" كانت الإشارة مرتبطة بحركات قومية يمينية وكانت هذه المرة تتعلق بحركة "الذئاب الرمادية" القومية التركية المحظورة في بعض الدول الأوروبية.

إيقاف ديميرال لمباراتين بقرار من الاتحاد الأوروبي رآه البعض في أنقرة استجابة لانتقادات جاءت مباشرة من وزيرة الداخلية الألمانية. والجانب التركي الذي يبدو متحمسا للبناء على المد الشعبوي الذي يمكن لكرة القدم أن تحفزه رد باستدعاء السفير الألماني وتغيير الرئيس أردوغان لخطط سفره ليكون حاضرا لمشاهدة مباراة ربع النهائي بين تركيا وهولندا وسط عشرات الآلاف من الأتراك الذين رفعوا أياديهم بملعب برلين الأولمبي بالإشارة ذاتها التي أوقف ديميرال بسببها.

 أ ب
مشجعو المنتخب الفرنسي في الدقائق الأخيرة للمباراة نصف النهائية ضد أسبانيا في 9 يوليو

الرسالة التي وجهها هذا المشهد في قلب العاصمة الألمانية ربما كانت قادرة على اختصار معاناة بطولةأمم أوروبا في أن تنأى بنفسها عن صراع سياسي وثقافي متعدد الطبقات يزداد تعقيدا داخل القارة الأوروبية. خاصة في ظل حضور بطل العالم مع ألمانيا في عام 2014 وصاحب الأصول التركية مسعود أوزيل للمباراة في المقعد الذي يلي مقعد الرئيس التركي، وهو الذي اختار أن يودع منتخب ألمانيا قبل سنوات مبررا قراره بخطاب احتوى عبارة قد تختصر المأزق الذي يعيشه جيله في أوروبا تقول: "عندما نفوز، أكون ألمانياً في نظر رئيس اتحاد كرة القدم، وعندما نخسر فأنا مجرد مهاجر".

font change

مقالات ذات صلة