احتمالات فناء البشرية مع صعود بارونات التكنولوجيا الجددhttps://www.majalla.com/node/320676/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B9-%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%AF
يعدّ كتاب المفكرة الأميركية من أصل إيطالي لوريتا نابليوني الصادر حديثا عن دار "سفن ستوريس بريس"، 2024 بعنوان "الرأسمالية التكنولوجية: صعود البارونات اللصوص الجدد والنضال من أجل الخير العام"، أطروحة في الفكر النقدي الذي يحلل الوضع العالمي من زاوية صعود الشركات الحديثة نحو قمم الثروة على حساب الشعوب والنتائج الكارثية المترتبة على ذلك والتي تهدد الوجود البشري على كوكب الأرض.
تتحدث المؤلفة عن ظاهرة جديدة تسمّيها "جائحة القلق" الناجمة عن عجزنا عن فهم الجديد والتكيّف مع واقع يتغيّر بسرعة تسبّب الدوار، حتى يمكن القول إن أدمغتنا غير قادرة على استيعاب هذا المستوى العالي من عدم اليقين، لأننا نعيش في "الحاضر المستقبلي"، حيث التقاطع بين ما يجري وما يمكن أن يجري في نطاق زمني تضيع فيه الحدود بين الحاضر والمستقبل. تعود المؤلفة إلى حياة أسلاف البشر الأوائل في عوالم خطيرة متقلبة مشابهة لحياتنا اليوم حين تزعزع يقينهم وكانت معرفتهم محدودة وعاشوا تحت رحمة نزوات التغيير، إلا أنهم تكيّفوا مع محيطهم وواصلوا حياتهم رغم الآلام والصعاب. غير أن المخيف، كما ترى نابليوني، هو أن الأدوات التي استخدمها البشر سابقا لم تعد ناجعة، والقيم الحامية لوجودهم وخاصة التضامن الإنساني، تبخرت، ودخلنا "طورا أنانيا في التاريخ" حتى صرنا في وضع لا نُحسد عليه، وصفه الروائي هاروكي موراكامي قائلا: "إن الجميع، في دخيلتهم، ينتظرون نهاية العالم“. عرّفتْ نابليوني الحالة الجديدة من البارانويا الوجودية التي نمرّ فيها بأنها "سياسة الخوف التي تقضي على المرونة الإنسانية بينما تكشف عن مستقبل يزداد سوادا ومليء بالأخطار التي يمكن فهمها ومواجهتها إذا تبنت البشرية خيارا عقلانيا يهدف إلى إنقاذ الكوكب".
عصر التشاؤم
تناقش المؤلفة العصر الجيولوجي البشري الجديد (الأنثروبوسين) وتصفه بأنه عصر التشاؤم، أي العصر الذي لم تعد فيه الطبيعة تقود التغيير، واستلم فيه المخلوق الفرانكنشتايني، الذي تقصد به الذكاء الاصطناعي، إدارة دفة الكوكب. إن هذا الوضع، بحسب المؤلفة، لم ينتج حتى الآن سوى القلق الشديد لأننا نركز بصورة رئيسة على السلبيات ولم يعد هناك إيجابيات تجعلنا نشعر بالأمل، حتى أن العيش لم يعد طيبا وضاقت فسحة الأمل، فالذكاء الاصطناعي يصل إلينا في الوقت نفسه الذي نفقد فيه الهواء النظيف، وتذوب الجبال الجليدية، وتختفي الحيود المرجانية ذات الألوان الجميلة، وتنقرض بالجملة عشرات الآلاف من الأنواع الحيوانية وتتبدل الفصول الأربعة وهكذا يصبح من الصعب تمييز أية مظاهر ممكنة للتحول التكنولوجي خارج ما يجري من سيطرة واحتكار بقصد زيادة الربح لقلة أنانية على حساب سكان العالم كلهم.
