عندما يخرج مؤيدو التيار الصدري في مظاهرة مليونية ما، فإن مشهدهم العام، وفي كل تفصيل فردي منه، يبدو وكأنه شيء متسرب مما كان يحدث قبل قرن من الآن، حين كانت الأيديولوجيات الصاخبة في أوج اندفاعها.
ثمة ما يمكن العثور عليه بكثافة في سلوك كل "صدري": حدة وزخم في الاندفاع، وغضب شديد ودائم، واستعداد للخضوع لآليات انتظام قاسية، وجاهزية للتجمهر بمئات الآلاف في كل حين ومكان. ومعها كلها ارتباك جذري في معرفة ووعي أسباب فعلهم وجاهزيتهم لكل ذلك. فما إن يسأل المرء واحدا من الصدريين: "لماذا أنت هنا وماذا تريد؟"، حتى يجد في جوابه وملامحه علامات الدوار الدهليزي.
قبل قرن، كانت هناك ثلاث جماعات شعبية وتنظيمات سياسية تفجر مظاهرات، مثل: شعوب مضطهدة واقعة تحت الاحتلال، تُخرجهم تنظيماتهم التحررية إلى الشوارع لمناهضة المحتلين، غارقين في روح وطنية فائضة. ومنها كذلك محرومون من أدنى طبقات السلم الاجتماعي والاقتصادي، يحملون حنقا تاريخيا رهيبا تجاه المهيمنين على حياتهم الذين كانوا يحتكرون الحياة نفسها، بكل مادياتها ورموزها وسلطاتها. بالإضافة إلى جماهير وأحزاب فاشية، متخمة بأيديولوجيات التفوق العرقي، من المطالبين والمتطلعين لهيمنة متخيلة على أمم وشعوب أخرى.
لا شيء من كل ذلك ينطبق على التيار الصدري ومؤيديه، بل العكس تماما يكاد أن يكون الصحيح. فالتيار الصدري مثلا ليس حركة تحرر وطنية، بدلالة انتفاء أية معضلة أو صراع حقيقي له مع الدولة الوحيدة التي تملك نفوذا وهيمنة فعلية على العراق، بل هو من أقرب حلفاء هذه الدولة ومن المستمعين الجيدين لـ"نصائحها".
والتيار الصدري لم يعد يمثل ملايين البائسين، كما كان يروج تقليديا. ليس فقط لأنه ظل حزبا مشاركا في كل الحكومات العراقية طوال العقدين الماضيين، وجزءا مما كانت تتقاسمه من مغانم مالية وسلطوية، بل لأنه أساسا لم يعد هناك بائسون حقيقيون في العراق، دولة الرعاية النفطية.
مع الأمرين، فإن الصدريين لا يمثلون أية طهرانية مناهضة لكل تعصب عرقي وطائفي، كما كانوا يصنفون أنفسهم أحيانا كثيرة كممثلين وحيدين للوطنية العراقية، والشهادات والدلائل على ذلك أكبر من أن تُعد.
حسب ذلك: ماذا يريد أنصار التيار الصدري حقيقة، بكل وضوح وبساطة، وكيف لحماستهم وزخمهم أن يبقيا حاضرين طوال كل هذه السنوات والتجارب. أي تحليل سياسي أو نظرية معرفية يُمكن لها أن تفكك وتوضح التدفق المتلاحق لأنصار الصدر، الذين لا يُمكن حتى لأي واحد منهم أن يُعبر ويدلل على أسباب انخراطه وزخمه الحماسي هذا؟
حتى ذلك المعطى الخلدوني التقليدي، الذي يفسر مثل هذه الظواهر على أنها مجرد "نزعة عصبية"، لا يمكن له أن يصح تماما في حالة الصدريين. فالعصبيات الغاضبة المليئة بالاستعداد للتدفق والتضحية، عادة ما تكون سلوكا سياسيا وجماهيريا تحمله الأقلية أو الجماعات التي تحسب بغبنٍ شديد ومتراكم من الجماعات الأخرى، فتشيد بالعصبية الداخلية كأداة لحماية الذات. وبعض جماعات "الأكثرية" حينما تنزع لعصبية، فإنها تفعله كشيء مؤقت، في لحظة ما من تاريخها، وليس كفعل تأسيسي ودائم في سلوكها السياسي والعام، كما يفعل الصدر ومؤيدوه، الأكثريون في كل تفصيل من المجتمع العراقي، طائفيا وعرقيا. سلطة وثروة.
