لا تكفي الحملة الانتخابية الأميركية بين مرشحين متقدمين في السن للخروج باستنتاجات عامة عن معنى غياب الشخصيات الشابة عن واجهة المنافسة. الانتخابات الأخيرة في فرنسا وبريطانيا جرت بين أشخاص يعتبرون في مقتبل العمر مقارنة بالرئيس جو بايدن ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب.
ولعل أصغر "الزعماء" الذين كادوا أن يحتلوا المراكز الأولى في فرنسا هو زعيم "التجمع الوطني" غوردن بارديلا الذي يبلغ من العمر 29 عاما لكنه لم يحصل على الأصوات الكافية لدخول مقر رئاسة الوزراء الفرنسية في قصر ماتينيون الذي يشغله حاليا غابريال أتال البالغ من العمر 35 عاما.
على الضفة الشمالية من بحر المانش (أو "القنال الإنكليزية" بحسب التسمية البريطانية) حل كير ستارمر (61 عاما) مكان ريشي سوناك (44 سنة) في 10 داوننغ ستريت، حيث رئاسة الوزراء البريطانية. وعلى الرغم من أن عمر ستارمر تجاوز مرحلة الشباب، فإنه يبدو فتيا مقارنة بالمرشحين الأميركيين بايدن (81 عاما) وترمب (76 عاما).
قيل الكثير عن تقدم بايدن في السن وهفواته وزلاته وتراجع قدراته الذهنية. ولا شيء يضمن أن لا يصل ترمب إلى وضع مشابه بعد سنوات قليلة في حال انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. ذلك أنه ما من مسار حتمي أو اختياري لنوع المرض الذي يرافق شيخوخة أي منا وكيف يعاني في سنواته الأخيرة.
أعمار الحكام وارتباطها بقدراتهم على ممارسة سلطاتهم من الأمور التي يراقبها الناس منذ فجر التاريخ. وفي الوقت الذي تحدد فيه قوانين ودساتير بعض البلدان حدا أدنى لتعيين رئيس الدولة فيها، تترك مسألة تنحية الرؤساء كبار السن لمواد قانونية أقل صراحة تتحدث عن "العجز عن أداء المهمات"، وتربط الإقالة أو الإبعاد بإجراءات قانونية معقدة.
لكن ربما تكون الحملة الانتخابية الأميركية الحالية هي الأكثر تركيزا على موضوع العمر خصوصا بعد المناظرة التلفزيونية بين بايدن وترمب التي بدا فيها الرئيس الحالي مفتقرا إلى التركيز والقدرة على صوغ آراء واضحة.
أعاد كل ذلك إحياء التساؤل ليس عن اختيار الحزبين لمرشحين متقدمين في السن فقط، بل عن نضوج الساحة السياسية الأميركية لتقبل تغيير يسمح بالمشاركة الواسعة لشرائح متعددة من خارج منظومة الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، وفي منأى عن آليات الاختيار الحزبي التي تفرض حصول أي مرشح على تمويل ضخم من "الرعاة" الذين يحصلون في مقابل تبرعهم للمرشح على حق غير معلن وغير مباشر في توجيه سياساته إلى الوجهات التي تلائمهم.
أعادت المناظرة التلفزيونية التساؤل ليس عن اختيار الحزبين لمرشحين متقدمين في السن فقط، بل عن نضوج الساحة السياسية الأميركية لتقبل تغيير يسمح بالمشاركة الواسعة لشرائح متعددة من خارج منظومة الحزبين الكبيرين
وصول عملية اختيار كبار المرشحين والسياسيين في الولايات المتحدة إلى ما نشهده اليوم، استغرق أكثر من مئة سنة، تغيرت في أثنائها القيم التي تحكم الحملات الانتخابية. فعلى سبيل المثال كان الكذب إحدى الكبائر التي تطيح بالرؤساء الأميركيين، على غرار ما فعلت مع ريتشارد نيكسون الذي كذب بشأن دوره في التسلل إلى مقر الحزب الديمقراطي المنافس في "ووترغيت".
وفي تسعينات القرن الماضي، بدا أن الأميركيين باتوا أكثر تقبلا للكذب مع إنكار الرئيس بيل كلينتون لعلاقته بالمتدربة مونيكا لوينسكي، ثم اعترافه بها من دون أن يضطر إلى التخلي عن منصبه، رغم إجراءات العزل التي باشرها الجمهوريون.
أما ترمب الذي وصفه خصمه بايدن بأنه "مريض بالكذب" فلم يتعرض لأية محاسبة من جمهوره رغم وضوح أكاذيبه التي يثير بعضها السخرية من مثل أن الاقتصاد الأميركي في عهده مر بأفضل مرحلة في تاريخ الولايات المتحدة... لكن جمهوره راض بهذه الخرافات نظرا إلى شدة التنافس والانقسام السياسي الحالي من جهة، وبسبب التغير العميق الذي يعيشه المجتمع الأميركي الذي يتخلى تدريجيا عن قيم الصدق والإخلاص الموروثة عن الطهرانية البروتستانتية، وينتقل إلى نوع من البرغماتية المبتذلة حيث "الغاية تبرر الوسيلة" وفق أكثر التفسيرات ضحالة وخفة، وصولا إلى العمل على تحقيق الفوز والربح السريع وكيفما اتفق.
التغير في المجتمع الأميركي وقيمه ربما لم يصل بعد إلى المدى الذي يفرض تغييرا جذريا على أسلوب اختيار المرشحين، في ظل تزايد دور المال في تمويل المرشح "المناسب"، وفي الوقت الذي لم تتشكل فيه بالقدر الكافي القوى البديلة في مختلف ألوان الطيف الاجتماعي الأميركي.