إن التكنولوجيا، بحسب لوريتا نابليوني، هي نتاج العصر الجيولوجي البشري الجديد ويمكن أن تساعدنا في تحقيق أهداف سامية إذا تحكّمنا بها لكنها ستُلحق بنا أذى شديدا إذا تم احتكارها. فالهدف النهائي لمن يسيطرون على التكنولوجيا الحديثة هو الربح لا غير، وتطرح مثلا على ذلك السيارات الكهربائية التي تستهلك جزءا يسيرا من الطاقة الهيدروكربونية بالمقارنة مع السيارات التقليدية، وتعتمد على الكهرباء التي تتولّد من طريق الموارد المتجددة. لكن هذا التقدم لا يساهم البتة في معالجة مشكلة إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية ذات التأثير الخطير إذ لا توجد حتى الآن آلية واضحة للتخلص منها. وبرهنت دراسات أُجريت في 2017 على أن إنتاج سيارة كهربائية واحدة يطلق نسبة من غاز ثاني أكسيد الكربون أعلى بـ 60٪ من السيارة التقليدية وذلك بسبب البصمة الكربونية للبطارية.
تتحدث المؤلفة عن ظاهرة جديدة تسمّيها "جائحة القلق" الناجمة عن عجزنا عن فهم الجديد والتكيّف مع واقع يتغيّر بسرعة
تضيف نابليوني أننا لم نعد نشعر بالطمأنينة في حياتنا اليومية، فالقلق والخوف يقودان خطانا، القلق من الغد وما يحمله والخوف من أن يأتي وقت نعجز فيه عن أن نعيش حياة كريمة. بناء على تحليلها يمكن للوضع القائم في العالم القول إن ملايين البشر يواجهون هذا الواقع القاسي ويدفعون ضريبته، ذلك أن إفلاس شخص في الشرق الأوسط أو جوعه يمكن أن يكون ناجما عما يجري في أوكرانيا أو مكان آخر، كما أن حرب غزة تخدم أهدافا خارج الجغرافيا التي تدور فيها والتي تُدمر بلا رحمة على رؤوس قاطنيها، ولقد عدّها الصحافي الأميركي كريس هيدجيز رسالة الشمال إلى الجنوب التي تقول: سنسحقكم إذا خرجتم عن طاعتنا. كما أن الأجور التي يدفعها الناس في الأمكنة كلها لتسديد فواتير الكهرباء والماء والغاز والهاتف والإنترنت والنظافة تذهب كلها إلى جيوب قلة من البشر. لقد انتهت الدولة، وفي الشرق الأوسط وغيره لم يعد هناك قطاع عام يحمي الفقراء، ذلك أن محتكري التقدم التكنولوجي، الذين تسميهم المؤلفة البارونات أو اللصوص الجدد، يعملون ليل نهار لعصر جثة العالم لفائدتهم الشخصية ولا يهم إن تفاقم التغيّر المناخي ودمرت الكوارث الطبيعية الكوكب.
سفر تكوين جديد
تصف المؤلفة هذه الظواهر كسفر تكوين جديد وُلد في مرحلة من التغير الفائق للعادة يؤدي فيها التسريع الاستثنائي للزمن إلى تقاطع الحاضر والمستقبل. وبما أن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يقرران خطْو التحول، فإن الانتقال يحصل بسرعة لا تُحتمل ذهنيا وعاطفيا ووجوديا بالنسبة إلى معظم الناس. وبما أن كل شيء يتغير فجأة، فإن أي فعل يبدو بلا فائدة، ويشعر معظم البشر بأن أي انجاز مقدّر عليه أن يصبح عتيق الطراز في رفّة هدب. إن لا جدوى الحاضر مقلقة بحيث أن القلق يشلّنا أحيانا، بحسب المؤلفة.
