"المجلة" تسجل شهادات ناجين من سجن "سدي تيمان" الإسرائيلي

اعتقل تل أبيب 6 آلاف فلسطيني خلال 9 أشهر من الحرب

 أ ف ب
أ ف ب
تجمع في رام الله في الضفة الغربية للمطالبة بالافراج عن الأسرى الفلسطينيين لدى اسرائيل في 9 يوليو

"المجلة" تسجل شهادات ناجين من سجن "سدي تيمان" الإسرائيلي

رفح- في 5 يناير/كانون الثاني الماضي، خرج الشاب فادي بكر من منزل عائلته غرب مدينة غزة رفقة ثلاثة شبان آخرين من أقاربه وأصدقائه بحثا عن الطحين أو أي مواد تموينية غذائية بعدما كانت الحرب في نهاية شهرها الثالث. مشى ما بين أربعة إلى خمسة كيلومترات حتى وصل منطقة تل الهوى جنوب غربي المدينة، حيث يوجد منزله وأسرته الصغيرة، صعد إلى المنزل وأخذ ذهب زوجته وبعض الحاجيات وأكمل طريقه باتجاه الجنوب حيث تمر شاحنات المساعدات المحملة بالطحين والمواد الغذائية.

يقول بكر (26 عاما): "المنطقة كانت خرابا، وأثناء انتظارنا نحن الأربعة سمعت صوت رصاصة أصابت شابا بجواري في الرأس، وقع ومات على الفور"، استمرت الطلقات النارية باتجاههم حيث أصابته في يده وأصابت رصاصة أخرى الشاب الثالث فيما قُتل رابعهم، وهربوا باتجاه المباني والمنازل المُدمرة فيما لحق بهم الجنود بدبابة إسرائيلية تطلق النيران باتجاههم.

اختبأ بكر خلف عمود إسمنتي أسفل عمارة قُصفت في وقت سابق من الحرب، فيما صعد الشاب الثاني على درج العمارة للأعلى، وصل الجنود وأطلقوا طائرة مراقبة صغيرة تستكشف المكان، بعدها صعد الجنود للأعلى وسط إطلاق نار كثيف قبل أن يهبط الجنود ويطلقوا النار باتجاهه، صرخ أحد الجنود الذي يتحدث العربية ليطالبه بالخروج، فرد عليه: "أنا متصاوب أنا متصاوب". أوقفوا إطلاق النار ووقف بصعوبة إثر إصابته برصاصتين، أجبروه على خلع ملابسه وطالبوه أن يدلهم على فتحة النفق التي خرج منها من تحت الأرض، بعدما صادروا مقتنياته من ملابس الشبان ومن بينها ذهب زوجته.

أخبرهم أنه مدني ويعمل محاميا في مؤسسة حقوقية، لكنهم لم يصدقوه وانهالوا عليه بالضرب وكرروا طلبهم، إلا أنه أكد على أنه لم يخرج من فتحة نفق وأنه مدني وذلك تحت سطوة بساطير الجنود الذين أمطروه بالضرب في كافة أنحاء جسده. كان قد مر أكثر من خمس ساعات وهو تحت التعذيب على الرغم من إصابته. وضع الجنود عصبة على عينيه وقيدوه من يده إلى طرف الآلية العسكرية واقتادوه إلى مكان قريب، حيث خضع لتحقيق أولي من قبل ضابط إسرائيلي سأله "وين فتحة النفق اللي طلعتوا منها إنت والشباب؟"، فأخبره أنهم حضروا من منازلهم على الطريق العام للحصول على الطحين والطعام، لم يصدقه وانهال عليه الجنود بالضرب.

عصبوا عينيه مرة أخرى وقيدوا يديه خلف ظهره ووضعوه فوق شيء لزج رائحته كريهة، فكوا العصبة عن عينيه فوجد نفسه فوق جثة نصفها متحلل، وأعاد الضابط السؤال ذاته مهددا إياه بالقتل إن لم يتعاون معهم. بكر الذي وضعه حظه السيئ والظروف الصعبة خلال الحرب وحاجة عائلته للطعام في منطقة تعتبر عسكرية وخطرة، لم يكن لديه ما يفعله سوى نطق الشهادتين والاستعداد للموت في أي لحظة، إلا أن الضابط قرر نقله إلى السجن لاستكمال التحقيق، عَلِمَ فيما بعد أنه سجن "سدي تيمان"، حيث يُعذب ويغتصب ويقتل المعتقلون من غزة.