إلى جانب كل تلك التفاصيل، فإن فاعلية الصدريين وشدة التحامهم بزعامتهم السياسية ومستوى استعدادهم الدائم والمطلق لطاعته والسير في خياراته، تتناقض جوهرا مع الخيبات السياسية المتراكمة التي أنتجها مقتدى الصدر، ومن يحيط به من نخبة سياسية، بحقهم أنفسهم. فالصدر أدخل جماعته في صراع طائفي دموي طوال أعوام الحرب الأهلية 2005-2008. الحرب التي كانت فعليا الأساس الذي فرخ تنظيمات عدمية متطرفة مثل "داعش". والصدر نفسه قاد ما سماها "مقاومة المُحتل"، ونشر أوسع أشكال الفوضى في العاصمة بغداد ومحافظات الجنوب، في وقت كانت الحكومة العراقية تقود فيه محادثات واضحة الملامح منذ عام 2006، كان معروفا أنها ستؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية، وهو ما حدث.
الصدر شارك في كل الحكومات التي يتهمها بالفساد، وشارك في كل اللجان البرلمانية التي صار يتهمها بالتخاذل عن مواجهة السلطات. ويطالب منذ سنوات بأن يكون السلاح محصورا بيد الدولة، وهو يملك جيشا مسلحا خاضعا لسلطته وحده (جيش المهدي)، يدخل البرلمان بأكبر كتلة نيابية، ثم ينحسب فجأة، يعلن مقاطعته المطلقة للعملية السياسية، ثم يتراجع عما تعهد به، وهكذا، ومؤيدوه يدفعون أثمان كل ذلك، صامتين ومصرين على تأييده بكل شكل وثمن.
فاعلية الصدريين وشدة التحامهم بزعامتهم السياسية ومستوى استعدادهم الدائم والمطلق لطاعته والسير في خياراته، تتناقض جوهرا مع الخيبات السياسية المتراكمة التي أنتجها مقتدى الصدر، ومن يحيط به من نخبة سياسية، بحقهم أنفسهم
بهذا المعنى، سلوك الصدريين- بسياقه وكل تفاصيله- ليس شيئا يُمكن رصده ووعيه وتفكيكه بأية نظرية أو أدوات تحليل تقليدية، الماركسية والليبرالية، وما بينهما وغيرهما. كل تلك المعارف التي تشيد رؤاها وتحليلاتها وتنبؤاتها السياسية على قاعدة وعي الإنسان نفسه. التي تتراوح أيديولوجياتها في فهم وتحديد الإنسان بين مستويين: كائن عقلاني من طرف، يستميت في سبيل مصالحه وسعادته، وكائن حالم متطلع، يتطلع لتحقيق معنى ما لحياته. حيث تراوحت تلك النظريات بين ذلكم المحددين لوعي الإنسان، وعلى أساس ميولهما لأي منهما يرسمان معارفهما السياسية.
مؤيدو الصدر، ومثلهم جماعات سياسية غير قليلة في منطقتنا، شاءت الظروف السياسية أن يكون الصدريون استعارة واضحة عنهم، يؤكدون أن ما يجري في منطقتنا لا يُمكن وعيه وضبطه إلا بالنموذج والسياق المحلي. فالصدريون مثلا هم تلك الجماعة التي تستميت في تبعيتها لزعيم ديني/طائفي/سياسي/عائلي، لا يفعل شيئا خلا الاعتراض على كل شيء، دون أن يتجرأ على تقديم وطرح أي شيء يسعى لإنجازه وتحقيقه، يعيشون عُصابا مستداما وشعورا رهيبا بالحنق، دون أن يكون ثمة ما يمس وجودهم السياسي أو المادي أو الرمزي، يفتقدون تماما لحس القياس والمساءلة رغم الخيبات الدائمة التي تصيبهم. مجموعة كبرى من الغضبة الدائمين، الذين لا يعرفون أسباب غضبهم، ولا يسعون في درب تفكيكه. مؤيدو الصدر شهادة واضحة على أن السياسة نفسها، وليس فقط الديمقراطية، هي وليدة تجارب المجتمعات الإنتاجية، وفقط الإنتاجية. وهل من دولة تبز العراق في البطالة.