تتحدث نابليوني عن نقطة مهمة وخطيرة أيضا: الخوف من المجهول، فوباء كوفيد19 كان أحد الأحداث التي أطلقت ما سُمّي بظاهر القلق من الوباء، ويمكن تعريف المرض العقلي الناجم عن ذلك بأنه سلسلة من الأفكار السلبية يستحثها الخوف من المجهول. ربما كان القلق ناجما عن السرعة التي تتحطم بها اليقينيات الحالية وتنبثق الآفاق الجديدة. تعود نابليوني إلى التاريخ لأنه يمكن أن يساعد في العثور على الجواب الصحيح. تقول إنه في فجر أي تحوّل عظيم هناك دوما رؤيويون يعانقون المجهول، وهم أشخاص يدركون ما يحدث على نحو أسرع مما يستطيع غيرهم، ويساهمون أحيانا في إحداث تحول إيجابي تعود فائدته على المجتمع ككل، كما حدث حين قاد الاستغلال الصناعي للفولاذ إلى ولادة المدن الحديثة، ورغم أن الفولاذ استُخدم لصناعة الأدوات منذ أربعة آلاف سنة إلا أن "عملية بسمر"، التي كانت أول عملية صناعية غير مكلفة لإنتاج كميات من الفولاذ من الحديد الخام أحدثت ثورة حقيقية. كان مبدع هذه الطريقة هو هنري بسمر الذي حصل على براءة اختراع على هذه العملية في 1855. وتعتمد هذه العملية على إزالة الشوائب من الحديد من طريق أكسدتها بدفع الهواء في الحديد المنصهر، فتتأكسد الشوائب وترتفع درجة حرارة الحديد ويبقى منصهرا نتيجة الحرارة الناجمة عن الأكسدة. أدّى هذا إلى تحويل الفولاذ إلى إحدى أكبر الصناعات في العالم، فاستُخدم على نطاق واسع في بناء الجسور والسكك الحديد والآلات وناطحات السحاب. ولقد أثبت أنه فعّال في الولايات المتحدة الأميركية وانعكست الفائدة من وراء استخدامه على الجميع، رأسماليين وعمالا.
في هذا السياق تثني المؤلفة على أندرو كارنيجي الذي أحدث تحولا جعله أحد أغنى الرجال في التاريخ الأميركي، لكن ذكاءه لم يولّد الثروة الهائلة له ولعائلته فحسب بل حسّن أيضا حياة الناس الآخرين. وترى نابليوني أنه بصرف النظر عن الثروة التي يراكمها هؤلاء الرأسماليون إلا أن الإنجاز الحقيقي للرؤيويين الناجحين أثناء التحول العظيم هو مدى القفزة إلى الأمام في تقدم البشرية التي يساهمون بها.
الذكاء الاصطناعي يصل إلينا في الوقت نفسه الذي نفقد فيه الهواء النظيف وتذوب الجبال الجليدية
من دون هذا الوعي لتعميم الفائدة، يصبح من المقدّر على التقدم أن يكون مؤذيا للمجتمع، إما من طريق التفقير أو الاضطهاد وحتى الاحتيال والنصب، مثلما فعل سام بانكمان فرايد الذي أدار باحتيال تبادلات العملة المشفرة التي أدّت إلى خسائر فادحة في الوظائف والأموال بسبب الجشع. كما تنتقد المؤلفة شركات الأسلحة التي تقود السياسة وتعمل على إذكاء الحروب من أجل تأمين مصادر للتسويق قائمة على سفك الدماء، وتصل إلى نتيجة مفادها أن البارونات اللصوص، الذين يرأسون هذه الشركات، يختلفون عن الرأسماليين السابقين، بأن الأرباح والفوائد يجب أن تكون لهم وحدهم من دون منازع ولا شيء منها يُمنح لتحسين أوضاع الناس بعامة.
تاريخ التكيّف
تتحدّث المؤلفة عن التكيف التاريخي الطويل للنوع البشري في رحلته على كوكب الأرض وترى أنه لو لم يتغلّب فضولنا وحدسنا على خوفنا من المجهول لكان من المحتمل ألا تستمر حياتنا. فالفضول حيال ما يقع خارج مسكننا وحدود محيطنا والإدراك بأن هناك حياة أكثر غنى، هو ما حثَّ أسلافنا في العصر الحجري على التغلّب على مخاوفهم ومغادرة أمان أسرهم وقبائلهم. في هذا الوضع الذي نعيش فيه الآن، لا نختلف عنهم كثيرا بيد أن ما يغذّي قلقنا ليس الخوف من المجهول فحسب بل أيضا السرعة التي يتحوّل فيها الحاضر إلى مستقبل ويتغيّر الواقع ويُعاد ابتكاره مما يجعلنا كلّنا غير مهيئين للتعامل مع عالم تتحطم فيه اليقينيات بسرعة.