مع تكدس السجون الإسرائيلية بالأسرى والمعتقلين الغزيين، أفرجت إدارتها عن بعض المعتقلين بعد الانتهاء من التحقيق معهم تحت التعذيب

واعتقل الجيش الإسرائيلي خلال تسعة أشهر من الحرب على قطاع غزة، أكثر من ستة آلاف فلسطيني من مختلف الأعمار والفئات ومن الجنسين، بحسب ما أفادت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، وكانت عمليات الاعتقال إما بشكل فردي أو جماعي حيث انتشرت عبر وسائل الإعلام عشرات الصور التي سربها جنود وضباط في الجيش الإسرائيلي لاعتقال المئات من الغزيين من بين شوارع وأزقة مُدن ومخيمات القطاع بعد تجريدهم من ملابسهم وإجبارهم على الجلوس على الأرض محنيي الرأس والظهر وأيديهم مكبلة خلف ظهورهم فيما العصبة على أعينهم قبل نقلهم إلى السجون الإسرائيلية المختلفة.

 أ ف ب
فلسطينيون أمام منازل مدمرة في حي التفاح في غزة في 8 يوليو

ومع تكدس السجون الإسرائيلية بالأسرى والمعتقلين الغزيين، أفرجت إدارة السجون الإسرائيلية عن بعض المعتقلين بعد الانتهاء من التحقيق معهم تحت التعذيب، حيث أفاد العشرات من المحررين من السجون الإسرائيلية خلال الحرب، بتعرضهم للضرب والتقييد لأيام وأسابيع والتعذيب بالكهرباء وتعرضهم للتحرش والاغتصاب، تحديدا في "سدي تيمان" الذي قضى المحامي بكر بداخله قرابة الأربعين يوما.
ويقع سجن "سدي تيمان" في صحراء النقب، وبالقرب من بئر السبع، حيث كان قاعدة عسكرية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي أسسها البريطانيون قبل الحرب العالمية الثانية، لكن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحولت القاعدة العسكرية إلى أكبر سجن لاحتجاز المعتقلين من قطاع غزة، وانتشرت حوله شهادات مروعة لم يسبق لها مثيل من عمليات التعذيب التي وصلت حد موت الأسرى أثناء التحقيق معهم، وآخرين بُترت أطرافهم فيما أصيب البعض بأمراض مزمنة كالفشل الكلوي.
عندما اعتقل بكر في "سدي تيمان"، لم يكن يعلم في أي من السجون هو، حتى بعد خروجه بعدة أشهر عندما تسربت بعض الصور للسجن وكثر الحديث حول الفظائع التي تمارس بحق المعتقلين الغزيين، وتأكد أنه كان هناك طيلة فترة اعتقاله. يقول: "كل إشي داخل السجن عبارة عن تعذيب وتنكيل تعرض له المعتقلون، ممنوع النوم، ممنوع الراحة، ممنوع الحديث مع معتقلين آخرين، فقط يجبرنا الجنود على الجلوس على الأرض واحنا معصوبي الأعين ومقيدين من اليدين خلف الظهر طول اليوم في ساحة السجن، وكان في 4 حضائر كبيرة كل واحدة منها تعذيب مختلف".
بعد يومين من اعتقاله داخل "سدي تيمان"، اقتاده الجنود إلى واحدة من الحظائر والتي يُطلق عليها "الديسكو"، وسميت بذلك لاحتوائها على سماعات كبيرة تصدر أصواتا موسيقية بصوت مُضخم لإصدار ضجيج يُجبر المعتقل على سماعه لساعات وأيام متواصلة، يقول: "جردوني من كل ملابسي ودخلوني الديسكو، الأرضية عبارة عن حصوة بيضاء تستخدم في تعبيد الشوارع قبل طبقة الإسفلت، أجبروني على النوم عاريا، تحت المطر وسلطوا تجاهي مروحة تضخ هواء باردا قويا، وخلف رأسي سماعة تصدر موسيقى صاخبة، أنا ما تحملت وصار في نزيف من أذني اليسرى".
أربعة أيام، أُجبر الشاب بكر على المكوث داخل حظيرة الديسكو، حيث تعرض للتعذيب الجسدي والنفسي وإطلاق الشتائم من الجنود، فيما كان أسوأ أنواع التعذيب حينها "وضعوا عصاية على الخصيتين مدة يوم ونصف وفوقها كان لوح خشبي ثقيل حتى أصبت بتضخم في الخصيتين أعالج منه منذ الإفراج عني وحتى اليوم". بعدما انقضت أيام الديسكو، أعادوه إلى غرفة التحقيق، حيث وجهت له اتهامات بالمشاركة في هجوم 7 أكتوبر والدخول إلى الأراضي المحتلة مع الفصائل الفلسطينية، وهو الأمر الذي نفاه بإثبات وجوده في أماكن مختلفة كان قد تصور حينها بالصدفة على هاتفه النقال، ويضيف: "سألوني عن بعض الأسرى وبعض الصحافيين وما كنت بعرفهم بشكل شخصي، قبل ما يرجعوني للتعذيب في حظيرة مختلفة لمدة 4 أيام أخرى".

يقع سجن "سدي تيمان" في صحراء النقب بالقرب من بئر السبع، حيث كان قاعدة عسكرية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي أسسها البريطانيون قبل الحرب العالمية الثانية

طيلة الفترة السابقة من الاعتقال، مُنع عنه الأكل والشراب، وبعد قرابة ثمانية أيام، سمحوا له بتناول قطعة صغيرة من خبز القمح ونصف خيارة، لينتقل بعدها إلى حظيرة جديدة للتعذيب، ويُطلق عليها "الحفاضات" حيث يُجبر المعتقل على ارتداء حفاضة تحت ملابسه قبل الدخول للتحقيق، وذلك بعد يومين من الانتظار وهو يرتدي الحفاضة. دخل بكر إلى قاعة التحقيق، جلس على كرسي مصنوع من الحديد والقماش، وأثناء الحديث معه غاب عن الوعي بسبب صعقة كهربائية قوية تعرض لها جسده... "فقدت الوعي ولما صحيت، لقيت في دكتور بلفلي رجلي الشمال بعد ما انفجرت من الأسفل، ومعتقل آخر انفجرت لديه الكلى أثناء التعذيب بالكهرباء".

أ ف ب
أطفال فلسطينيون قرب المباني المدمرة ووسط مياه ملوثة في خان يونس في 8 يوليو

حاول الضابط الإسرائيلي إجباره على استكمال التحقيق إلا أنه كان قد أُنهك جسديا بسبب التعذيب بالكهرباء، أعادوه لحظيرة الحفاضات، وفي اليوم التالي أخذوه وثلاثة آخرين من المعتقلين إلى حظيرة أخرى، حيث أجبرهم الجنود على الجلوس على الأرض على ركبهم بعد رفع العصبة عن أعينهم... "كانت أول مرة يفتحوا عن عنينا واحنا مع بعض كمعتقلين"، سحب الجندي واحدا من المعتقلين الأربعة وهو عاري الجسد، أجبروه على النوم على بطنه على أرضية من الباطون وهو مقيد اليدين والقدمين وأطلقوا عليه كلب "الكلب مارس الجنس مع المعتقل، وهو يصرخ أمامنا، ولا مرة حسيت بخوف تملك جسدي قد هديك اللحظات" يقول بكر.
ربما اللحظة الأكثر خوفا، كانت بعد انتهاء الكلب من المعتقل الأول وإشارة الضابط تجاه بكر وقوله: "يلا جهز حالك بعده"... "تمنيت الموت وأنا مقيد اليدين والأرجل وعاري الجسد، أفكار كتير دارت براسي نفسي أقتل حالي ومش عارف، لكن صار إشي بالسجن أعتقد حدث ما ورجعونا قبل ما يطلقوا الكلب تجاهي، يمكن رعاية إلهية مش عارف".
استمر حال بكر على هذا الحال، التنقل من حظيرة إلى أخرى تحت التعذيب، فيما كانت قدمه اليسرى قد انتفخت بسبب صعقة الكهرباء، وبعد عدة مرات طالبهم فيها بزيارة الطبيب فيما كان يتعرض للضرب والتعذيب بسبب طلبه المتكرر، انصاعت إدارة السجن إلى طلبه حيث دخل لإجراء عملية جراحية في قدمه وكانت دون بنج مُخدر، وعندما طلب منحه بعض البنج تعرض للضرب من جندي إسرائيلي بعصاه غليظة أسفل بطنه ومنعه من إصدار أي صوت... "حكالي: ممنوع تطلب، ممنوع تصرخ، ممنوع تتألم".