إن ما يحدث حاليا، بحسب نابليوني، هو أن بعض الرائين الجدد، وهم مجموعة صغيرة من المقاولين الأذكياء والمسلحين بالتكنولوجيا المتقدمة تمكنوا من توظيف سرعة التغيير لصالحهم وحصد الفائدة من الحاضر/ المستقبل بفضل احتكارهم للتطور. لقد فهم هؤلاء التكنولوجيا ووظفوها لصالحهم بدهاء لكنهم أساؤوا استخدام فائدتها الفريدة وألحقوا الأذى بالمجتمع في النهاية.
يشير الكتاب إلى وضع قانونيّ جديد يتسم بالغموض نجم عن هذه السرعة التي تنجز بها التكنولوجيا الحديثة الأعمال لصالح النخبة، وأدى إلى تشويش القوانين وصعّب الركون إليها وأدخلها في باب التأويل فصارت حمّالة أوجه بحيث يستطيع محامون بارعون الانتصار في أية دعوى على حساب العمالة غير المهيأة للتعامل مع تطورات سريعة كهذه. وهذا ما تفعله شركة "أمازون" من خلال تدمير سوق العمالة، وتفعله شركة "أوبر" التي نُظّمت تظاهرات وإضرابات ضدها من دون جدوى.
مجموعة صغيرة من المقاولين الأذكياء والمسلحين بالتكنولوجيا المتقدمة تمكنوا من توظيف سرعة التغيير لصالحهم
يسلّط الكتاب الضوء أيضا على إمكانات الذكاء الاصطناعي والدور الإيجابي الكبير الذي يمكن أن يلعبه إذا ما وُظّف بطريقة صحيحة، فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعدنا في استعمار الفضاء من طريق الروبوتات التي في وسعنا أن نديرها ونشرف على عملها من محطات فضائية في مدار أرضي منخفض من أجل تحسين حيوات الناس وإنقاذ الكوكب، غير أن الكاتبة ترى أن الذكاء الاصطناعي وقع في اليد الخطأ وهو موظف لخدمة الجيوب الخاصة، وهذا يتم في ظل سياسة الخوف التي تقود كل شيء على الكوكب، من الطرد البريدي الذي يصل إلى باب بيتك والسيارة التي تستجيب لهاتفك النقال وتوصلك إلى وجهتك، إلى الصاروخ الذي تطلقه المسيّرات.
تسلط بعض فصول الكتاب الضوء على استعمار الفضاء واختراع الأقمار الصناعية الصغيرة الذي فتح المجال لسباق استغلال الفضاء المنخفض التكلفة. فالأقمار الصغيرة يمكن أن ترصد إشارات لاسلكية يبثها كوكب الأرض، وهذا يعني أنه في حال حدوث كارثة يمكن أن تقدم معلومات أولية حول درجة تأثيرها وعن المناطق التي يمكن أن تتأثر أكثر من غيرها، مما يساعد في عمليات الإنقاذ والإغاثة، إلا أن ما يجري هو سباق من نوع مختلف للاستئثار بالفضاء من طريق ما تسميه المؤلفة "خصخصة الفضاء"، وخاصة مدار الأرض المنخفض الذي صار مكب نفايات وميدانا لتجريب الأسلحة من قبل روسيا والصين والهند والولايات المتحدة، بحيث أن هذه القمامة التي تجثم على كوكب الأرض تهدد الفضاء الأرضي برمته وتتميز بالتشظي وسرعة الانتشار الشديدة والتنقل بسرعة من مكان إلى آخر، بحيث أن أية مركبة فضائية مستقبلية سيكون عليها أن تعبر حقل ألغام أو مستنقعا من الأنقاض والحطام العائم في الفضاء كي تواصل رحلتها، هذا إذا نجحت في ذلك. ويبدو أن هناك محاولات منظمة لاقتسام الفضاء كأنه عقارات على الرغم من "اتفاقية الفضاء الخارجي" التي وقّعتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في 1967 والتي تمنع الأمم والأفراد من ادعاء ملكية الأجرام الفضائية أو السيادة عليها.