 


قضى بكر أيامه في سجن "سدي تيمان" حتى قرر الجيش الإسرائيلي إطلاق سراحه وآخرين في 22 فبراير/شباط عن طريق معبر كرم أبو سالم أقصى جنوب شرقي مدينة رفح، حيث كان الجيش قد فصل قطاع غزة إلى نصفين، وكانت زوجته وطفلته التي وُلدت خلال فترة اعتقاله في شمال القطاع بينما هو في الجنوب ممنوع من الوصول إليهما.
لم تكن شهادة بكر الوحيدة التي استمعت لها "المجلة"، حيث استمعت إلى ثلاث شهادات لمعتقلين آخرين فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، إلا أنهم أكدوا تعرضهم لتعذيب مشابه لما تعرض له المحامي بكر، أثناء فترة اعتقالهم، والتي اختلفت من معتقل إلى آخر، حيث وصلت فترة اعتقال أحدهم إلى أكثر من 80 يوما، فيما أكد أحد المعتقلين تعرضه للاغتصاب دون التطرق للتفاصيل، قائلا: "مش حابب أحكي بتفاصيل الاغتصاب، أنا كل يوم بفكر أموت حالي وأخلص من الدنيا".

لم تكن شهادة بكر الوحيدة التي استمعت لها "المجلة"، حيث استمعت إلى ثلاث شهادات لمعتقلين آخرين فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، إلا أنهم أكدوا تعرضهم لتعذيب مشابه لما تعرض له المحامي بكر

وسمحت السلطات الإسرائيلية في بداية يونيو/حزيران للمحامي خالد محاجنة، وهو يعمل مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية منذ قرابة 25 عاما، بأول زيارة محامي لمعتقل غزي في سجن "سدي تيمان"، حيث التقى المعتقل الصحافي محمد عرب من غزة، وهو معتقل منذ أكثر من 100 يوم، وقال: "روى محمد عن فظائع وشهادات تعذيب يتعرض لها المعتقلون داخل السجن، تبدأ من عدم منحهم أي أغطية أو وسادات للنوم، وتنتهي بتعرضهم للتعذيب بالكهرباء والاغتصاب".
وأشار إلى أن أكثر من 1000 معتقل داخل "سدي تيمان" جميعهم من قطاع غزة تم اعتقالهم خلال الحرب الحالية، يقضون اليوم وهم معصوبو الأعين ومقيدو اليدين طوال الـ24 ساعة، موضحا أنه يسمح لهم بالاستحمام لمدة دقيقة واحدة فقط، تفك خلالها القيود، لكن إن لم ينته خلالها يتعرض المعتقل للضرب، كما يمنع على المعتقل أن يتحدث مع معتقل آخر أو أن يلتفت يمينا أو يسارا... "كل حركة محسوبة على المعتقل وقد يتعرض للضرب بسبب أي حركة صغيرة".
كما يُمنع المعتقلون من ممارسة الشعائر الدينية مثل إقامة الصلاة أو إطلاق التكبيرات، وأفاد محاجنة على لسان المعتقل عرب أن المعتقلين داخل "سدي تيمان" يتعرضون "للاغتصاب والقتل والتنكيل بهم، وقرابة 6 معتقلين لاقوا حتفهم خلال الشهر الماضي بسبب شدة التعذيب ووحشيته". ويضيف: "خلال عملي على مدار 25 عاما، زرت  آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية كان هذا هو الأفظع والأصعب على الإطلاق".

font change

مقالات ذات صلة